اسمحوا لي أن أقدم لهذه المقالة بمحورين هامين لا يجوز القفز عنهما: المحور الأول وهو أن الأكراد كانوا على مدى التاريخ جزء من الدولة الإسلامية أو الدول الإسلامية، وقدم كثيراً من رجالاتهم مساهمات علمية وتاريخية وسياسية وعسكرية للدولة التي كانوا ينتمون إليها. ولم يسبق أن كان للاكراد دولة خاصة بهم.

وأفادت وكالة مهر للأنباء أنه من الأسماء الكردية التي لمعت في التاريخ وعلى سبيل المثال لا الحصر صلاح الدين الأيوبي، عبد الرحمن الكواكبي، ابن تيميه، وجميل صدقي الزهاوي، ومحمد كرد علي وأحمد شوقي أمير الشعراء، ومعروف الرصافي. ولم يقل أحد في ذلك التاريخ أنهم أكرادا، بل كانوا رجال وأعلام الدولة التي صهرت كل الشرائح في بوتقتها وجعلت منهم مواطنين يتساوون في الحقوق والواجبات.

وأما المحور الثاني فهو أن في جميع دول العالم يوجد شرائح بشرية قليلة لديها نزعه للتعامل مع أعداء الدولة، مثال على ذلك شرائح في الدول العربية تتعامل مع اسرائيل، وفي إيران ما زال بقايا رجال الشاه يتآمرون على إيران ويتعاملون مع أعدائها وقس على ذلك.

ومن هذا المنطلق فإن وجود فئة أو شريحة بشرية من الأكراد تتعامل مع اسرائيل وتنزع الى الانفصال عن الدول التي عاشت وما زالت تعيش فيها ليس بالأمر المستهجن. ويجب ألا ينسحب تصرفها هذا على جميع الأكراد الذين هم مواطنين صالحين وجزء لا يتجزأ من تركيبه الدول التي ينتمون إليها أو يعيشون فيها إلى جانب شرائح أخرى متعددة الأصول والأعراق والمنابت والمذاهب والمعتقدات. ولكنهم جميعاً يؤمنوا بالمواطنة في الوطن الواحد الذي يتعايشون فيه، وليس الانفصال عن بعضهم البعض، والذي إذا حدث لن يكون إلا تنفيذاً لخطط التحالفات الغربية التي ما زالت تحاول خلق التناقضات والنفخ في نارها لتفتيت ما يسمونه بالشرق الأوسط، والعمل على بناء رأس جسر لها في كل منطقة لتعبر منه لتحقيق مطامعها في تفتيت الدول والسيطرة على ثرواتها النفطية والغازية والمائية.

ومن هذا المنطلق... يجب القول أن من الأهداف الاستراتيجية الأساسية لإسرائيل والدول الغربية من ورائها هو تفتيت دول المنطقة بكاملها، وعدم السماح بقيام دولة قوية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وهذا هو ملخص الخطة الأمريكية الصهيونية (خطة برنارد لويس) المستشرق الصهيوني. وبالفكر والمكر الصهيوني يريدون أن يتم تفتيت المنطقة بأيدي أبنائها. لأن إسرائيل والتحالف الغربي من ورائها لا يريدون دخول الحرب مباشرة بجنودهم وبقواتهم، وإنما يردونها حروبا بالوكالة بين دول المنطقة تستنزف الاقتصاد والقوى البشرية لتلك الدول . وعلى ضوء هذا فإن الفائدة الكبرى والأولى لإسرائيل هي ظمان عدم الاستقرار واستمرار الحروب والخلافات والصراعات التي ستنشأ عن محاولة استقلال كردستان، والتي ستكون في المنطقة نفسها التي خططت إسرائيل لتفتيتها   والهيمنة عليها، وستؤدي مثل هذه الحروب والصراعات لسقوط المزيد من القتلى والخراب والدمار وغرس أحقاد بشرية بين شرائح الأمة، تنمو وتمتد إلى مئات السنين. والمستفيد الأوحد من ذلك هو إسرائيل ومن ورائها، لأن دول المنطقة وبقية الأطراف ستكون الخاسرة، ولن يكون بينها منتصر بما فيهم الأكراد الذين سيكونون  ضحايا هذه الخطة، حيث يتم تجسير قوتهم القتالية على دول المنطقة، بينما تغذيهم اسرائيل بالعتاد والسلاح وكل مقومات إطالة أمد المعركة. وبذلك يقعون في الفخ الذي نصب لهم.

يرتبط ما سبق ذكره بالشعار الإسرائيلي المعرف (اسرائيل من الفرات إلى النيل) ونستطيع القول إنهم امتدوا إلى منابع النيل من خلال سد النهضة في الحبشة سوف يسيطرون على نهر النيل. ويبقى لهم من خلال تحركاتهم في العراق والتخفي خلف بعض الشرائح الكردية أن يحققوا حلمهم بالوصول إلى الفرات.

النشاطات الاسرائيلية في المنطقة وخاصة بين الاكراد  موجودة منذ زمن بعيد، وهذه النشاطات ترتكز على أبعاد إستراتيجية وتوراتية. فالهدف الاستراتيجي هو السيطرة على المياه والنفط والغاز ونقله عبر أنابيب إلى إسرائيل لإعادة بيعه من هناك للسوق العالمي، كما تنص الخطط المعتمدة لديها. اما تبرير التدخل في المنطقة بالبعد الديني التوراتي فهو في وجود عدد من أضرحة الأنبياء وطريق النبي إبراهيم علية السلام حيث يتم العمل على ترميمه وافتتاحه. ويعودون لما قبل ذلك إلى الأسر   البابلي زمن نبوخذ نصر.

 تضمنت النشاطات الإسرائيلية في العراق على سبيل المثال لا الحصر: شراء أراضي زراعية ونقل وفود إسرائيلية إلى العراق والعمل على توطينهم. وتوسع النشاط الإسرائيلي في المنطقة لتدريب بعض الشرائح الكردية سياسياً وعسكرياً وإعلاميا، والعمل على إنشاء المؤسسات الأزمة للدولة. ومحاولة خلق بعد ثقافي قومي خاص بالأكراد مدعوماً بالتغطيات الإعلامية المركزة لذلك. واستفادت من الأقليات اليهودية وخاصة بين الأكراد لتحويلها إلى رأس جسر تعبر منه إلى العراق ودول المنطقة لتحقيق أهدافها.

سريت الخطة الأمريكية (خطة برنارد لويس) خارطة لما سموه كردستان الكبرى وتشمل الخارطة اجزاء من العراق وإيران وسوريا وتركيا وهذه الخارطة هي من ضمن الخرائط الكثيرة التي سربت  لتعرض تفتيت دول (الشرق الأوسط) المقترح إلى دويلات وكنتونات أثنية وعرقية متعددة. وكان الهدف هو إغراء وتشجيع شرائح كردية أخرى على العمل لتحقيق هذا الحلم.

لقد نجحت اسرائيل بدعم شرائح كردية وتدريبها عسكرياً وتخزين السلاح لديها بما يضمن لها تجسير هذه القوى لإثارة الفتن في دول المنطقة، إيران والعراق وسوريا وتركيا. أي أنهم يردون نقل المعركة المفروض أن تكون بين هذه الدول وإسرائيل، إلى معركة في العمق الاقليمي بين دول المنطقة مع بعضها ولتكون سلسلة فتن ومعارك طويلة الأمد تستنزف قوى دول المنطقة وتقضي على مقاتليها بما فيهم الأكراد أنفسهم، و لصرف هذه الدول عن العمل على القيام بالتنمية الحقيقية، والتقدم نحو بناء قوة ثالثة تشمل تركيا وإيران والعراق وسوريا. ولذلك يجب التعامل بحذر وبحزم مع هذا التوجه قبل استفحال أمره والخروج من تحت السيطرة.

لذا يتوجب على دول المنطقة التي يتواجد فيها الأكراد (إيران وتركيا وسوريا والعراق) ألا يسمحوا بإنشاء دولة للأكراد. لأن التوازنات الدولية المعاصرة اسست لتحالفات كبرى تجمع قوميات واعراق متعددة كالوحدة الأوربية مثلاً والوحدة الإفريقية أو دول أمريكا اللاتينية، أو الأسيان. فلماذا لا يكون جهدنا منصباً على قيام اتحاد ايراني تركي عراقي سوري، وليقف في مواجهة الدول التي ارتبطت بالنهج الأمريكي الصهيوني. أن قيام مثل هذا الاتحاد يمكن أن يشكل النواة الحقيقة للقوة الثالثة في العالم ويمكنه أن يتمدد ويتوسع حسب المصالح البينية الاستراتيجية والاقتصادية، وعندها يستطيع مثل هذا المحور أن يبني علاقات استراتيجية مع الصين مثلاً التي ترحب بمثل هذا التكتل.

الملاحظة الأخيرة التي لا بد من ذكرها، وهي أن اتفاق سايكس- بيكو الذي فتت ارث الدولة العثمانية وإنشاء كل الدول العربية القائمة حالياً، كان باستطاعته في ذلك التاريخ لو كانت نيته سليمة أن ينشأ دولة للأكراد، ولكنه بدلا من ذلك وزعهم على عدة دول، لخشيته من أن تتجدد فيهم روح صلاح الدين الأيوبي إذا أقيمت لهم دولة. وليتمكن المكر الإنكليزي والفرنسي من تجسير القوة القتالية الكردية لإثارة الفتن في أي من الدول الأربعة كلما كان ذلك لصالح الغرب وإسرائيل.

* مستشار دولي اردني