بعد حرب طويلة ومحاولات كثيرة لإخراج العلويين عن الدين الإسلامي، فُتحت فسحة أمل لهم في عام 1952 حيث تم الاعتراف بالعلويين في سوريا وسمح لهم أن يمارسوا شعائر الدين الإسلامي في المساجد، وأطلقت عليهم تسمية "المذهب الجعفري"، لكن بقيت التهمة القديمة تلاحقهم بأنهم لا يقيمون الشعائر الدينية، وبقي هناك الكثير من الغموض يحيط بمعتقداتهم، خاصة مع تمسك معظم علمائهم بتسمية النصيرية التي يعتبرها بعض المنظرين الحديثين تهمة أُطلقت عليهم لتكفيرهم، حول هذه التساؤلات أجرينا هذا الحوار مع الباحث الديني العلوي الدكتور أحمد أديب أحمد وهو أستاذ أكاديمي في جامعة تشرين باللاذقية، وهذا نص الحوار:
وكالة مهر للأنباء: لماذا يُتَّهَمُ العلويون النصيريون بأنهم لا يقيمونَ الشعائرَ الدينية كالوضوء والصلاةِ والصيامِ.. إلخ؟
د. أحمد: يقول تعالى في كتابه العزيز: "وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ"، فمئات من السنين يفترون على المسلمين العلويين النصيريين الخصيبيين كذباً وزوراً وبهتاناً ليخرجوهم عن الدين ويضعوهم في زمرة الكافرين، ليبيحوا تطبيق فتوى ابن تيمية بقتل النصيرية وأن قتلهم أوجب من قتل اليهود والنصارى!! ليس لأننا لا نقيم الشعائر الدينية، بل على العكس نحن نقيمها التزاماً لا تقليداً، ونعطي الحرية الكاملة لأبنائنا في إقامتها أو لا، فلا نفرض على أبنائنا بقوة السيف أن يصلوا ويصوموا كما تفعل الوهابية وداعش وجبهة النصرة، ولا نرغبهم بالعطايا لكي يمارسوا عبادتهم ويجتمعوا في الحوزات، بل نؤسس شبابنا العلوي النصيري الخصيبي فكرياً ليُقبِلوا على إقامة الشعائر الدينية شكراً لله وواجباً حقاً، لا رغبة بالثواب ولا رهبة من العذاب، امتثالاً لقول الإمام الحسين "ع": "إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة".
وكالة مهر للأنباء: هل هذا يعني أن العلويين النصيريين لهم بواطنُ يعتمدونَها غير الشريعةِ الظاهرية؟
د. أحمد: ليس الأمر إلى ما ذهبتَ نحوه بالمعنى السطحي للكلام، لكننا نفهمُ معاني الشريعة الدينية الظاهرية، ونقيمها بطرائقَ إسلاميةٍ وحقائقَ إيمانيَّةٍ، أي إنَّنا نطبِّقُ الحركاتِ المحسوسةَ مع معرفتِنا بالحقائقِ العقليَّةِ، وهذا ما يُميِّزُنا عن غيرنا لأن مَن عملَ بالشريعةِ ولم يعلمِ الحقيقةَ حَبِطَ عملُهُ، إذ هو عملٌ بلا علمٍ ولا فائدةَ منه، لذلك جاء قول السيد المسيح "ع": "إنَّ الذينَ يصومونَ ويصلُّونَ ملعونون لأنهم عَمِلُوا بصورةِ الشَّرعِ ولم يعرفوا معناه". فالشريعةُ الظاهريةُ مثالُ الجسد، والحقائقُ الباطنيةُ مثالُ الرُّوح، والإنسانُ من جسدٍ وروحٍ، والجسد لا يحيى ولا يقومُ إلا بالروح، ومن دونِ مَدَدِها لا تقومُ له قائمةٌ، لذلك فإن هناكَ فرقاً شاسعاً بين الروحِ والجسد، وبما أنَّ الجسد لا يساوي الروحَ، فلا يجوزُ أن تكونَ عبادةُ الجسد مساويةً لعبادةِ الروحِ، أمَا قرأتم قولَ أمير المؤمنين كرم الله وجهه: "كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلا الْجُوعُ والظَّمَأُ، وكَمْ مِنْ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلا السَّهَرُ والْعَنَاءُ، حَبَّذَا نَوْمُ الأكْيَاسِ وإِفْطَارُهُمْ".
وكالة مهر للأنباء: لماذا يتَّهمونَ طائفة العلويين النصيريين أنَّهم لا يقيمونَ الصلاةَ بحجة أنهم يضمنونَ دخولَهم إلى الجنة؟
د. أحمد: أستغرب كيف يحكمُون على طائفةٍ كاملةٍ من غيرِ بيِّنةٍ!! يقول تعالى: "إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا"، والصلوات خمسة "الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر"، ونحنُ نُقيمها جميعها، لكنَّ للصلاةِ شروطًا يجبُ أن تتحقَّقَ، أولها الطهارةُ وهي أن تكونَ طاهرًا من نجاسةِ الحَدَثَينِ الأكبرِ والأصغرِ لقولِ أمير المؤمنين الإمامِ علي كرم الله وجهه: "لا صلاةَ لِمَن لا وضوءَ له"، فالطُّهورُ فريضة، لكننا لا نفهمه فقط بمعناه السطحي، فالطهورُ الحقيقي ليس إزالةُ الأوساخ بالماء فقط، لأنَّ النجاسةَ لا تَلحَقُ بالمؤمنِ بمجرَّدِ تعرُّضِ جسدِهِ لبعضِ الحالاتِ البشريةِ العارضةِ، فالمؤمنُ لا يُنَجِّسُهُ شيءٌ أي لا يَلحقُهُ شكٌّ في دينِهِ وعقيدَتِهِ لذلكَ فهو طاهرٌ منهم، وطهارَتُهُ الحقيقيَّةُ هي البراءُ من المشركينَ كما وردَ عن الأئمةِ عليهم السلام، لأنَّ النَّجاسةَ هي الشِّركُ، لهذا قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ".
وكالة مهر للأنباء: وهل يتوجه العلويون إلى القبلة عند صلاتهم؟ ولماذا يقولون أنهم يصلون مشياً على الأقدام؟
د. أحمد: ما فائدة الصلاةِ بدون الاتصالِ والتَّوجُّهِ إلى وجهِ الحقِّ، والإقبالِ على اللهِ بالكلِّيَّةِ، والانقطاعِ عمَّا سواهُ كلِّيًّا؟ أود أن أوضح أن الله ليس محصوراً بالكعبة ولا في أي مكان لقول الإمامَ علي كرم الله وجهه: "ولا كان في مكانٍ فيجوزُ عليه الانتقال"، بدليل أن رسولَ اللهِ "ص" صلَّى أربعة عشر سنة متوجِّهًا إلى بيتِ المقدسِ قبلَ أن يُصَلِّيَ متوجِّهًا إلى الكعبةِ، فهل انتقل الله من بيت المقدس إلى الكعبة؟ بالطبع لا، فالمعاني العميقة للصلاةِ لا تزولُ بالتَّوجُّهِ لمكان لأن الله هو المُتَجَلِّي في السمواتِ والأرض، لقوله تعالى: "وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ"، وقد ورد عن الإمام الصادقِ "ع" أن رسولَ اللهِ "ص" كان يصلي على ناقتِهِ وهو مُستقبِلٌ المدينة، فإن سُئلَ يقول قوله تعالى: "وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ"، وهي الصلاة التي نقيمها شرعاً وتحقيقاً متوجهين إلى قبلة رسول الله "ص" نفسها لا إلى غيرها كما تفعل بعض الطوائف الأخرى، أما بالنسبة للمشي الذي يتحدثون عنه فهو لا يعدو كونه ذكراً لله وتسبيحاً وتكبيراً وتعظيماً له لقوله تعالى: "اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ".
وكالة مهر للأنباء: لماذا يقولون أنكم تقيمون صلاةً غير الصلاة الشرعية؟ وهل تتحقق الصلاة بلا قيام ولا قعود ولا سجود ولا تكبيرة إحرام؟
د. أحمد: هذا محض افتراء، فالصلاة لا تجوز بدون تكبيرة الإحرام والركوع والسجود لقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" لكننا نشدد على فهم المعاني الحقيقية لكل فعلٍ نقوم به حتى تكون عبادتنا مبنية على العقل كي لا نكون من الذين قال تعالى فيهم: "وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ"، ومن التعقل الذي نرتقي إليه فهمنا لقولَ أمير المؤمنين كرم الله وجهه: "ليستِ الصلاةُ قيامَكَ وقعودَكَ، إنَّما الصلاةُ إخلاصُكَ، وأنْ تريدَ بها اللهَ وحدَهُ"، وهذا يعني أنَّ الإخلاصَ الكاملَ للهِ يُعطي السجودَ المعنى الأمثلَ للإيمانِ لقولِ أمير المؤمنين: "كمالُ الإخلاصِ له نفي الصفاتِ عنه"، ومن التعقل التعبدي الذي نلتزمه أننا لا نمرُّ على تكبيرة الإحرام جزافاً، بل نفهم أن القول: "الله أكبر" لا يعني أنه أكبر من كلِّ شيء لأن هذا الجواب قيلَ للإمامِ الصادقِ "ع" فأجاب قائله: "لقد حَدَّدْتَهُ"، لكننا نرتقي بعبادتنا مكبِّرين الله عن أن توصَفَ ذاتُهُ بصفةٍ، أو تُسَمَّى باسمٍ، أو تُنعَتَ بنعتٍ من حَيثها، فمفهوم تكبيرةِ الإحرامِ وفق نهجنا العلوي هي تعظيمُ ذاتِ الباري وتنزيهُهَا عن كلِّ وهمٍ أو خاطرٍ أو فكر.
وكالة مهر للأنباء: هل أفهم منك أن التعاليم النصيرية تخالف المذهب الجعفري رغم أن العديد من شيوخ العلويين يقولون أنهم جعفريون؟
د. أحمد: نحن مسلمون محمديون علويون جعفريون نصيريون خصيبيون، لا خلاف بين كل هذه التسميات، إلا أن الملامة تقع على المسيئين الذين يحاولون التفرقة بين تسمية الجعفرية من جهة والنصيرية الخصيبية من حيث الجوهر، فقد سجلت كتب التاريخ جميعاً أن السيد الحسين بن حمدان الخصيبي قضى طفولته في التَّفقه والعلم والعبادة، وحفظَ القرآن الكريم وعمره أحدَ عشر عامًا، وحجَّ إلى بيت الله، وأقام مدرستين في حلب وبغداد وكتب العديد من الكتب أشهرها "الهداية الكبرى" الذي أهداه لسيف الدولة الحمداني، وانتقل ومقامه في حلب يعرف بمقام الشيخ "البراق"، ويكفي هنا أن نستشهد بقول الفيلسوف العظيم أفلاطون: "عقولُ الناسِ معروفةٌ في أطرافِ أقلامِهم وظاهرةٌ في حُسنِ اختيارهم"، وقد وردَ في الهداية الكبرى أنه قيل للإمام الحسن العسكري "ع": "يا سيدي، يقولون: إنَّ محمد بن نصير يقولُ فيكمُ العظائمَ وَأنَّكم أربابٌ، فعرِّفني يا سيدي ما عندَكَ في ذلك لأعملَ فيهِ". فأجاب "عليه السلام": "نحنُ أعلمُ بما يقولونَ، وما أنتَ عليهم بجبَّارٍ، واللهِ ما قالَ لهم إلا أنَّا ربَّانيُّونَ لا أربابًا من دونِ الله، كيف يقولُ محمد بن نصير هذا وهو حجَّتي في الهدى كما كان سلمان حجَّةَ أمير المؤمنين؟"، وهذا يؤكد أنه لا فرق جوهرياً بين الجعفرية والنصيرية لأن السيد محمد بن نصير ما كان ليستقي علومه إلا من تعاليم الأئمة المعصومين "عليهم السلام"، فأحاديثه هي عن عمر بن الفرات عن محمد بن المفضل عن المفضل بن عمر عن الإمام الصادق عليه السلام. لكن العقلاء لدينا لا يستسيغون لفظ "المذهب" لأن وصف نهجنا العلوي الجعفري النصيري الخصيبي بالمذهب ينضوي على شبهة مساواة النهج الأصل بالمذاهب الفرعية، والذين كان أئمتهم تلاميذ في المدرسة الكبرى للإمام جعفر الصادق عليه السلام، ولا يجوز بحكم العقل والمنطق والدين أن تتم هذه المساواة بين المعلم الأصل والتلاميذ الفروع، فالمذاهب الفرعية قد تحيد عن الصواب أحياناً لأنها تعتمد على الاجتهاد بالرأي والقياس، أما النهج الأصل فهو ثابت كالصراط المستقيم لأنه ارتبط بالأنبياء والرسل "عليهم السلام" ولم يُذكر في كتاب الله إلا بالحمد في موقع واحد وهو قوله تعالى: "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً".
أجرى الحوار: محمد مظهري