وفي النظرة الاولى لهؤلاء المنظرين فان اي ثورة في العالم ليست ظاهرة مستقلة عن ارادة القوى العظمى آنذاك وفي مقدمتها امريكا والاتحاد السوفيتي السابق , فالمنظرون الغربيون كانوا بصدد كشف ارتباط الثورة الاسلامية في ايران مع ارادة القوى العظمى والمعسكرين الشرقي والغربي , ولكن بعد مدة ادركوا انه لا يمكن تصور وجود مثل هذه الارتباط بخصوص الثورة الايرانية , وانما هذه ظاهرة فريدة نشأت للتصدي لمصالح الغرب والشرق, واكدوا ان الثورة الاسلامية تختلف عن باقي الثورات التي وقعت سابقا , ومن هذا المنطلق لم يكن لدى المنظرين الغربيين على الصعيدين التطبيقي والنظري اي تبرير وتفسير لهذه الثورة , فـ «ميشال فوكو» باعتباره منظر معروف على صعيد نظريات "ما بعد الحداثة" كان من بين هؤلاء الاشخاص الذين درسوا الثورة الاسلامية بشكل دقيق , وتوصل الى نتائج جديرة بالتأمل , فبعد زيارته لايران توصل الى نتائج لا تتطابق مع اي من افكار وعناصر ما بعد الحداثة وبقية العقائد الفكرية والفلسفية الغربية.
فالقيم المعنوية كانت عنصرا اعتمد عليه ميشال فوكو كثيرا بخصوص الثورة الاسلامية , فقد عرف فوكو مفهومي "المهدوية" و"الشهادة" باعتبارهما روحا في جسد الثورة , وفي حقيقة الامر فان القيم المعنوية والمبادئ المنبثقة منها شكلت روح الثورة الاسلامية.
ومن البديهي فان النظرة السامية للامام الخميني (رض) حيال النظام الدولي كانت لها دور رئيسي في بلورة واستمرار هذه الظاهرة.
وفي هذا السياق فان «تدا سكاتشبول» المنظرة الغربية المعروفة تعترف بفشل النظريات الموجودة بشان تفسير الثورة الاسلامية في ايران , وتقول : اذا كان بامكاننا ان نقول انه توجد ثورة في العالم نشأت بشكل واع بواسطة حركة اجتماعية جماهيرية لاسقاط النظام السابق , فمن المؤكد ان هذه الثورة هي الثورة الايرانية ضد الشاه.
وفي الحقيقة فان الامام الخميني (رض) بالاعتماد على مبدأ الاستقلال في ظل التوكل على الله تعالى , قد غير مسار وطبيعة السياسة الخارجية الايرانية , فاعتماد الامام الراحل (رض) خاصة على مبدأ وقاعدة «نفی السبیل» شكلت احد الخطوط العريضة للجمهورية الاسلامية الايرانية في مجال السياسة الخارجية , والموضوع الآخر الذي يجب توضيحه في هذا السياق , هي النظرة الموحدة الى العالم الاسلامي وتشبيهه بجسد واحد , فالمفهوم الراقي "الامة الاسلامية الواحدة" استنبط من صميم هذا الفكر والنظرة المبدئية , وينبغي هنا ان نشير الى بعض النقاط:
ان الدين الاسلامي المبين والفكر القرآني الاصيل لايسمح اساسا بتدخل وسلطة الاجانب على المسلمين وقاعدة "نفي السبيل" تعتبر مبدأ هاما في السياسة الخارجية للجمهورية الاسلامية الايرانية، فنفي السبيل قاعدة ترفض اي شكل من اشكال تسلط الكفار على المسلمين في اي مجال سواء المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والعسكرية و...., فقد جاء في الآية ۴۱ من سورة النساء «وَلَنْ یجْعَلَ اللَّهُ لِلْکَافِرِینَ عَلَى الْمُؤْمِنِینَ سَبِیلًا» وهذا يعني معارضة اي شكل من اشكال تسلط الكفار على المؤمنين. ففي عام ۱۹۷۹ عندما انتصرت الثورة الاسلامية المجيدة في ايران بقيادة الامام الخميني (رض) , فان سماحته عارض تدخل القوتين العظميين في تلك الفترة – امريكا والاتحاد السوفيتي السابق – وعلى اساس هذه القاعدة تم طرح شعار "لا شرقية لا غربية جمهورية اسلامية" , وبعد رحيل الامام الخميني (رض) واصل خلفه الصالح سماحة آية الله العظمى الخامنئي نفس نهجه بقوة وصلابة.
ان التأكيدات المستمرة للامام الراحل (رض) وقائد الثورة الاسلامية على ضرورة وحدة العالم الاسلامي في مواجهة التهديدات الفكرية والثقافية والعسكرية والاقتصادية من قبل الغرب ضد المسلمين , لها جذر بالاهتمام بهذه القاعدة والمبدأ الاصيل.
فمفهوم الامة الاسلامية الواحدة ومدلولاتها – مثل حل الازمات الداخلية للعالم الاسلامي من قبل المسلمين انفسهم- كان واضحا تماما في افكار الامام الراحل (رض) وقائد الثورة الاسلامية.
ان الوصفة الرائعة التي وضعها الامام الخميني (رض) وقائد الثورة الاسلامية لمعالجة المآسي التي يعاني منها العالم الاسلامي تكمن في وحدة العالم الاسلامي، حيث قال الامام الراحل (رض) في هذا الصدد "ايها المسلمون في العالم والمستضعفون تحت نير سلطة الظالمين , انتفضوا واتحدوا ودافعوا على الاسلام ومقدراته , ولا تخشوا ضجيج المتغطرسين...".
ان دعم الجمهورية الاسلامية الايرانية للشعب الفلسطيني المسلم والنهضات التحررية في ارجاء العالم , مبني على اساس هذا المنطق وهذه الرؤية المبدئية، فالامام الخميني (رض) يؤكد في هذا الخصوص : ان الشعب الايراني الحر يدعم تماما في الوقت الحاضر شعوب العالم المستضعفة في مواجهة اولئك الذين يمارسون القمع والقتل, نحن ندعم جميع حركات التحرير في انحاء العالم والتي تناضل في سبيل الله والحق والحقيقة والحرية... مرة اخرى ادعم جميع حركات التحرير في العالم , وآمل ان يتمكنوا من الانتصار لاقامة مجتمعهم الحر , ونأمل ان تساعدهم الحكومة الاسلامية في الوقت المناسب".
والنقطة الهامة الاخرى في افكار الامام الخميني (رض) في مجال السياسة الخارجية تتعلق بسائر شعوب العالم , حيث يؤكد الامام الخميني (رض) على بث روح الاسلام في السياسة الخارجية الايرانية ويقول " يجب ان تنظيم علاقاتنا مع الشعوب على اساس القضايا المعنوية , وفي هذا الشأن ليس هناك تأثير لبعد المسافة , فربما تكون هناك بلدان مجاورة ليست بينها روابط معنوية , وعلى هذا الاساس لايمكن ان تكون هذه الروابط مجدية , فعلاقاتنا مع الدول ستكون على اساس مبادئ الاسلام...".
ان الامام الخميني (رض) ومن بعده قائد الثورة الاسلامية يمتلكان رؤية بسيطة وذكية وغير انفعالية حيال السياسة الخارجية , وقدما تعريفا حول العلاقات مع سائر دول العالم على اساس المبادئ والاهداف الاسلامية.
وعلى هذا الاساس فان الانفعال امام الاعداء لا يوجد له مكان في افكار الامام الخميني (رض) وقائد الثورة الاسلامية , وهذه النظرة السامية هي سرّ حركة الجمهورية الاسلامية الايرانية الى الامام في المنطقة والنظام الدولي على مدى السنوات التي تلت انتصار الثورة الاسلامية في ايران , فالساسة وكبار الاستراتيجيين الغربيين يقرون بعدم استطاعتهم احتواء حركة ايران السريعة والمتنامية في النظام الدولي , حتى بعد عقود من الصراع مع الشعب والنظام في ايران , وذلك يعود الى المبادئ الدينية والفكرية المتينة والمشروعة.
ان الارث الرئيسي للامام الخميني (رض) في مجال السياسة الخارجية يكمن في الاعتماد على الذات في ظل الإسلام وبناء علاقات بناءة مصحوبة بالعزة مع الدول التي لا تريد مواجهة نظام الجمهورية الاسلامية والقضاء على الثورة. ومن الطبيعي يجب اتخاذ موقف من موضع القوة في مواجهة الدول المعادية للثورة الاسلامية وارادة الشعب الايراني , وعدم السماح لها بتنفيذ مخططاتها التآمرية الخيانية.
* الخبير في شؤون السياسة الخارجية والعلاقات الدولية