وأفادت وكالة مهر للأنباء أن وكالة العرب بوست قدمت تقريراً عن حياة رجل ايران انتقل منذ عقود إلى فلسطين ملتحقاً بصفوف الثورة الفلسطينية آنذاك ثم انتقل للعيش من 23 عاماً في غزة حيث جاء في التقرير أن الرجل فقد الاتصال بعائلته في إيران، وهو اليوم على سرير المرض، يبحث عن خيط أمل لعناق الوداع لأهله هناك.
محمد قاسم شياسي، الرجل الذي تعرف إلى الثورة الفلسطينية في بداياتها وأحبها وارتبط بها، بل رهن حياته لها على طريق العودة إلى فلسطين. من إيران إلى الكويت ثم لبنان فاليمن وأخيراً قطاع غزة، جنوبي فلسطين المحتلة، مسار رحلة شياسي الذي اكتشف وجوده في نيسان 2017 فريق «العرب بوست»، عندما كان في مهمة ميدانية لتقرير عن الحياة الصعبة التي يعيشها الفقراء بجوار أكبر مكب للنفايات جنوبي القطاع!
اكتسب شياسي لقب «شمشمون الجبار»، المقتبس من أسطورة كنعانية قديمة وأطلقها عليه رفاق الثورة الفلسطينية، بعدما اكتشفوا قدرته على رفع الأثقال بصورة لافتة. وهو – كما عرف فريق "العرب بوست" عندما التقى عائلته في إيران – كان يحب من الطفولة المشاركة في الألعاب البهلوانية الخطيرة، رغم رفض عائلته ذلك.
مع هذا، واصل في العاصمة طهران تعلم أصول اللعبة، وصار مشهوراً بين العشائر بلقب «علي ميرزا» أو «علي غودرز»، وكان يفخر شيوخ العشائر بأنهم تصوروا معه، وشاع بسبب ذلك صيته في المناطق القروية الإيرانية.
حتى الآن كان كل شيء يسير في حياة شياسي كما أي شاب لديه طموح، لكن انتقاله عام 1972 إلى الكويت للعمل غيّر مسار كل شيء؛ كانت العشائر البختيارية الإيرانية ترسل أبناءها خلال ازدهار الخليج بعد اكتشاف النفط للمساهمة في أعمال البناء والعمران هناك. وفي تلك المرحلة، كانت العلاقة بين «منظمة التحرير الفلسطينية» والكويت لا تزال قوية جداً.
تعرف شياسي إلى عدد من ضباط المنظمة وهو في الثلاثين من عمره، وبسبب حبه فلسطين قرر أن يساعدهم. توكل «شمشون الجبار» بمهمة خطيرة آنذاك كانت تتلخص في عمليات شراء ونقل الأسلحة إلى فلسطين، وخلال ذلك تعرف إلى الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الذي أعجب بقوته وشجاعته.
لاحقاً أوكل إليه عرفات شخصياً مهمة تنظيم مستودعات السلاح لـ«منظمة التحرير» في الكويت ثم نقلها إلى فلسطين وجنوب لبنان.عام 1978 غادر شياسي الكويت وانتقل مع الثورة الفلسطينية إلى جنوب لبنان، وبقي مشاركاً في المهمات المنوطة به هناك قبل أن يرسله عرفات إلى معسكرات التدريب في اليمن عام 1982 الذي حدث فيه الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، كما كانت له مهمات أخرى في سلطنة عمان لم يفصح عنها.
بعد توقيع «اتفاقية أوسلو» عاد شياسي مع عدد كبير من المقاتلين داخل فلسطين عام 1993، وقرر أن يعيش في مدينة خانيونس، جنوبي قطاع غزة، حيث اشترى أرضاً وبنى فيها منزلاً. لكن في حرب 2008، جرّف الاحتلال الإسرائيلي منزله، ما اضطره إلى النزوح إلى منطقة العشوائيات في حارة البطن السمين، وهي منطقة مدقعة الفقر وليست صالحة للسكن.
لم يدُر يوماً في خلد الرجل العجوز بعد كل هذه السنوات أن تنتهي به رحلة النضال مع الثورة الفلسطينية إلى العيش وعائلته الكبيرة في منطقة عشوائية بجوار أكبر مكب للقمامة في غزة، بعيداً عن عائلته في إيران، وذلك بعدما عصفت به الظروف المادية وجعلته أسيراً للفقر والجوع والمرض والإهمال، خاصة أن بيته استثني من قوائم الإعمار لمشكلات تتعلق بوضعه القانوني.
هو اليوم أضحى يعيش في بيت تغلفه ألواح معدنية إلى جانب أسرته الفلسطينية المكونة من زوجاته الثلاث وأبنائه الصغار في ظل ظروف قاسية، كما أنه يعاني من أمراض مزمنة أخطرها السرطان الذي بات لا يملك ثمن علاجه.
مع دخول فصل الشتاء وهطول الأمطار، يتحول بيت شياسي إلى مخبأ للأفاعي والحشرات القاتلة التي تهرب من «مجمع النفايات» إلى المنازل المجاورة له، فتغرق في كل موسم بمياه الأمطار المصحوبة بعصارات النفايات، كما أن المنطقة تفتقر إلى بنية تحتية أو كهرباء ومياه، وتتحول صيفاً وشتاء موطناً لتجمع الحشرات والأوبئة.
رغم السنوات الطويلة التي عاشها هذا الرجل في غزة، لا يزال يتحدث باللغة الفارسية التي لا يفهمها كثيرون هنا باستثناء أبنائه وإحدى زوجاته، وفي أحيان معينة يحتاج إلى من يفسر ما يقوله لضيوفه
يقول شياسي: «مع رحيل أبو عمار (عرفات) تغير كل شيء، أصبحت متسولاً بدلاً من عسكري، لم يعترف أحد بي لأنني إيراني ولست فلسطيني الأصل». ويضيف: «مع بدء الانتفاضة دمر (الاحتلال الإسرائيلي) منزلي ولم يتم تعويضي، ومع اشتداد الفقر والحاجة اضطررت إلى بيع الأرض التي أقطن عليها، وأصبحت مشرداً في غزة».
لا تزال ذاكرة «شمشون الجبار» قوية وتحتفظ بغالبية التفاصيل رغم تأثر حواسه خاصة البصر والسمع. حاولنا نبش القديم منها ولاسيما ما يتعلق بعائلته التي تركها في إيران ولم يستطع العودة إليها بسبب الظروف الأمنية للثورة الفلسطينية، في ضوء أنه خرج من البلاد قبل الثورة الإسلامية في إيران.
يذكر أبو علي، أو أبو قاسم كما يحب أن ينادى، أنه فقد الاتصال بأسرته في إيران منذ اندلاع الانتفاضة الثانية (عام 2000).ويضيف: «كنت أتواصل منذ 20 عاماً وأعطيهم وعداً بزيارتهم، ولكنني منعت من السفر لأنني إيراني ولست فلسطينياً... انتظرت قليلاً حتى تحل المشكلات القانونية، لكن ساء وضعي وانقطع الاتصال بيني وبينهم، وهم لا يعلمون عني أي شيء ولا يعرفون أنني على قيد الحياة بل يعتقدون أنني توفيت، ولا أعلم إن كانوا يبحثون عني أم نسوا أمري» (أجريت هذه المقابلة قبل إيجاد عائلته في أصفهان).
لم يترك «العرب بوست» هذه المناشدة دون تحرك، فتوجه فريق صحافي إلى قرية دهسور في منطقة فريدن جنوب غربي مدينة أصفهان. ومن لقبه القديم عندما كان يمارس الألعاب البهلوانية، وصل الفريق إلى عائلته، مستفيداً من صوره ومقطع فيديو سجلناه في رسالة منه إليهم. فوجئت العائلة بأنه لا يزال حياً، فقد كانت تعتقد أنه استشهد مع عائلته خلال السنوات الماضية، خاصة أن غزةشهدت انتفاضة كبيرة وعدة حروب منذ ذلك الوقت.
هكذا، تم الاتصال الأول بعد 17 عاماً من الفقد! كان الاتصال تراجيدياً إلى الحد الذي أعاد إلى الرجل حياته من بعد الموت، كما قال (في مقابلة ثانية)، ثم سرعان ما انتكست حالته بعدما أخفقت المحاولات لإخراجه من غزة إلى إيران، رغم مناشدات وجهت منذ شهور إلى عدد من الجهات المسؤولة في الجانبين، لكن أياً منها وحتى في طهران لم يحرّك ساكناً!
في إيران، قالت العائلة إنها أجرت عدة محاولات للبحث عنه، خاصة عندما كان في اليمن في أواخر الثمانينيات، فقد سافر أخوه إلى سوريا ومن هناك إلى اليمن، لكنه لم يستطع العودة به، من أجل لقاء أولاده الأربعة أمير وأردشير وهاشم وصغرى. لكن مرت السنوات دون حدوث ذلك، وتوفّي الابن الأكبر له ثم زوجته من بعده.
بعد انقطاع الاتصال، بقيت العائلة تحاول التواصل مع السفارة الفلسطينية في طهران لتسأل عنه بعد انقطاع أخباره لكن دون جدوى. وهم اليوم، بعدما أجروا الحديث الأول منذ تلك السنوات، ومع رؤيتهم صور أطفاله وعائلته، يبدون استعدادهم لاستقباله مع أسرته، ويناشدون السلطات الإيرانية المسؤولة مساعدتهم في ذلك.
مع اجتماع المرض والفقر والحاجة، يجد الإيراني الذي وهب نفسه لفلسطين أنه أمام واقع إنساني صعب، فهو يفتقر القدرة على توفير علاج لنفسه ولاثنتين من زوجاته، كما أنه مصاب بأمراض أخرى أقعدته فراش المرض، وجل أمنيته كما يقول: «أريد أن أموت في بلدي إيران».
ويناشد شياسي قائد الثورة الإسلامية آية الله علي الخامنئي، والرئيس والمسؤولين الإيرانيين النظر إلى وضعه الإنساني، وجلّ طلبه كما يقول: «أريد الموت بجوار عائلتي، أريد فقط أن ألقي نظرة الوداع عليهم قبل وفاتي، أريد عناقاً أخيراً قبل أن أموت». /انتهى/.