يعتقد أحد عظماء التنظير في تاريخ البشرية -اليوناني أرسطو- في كتابه العَلَم "السياسة": ان الثورات تنجح في المجتمعات إن توفرت بعض الأسباب.
كالشعور بالتفرقة والتمييز، وتقسيم الموارد الطبيعية والجغرافية بين الأقاليم بشكل غير متوازن، وعدم الانسجام القومي بين فئات المجتمع، واستهتار وخداع وظلم الحكام، واثارة الفتن الداخلية عبر أياد أجنبية وأخيراً الخوف.
هنا اذ لا أرى غموضاً في ما طُرح من نقاط، لكنني أعرج على عامل "الخوف" نظراً لعنوانه الكلي العريض.
فبحسب أرسطو وعندما يخاف المجرمون من عقاب السلطة يستبقون الأحداث بثورة، ذلك للإفلات من السجن او الاعدام.
المهم في نظرية آب المنطق أرسطو أنها تربط بين تفشي أي من الظواهر اعلاه ووقوع الثورة، لذا اتساءل: ياترى كيف إن تجسدت كلها، وفي الآن نفسه، وبأحد أشكالها في مجتمع بعينه؟ حينها لابد من توقع حدوث ثورة جماهيرية تاريخية خالدة تُضرَب بها الامثال وتُروى عنها القصص والحكايات.
ربما وإن ألقينا نظرة عابرة على تاريخ الأمم، نجد ما يناقض ما ذهب اليه أرسطو بتحليل الثورات بمسبباتها ونتائجها، لكننا سوف لن نعثر على امثلة توفرت فيها شروط التغيير كلها ولم تتغير إلا ما ندر.
وبمراجعة سريعة لأهم محركات الجماهير نحو قلب نظام الحكم كما ذكر آنفاً وبلفتة خاطفة للعالم العربي تقتنع أن هناك خللاً يصيب هذه البقعة من الأرض وتكتشف جازماً انك تتعامل مع نموذج فريد من البحث.
ففيها كل الأسباب تهيأت دون حاصل.
حتى تلك الشعوب التي قامت من نومها في 2011 لم تفق لأنها اكتفت او شبعت او جزعت من نومها الشتوي العميق بل لما افرزتها شبكات التلفزة وما افرزه القصف الصاروخي من ضجيج. لذا ترى الجمهور يعود لسريره من جديد ليأخذ قسطاً آخر من الراحة، متى ما خرست تلك الأصوات.
لاحظوا ليبيا مثلاً. نصف قرن من الظلام كان كافياً ليغفي شعبا بأكمله فعندما فاق على صوت قذائف مقاتلات التحالف الغربي العربي، فاقَ مذعوراً مذهولاً تائها، نعم اسقط القذافي، لكنه عاد وغط في النوم وفي كوابيس لا نهاية لها.
في مصر واليمن وسوريا والبحرين، النتائج ليست أفضل. الكوابيس ذاتها، فالجنس العربي ذاته ... عربي أصيل.
ربما في تونس كان التغيير أوضح وأنضج، لكنه لم يكن يتحقق، لولا الفيس بوك وبرامج التواصل -والاعلام- الذي لعب الدور الأبرز باستسلام السلطة مبكراً.
في العراق، قبل وبعد الألفين وثلاثة تحققت شروط انطلاقة ثورة عظيمة وبأجلى صورها (رجاءاً راجعوا أسباب الثورات عند ارسطو من جديد) لكنها لم تنطلق، وما حصد مؤخراً لم يكن سوى حراكٍ، زاد كلُّ ما زادت درجات الحرارة و - قَلْ – متى ما انخفضت!
لكن العراق حالة فريدة ومختلفة اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار ظروف هذا البلد الذي ارهقته ويلات الحروب على مدى عقود هو مرَّ بمرحلة استبداد قل نظيرها وانتفاضات وعقوبات واحتلال وحكم الدولة الاسلامية بموازاة جمهورية علمانية!.
رغم حتمية النظريات، لكن لاشيء حتميٌ في السياسية وعلم الاجتماع خلافاً لباقي العلوم، ودراسة مجتمعية الوطن العربي خير دليل على ذلك.
به؛ تكتشف بل نتيقَّن، أن لكلِّ قاعدةٍ استثناء، وما أكثر استثناءاتنا العربية خلال عقود مضت، وكلُّ ما حثل في منطقتنا العربية كان مجرد حراك وشيء من التغيير، لكن نحو الأسوأ.
ولعل من أبرز معالم الثورات التي كتب عنها التاريخ –انما القطيعة مع الماضي- بينما الحاصل، هو العكس تماما. أمّا السبب بتقديري، هو أن الثورة في العادة، يسبقها انقلاب ثقافي وعقائدي لافت عند اطياف الشعب. لكن ماذا عن ماذكُر من نماذج ومالم يُذكر؟ هل تغيّرت فيها العقلية العربية ولو يسيراً، بل هل ارادت التغيير اصلاً، كي نتحدث عن حدوث انقلاب فيها من عدمه؟ لا اظن ذلك. العرب أسمى من أن يتغيَّروا بهذه السرعة!