لقد بدأت فكرة حوار الأديان منذ تلك اللحظة التاريخية المجيدة على يد سيد الخلق خاتم الأنبياء والمرسلين ليخط لنا منهجا واستراتيجية إلهية في كيفية التعايش السلمي بين مختلف الديانات السماوية لخلق مجتمع متجانس متكامل تتعايش فيه كل الطوائف جنبا إلى جنب يمثلون قلب العالم المتحضر بوحدتهم وتجانسهم والتزامهم بدستور سماوي أكد عليه الإسلام بينما ذكرته جميع الرسالات السماوية بضرورة التكافل والتآزر في أي مجتمع بعيدا عن الطائفية والتناحر الذين لا يوديان بحياة أي مجتمع إلا إلى الهاوية والدمار.
لغويا كلمة التعايش تعني العيش والحياة بمودة وألفة، ولقد أكد القرآن الكريم على هذا المفهوم كثيرا من خلال منظومة القواعد التشريعية التي أسستها الشريعة لحفظ المجتمعات البشرية من الفتن والتناحر بينهم على أساس طائفي أو مذهبي. قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).
الإسلام كفل للبشرية التعايش بسلام وطمأنينة ليؤمن لهم العزة والكرامة دون تمييز أحد على الآخر ولكن ضمن إطار عادل يضمن العدالة بينهم دون التقليل من حقوق أو واجبات أحدهم على الآخر قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا).
إن مختلف الديانات السماوية السمحاء حينما نزلت على البشر كانت في حقيقتها موجهة للروح والفطرة السليمة التي جبل الناس عليها وهي فطرة نفخ الله ﷻ من روحه فيها، لذلك تعتبر جميع الديانات السماوية متحدة في أساس ثابت وهو تأمين العزة والكرامة للإنسان وتوفير البيئة الآمنة الصالحة لتكامل الإنسان.
ولكي تتحد جميع الديانات في منهج ثابت وواضح فإن على كل صاحب ديانة أن يحترم الحدود والشرائع التي تعتبر مقدسة لأصحاب الديانة الأخرى المتشاركين معه في وطن او مجتمع .. فلا يتعدى أحد على حقوق ومقدسات الآخر ضمن منظومة مجتمعية تحكمها حاكمية السماء، هذه الحاكمية أقرت الاختلاف والتنوع كما في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ﴾ الروم/22. هذا في الألسنة والألوان والأشكال. أما في التيارات والأفكار والتوجهات فقد قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ هود/119.
وكما أن إرادة الله تبارك وتعالى قد أوجدت هذا الاختلاف والتنوع فإنها قد أقرت الحرية في الاختبار، فالإنسان الحر يستطيع أن يتخذ الموقف الذي يشاؤه من أية قضية، حتى الإيمان بالله تعالى خاضع لهذه الإرادة، وتحكمه هذا المنطق الرباني القاضي بالاختبار، فكل مظهر إيماني ناتج عن ضغط أو إكراه لا اعتبار له عند الله تعالى. هذا المنطق الرباني خطه الله عزوجل كقاعدة في قوله تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ. ..﴾ البقرة 256.
د. غدير جمال: ناشطة وأستاذة جامعية كويتية