ما بعد الموصل عنى نهاية حلم داعش، لكنه ايضا عنى نهاية زمن الحدود المغلقة و حدود الدول، كل محور تمتد حدوده على امتداد الدول المنضوية فيه. في صيف 2014 مباشرة بعد سقوط الموصل كنت في بغداد وكانت هي تحت الخطر الداهم لداعش، لم يكن أحد ليظن حينها أن بأس داعش سيهزم بعد عامين. لم يكن لدى العراق جيش حقيقي حينها، مجرد اسماء على لوائح، خمسون الفا من الجنود الوهميين، ضباط كبار في مناطق القتال لا يعول عليهم. سقطت المناطق بأقل جهد ممكن في ظل تفتت شعبي غير مسبوق، كان الساسة العراقيون مختلفين على جنس الملائكة بينما داعش على الأسوار. السقوط عنى بشكل أو بآخر سقوط آخر أوراق التوت عن سوءات الاحتلال الاميركي لهذا البلد، عن الفساد عن اللادولة التي خلفتها واشنطن، مسخ الدولة. لم يكن المطلوب فقط أن يكون عراق الاحتلال مسخا، بل كيان بلا دور، مجرد مساحة جغرافية مقسمة تكون صندوق بريد لمن يرغب بذلك.
امام مشهد السقوط لم يكن هناك من يتوقع أن يحصل ما يغير المسار، واكثر المرجحين كان ينتظر تدخل أميركي يعيد اراضي العراق إليه. توقع العودة الأميركية حينها كان سببه حينها غياب الأفق والشعور بأن داعش لا تسقطه سوى قوى عظمى وكذلك اقرب حلفاء العراق، ايران، غارق في سوريا. جاءت فتوى السيد السيستاني لتهز الداخل العراقي الذي لم يكن من قبل، في زمن بعد صدام، قد شهد عملية تعبئة من هذا النوع، رغم الخلافات تشكل الاطار.
إطلاق الحشد الشعبي شكل نقطة تحول في العراق
كل ما كتبته الآن هو قبل وخلال معركة الموصل، اطلاق الحشد الشعبي، شكل نقطة تحول في مسار هذا البلد بعد الاحتلال، وهو الذي أوصل الى الموصل. خلال الفترة الماضية التي شهدت تأسيس ونشاط الحشد ظهرت الكثير من الآمال والانتقادات. هناك انجازات وتجاوزات، هناك نجاحات واخفاقات. في بداية التجربة كانت التناقضات ضخمة بين المجموعات التي شكلت أساس الحشد الشعبي، لكنه لاحقا بدأ ينتظم، او اذا صح القول بدأ ينظم تناقضاته.
لم يكن العراقيون بحاجة لمقاتلين، كانوا أحوج إلى من يدير المعركة وهو الدور الذي لعبه قائد فيلق القدس الإيراني اللواء قاسم سليماني. الدخول الإيراني على الساحة بشكل مباشر رافقه الدخول الأميركي، وبدا الأمر كأنه سباق بين طرفين لتحقيق الإنتصار، تقاطع الطرفان في أكثر من مكان. ولأنهما يقاتلان لهدف واحد وبمعية ذات الحليف بدا المشهد سورياليا، في صلاح الدين والانبار والفلوجة ولاحقا في الموصل. وضعت أميركا خطها الأحمر.
الحكومة العراقية استفادت من هذا التناقض والخط الاحمر لتأمين المزيد من الدعم للقوى الامنية، بينما عمدت ايران للالتفاف حول الخطوط لدعم الحشد. في نهاية المطاف كان المطلوب عراقيا أن تتحرر الموصل، بالحشد ام بالقوى الأمنية لا فرق، لكن أميركا استمرت بوضع خطوطها الحمراء. كان الخط الاحمر الرئيس دخول الحشد الموصل ووصوله الى الحدود مع سوريا، لكن أميركا لم تكن تملك على الأرض ما يجعلها تمنع ذلك واقعا، سوى السياسة. في السياسة كلام كثير ليس وقته الان، أما في الميدان فكانت النتيجة تحرير الموصل ووصول الحشد الى الحدود، ايران كسرت الخط الاحمر الأميركي.
العراق أمام مفترق طرق في مرحلة ما بعد الموصل
ما بعد الموصل عراق أمام مفترق طرق حقيقي، صحيح أن يد داعش قُطعت لكن هذا لا يعني أن روحها ماتت، لذا فحذاري من العودة إلى عقلية ما قبل السقوط. العودة إلى التهميش والاقصاء ومأسسة الفساد سيعني بث الروح مجددا حيث الوهن، وهذا ما سيسقط البلاد مجددا ولكن بشكل اسوأ. قوة العراق في شعبه لا في جماعاته المتفرقة، ولولا الوحدة النسبية التي خلقتها حالة داعش بين العراقيين ما كان ممكنا أن نرى تحريرا.
في المنطقة، يبدو واضحا أن دور "محور المقاومة" أصبح أساسيا في كل معارك المنطقة، أميركا تملك الجو لكنها ضعيفة على الارض. صحيح أن العراق ليس بالكامل ضمن المحور الايراني، لكنه ايضا ليس مصطفا بالكامل في المحور الحليف لأمريكا، هو دولة تقاسم نفوذ. لكن تقاسم النفوذ في هذه المرحلة بالنسبة للإيرانيين لن يكون عبر جماعات تدعمها طهران مشتتة، بل من خلال مظلة الحشد الشعبي. هناك من يجهز الخرائط خلف ابواب موصدة في غير مكان في العالم، لكن العراق اليوم نجا بروحه من عملية التقسيم، لديه القوة للرفض.
أمريكا صاحبة خطة اللاخطة في الشرق الأوسط
أميركا أثبتت أنها في الشرق الأوسط صاحبة خطة اللاخطة، وهي تشبه كثيرا بريطانيا أواخر أيام عظمتها. إيران مجددا احد اكبر الرابحين، محورها يتقدم، ميدانيا حاضرة اكثر من كل الأطراف، تقدم نفسها في سوريا والعراق كضامن بقاء الدولة. السعودية غائبة عن المشهد رغم كونها في صراع مع ايران، وهو ما يعطي طهران المزيد من النقاط في هذه الحرب.
ما بعد الموصل المعركة الإقليمية الدولية ستستعر اكثر، في ميادين اخرى، في سوريا واليمن وربما تعود جبهات أخرى للظهور، أما العراق فحذاري من الفتنة. الفتنة السنية الشيعية بالعنوان السياسي والمناطقي والفتنة الشيعية الشيعية التي قد تجد لها مساحة للظهور./انتهى/