يتبادر للأذهان سؤالاً مهماً الا وهو كيف ستلتف ايران على العقوبات الاقتصادية الجديدة خصوصاً في ظلّ الاستثناءات التي قدمتها واشنطن لثماني دول من عقوبات تطالها في حال استمرت في التعامل مع إيران ؟ وهل هذه الاستثناءات يمكن أن تكون فرصة لإيران لتجاوز أثار هذه العقوبات؟

وكالة مهر للأنباء، الدكتور سهام محمد: أول ما يمكن النظر اليه هنا هو أنّه بمجرّد وجود استثناءات بمفهوم الاقتصاد السياسي، فهذا يعني وجود تراجع من قبل الولايات المتحدة الامريكية في طريقة طرحها للعقوبات التي من الواضح انها لم تكن مدروسة بشكل جيد، وربما لم يكن مقدرا بشكل واضح ما يمكن ان تحدثه من نتائج كارثية ليس فقط على الدولة المطبق عليها هذه العقوبات من وجهة نظرهم، بل على العالم كله، فمن الغباء الاستهانة بمكانة وأهمية ايران كقوة اقتصادية وقدرات ايضا على الساحة الاقليمية والدولية. الاعفاء الذي اقرته الادارة الامريكية شمل ثماني دول وهي روسيا، الهند، كوريا الجنوبية، اليابان، اليونان، ايطاليا،تركيا، تايوان، وهي الدول الثمانية التي تتعامل فعلا ومن الاساس مع ايران على مستوى التجارة النفطية، وهنا يتبين لنا أنّ مسألة تصفير النفط الايراني ومنعه من التداول قد سقطت لأنه لا يمكن ولا بأي حال منع بيع النفط الايراني في السوق العالمية.

اولى تداعيات هذه الاجراءات العقابية الامريكية الجديدة، انه كان هناك خوف من ارتفاع  الأسعار العالمية للنفط وهذا سيكون خطيرا جدا ولن تستطيع لا امريكا ولا غيرها مواجهته. وقد أصبح من المؤكد اليوم، عدم قدرة امريكا على ايجاد بديل نفطي مناسب قد يعوّض عن شراء النفط الايراني او طرحه في السوق العالمية لتغطية النقص في الانتاج.انّ ايران أصبحت تملك خبرة عالية في كيفية التعامل مع العقوبات التي واجهتها  منذ اربعين عاما.

اليوم وعلى مستوى الاقتصاد السياسي، تمتلك ايران مقوّمات تجعل منها فاعل أساسي في المنطقة. فعلى مستوى موقعها الجغرافي تتمتع ايران بإمكانيات تجعل منها بوابة أسيا المثالية اقتصاديا واستراتيجيا وهي تمتلك من الادوات ما يمكنها من الضغط على مسار نقل مصادر الطاقة لكل العالم (مضيق هرمز)، وهذا من الممكن أن يؤدي الى ارتفاع الأسعار بمستوى مخيف وخطير. أيضا على مستوى مصادر الطاقة، تمتلك ايران اليوم 10 بالمائه من احتياطي النفط في العالم، و15 بالمائه من احتياطي الغاز، اذا هي لديها استراتيجية دفاعية اقتصادية طبقا لنظرية سياسة الاقتصاد المقاوم ولديها خبرة في التعامل مع هذا النوع من العقوبات.

للتذكير في 2011 كان الاقتصاد الايراني يحتلّ المرتبة 29 في العالم وكان الناتج المحلي وحجم الاعمال حوالي 337 مليار دولار، وكان بمرحلة صعبة حينها بسبب العقوبات الاممية المفروضة عليه. بعد توقيع الاتفاق النووي في 2015 من قبل ست قوى دولية، وهي الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة وألمانيا، أصبح الاقتصاد الايراني يحتل المرتبة 20 أما حجم الاعمال فقد بلغ 450 مليار دولار. ما يقلق الغرب وأمريكا اليوم ليس ثروات ايران النفطية انما الاهم انها باتت تمتلك المعرفة، وهذا غير مسموح عندهم ، وأنها أصبحت دولة نووية بامتياز، وأنها دولة صناعية ذات اكتفاء ذاتي صناعي وزراعي وتجاري وتكنولوجي. وأنها ايضا حققت انجازات على المستوى العلمي فهي انتجت 34156 مقالا علميا، ناهيك عن الانجازات الاخرى في المجال الاجتماعي والعدالة الاجتماعية وغيرها.

ان كانت العقوبات الامريكية على ايران هدفها اخضاع ايران وكسرها ، فقد حولتها هذه الاخيرة الى فرصة حقيقية. وهذا دليل اضافي على انّ العقوبات الجديدة لن تحقق النتائج المنتظرة لأنها عقوبات غير مدروسة. فإيران اليوم لديها اكتفاء على كل المستويات، اما على المستوى الجيوسياسي فلديها ارتباطات بأسواق ودول قادرة على ان تتجاوز هذه العقوبات. اليوم لدى ايران حلفاء أقوياء (روسيا-الصين). وبمجرد انشاء نظام "سويفت" عالمي جديد بقيادة روسية يطلق عليه اسم "اس اس اف"، تتعامل من خلاله ايران وروسيا والصين والهند وغيرها من الدول بالعملات المحلية فيما بينها، ستكون قادرة على تجاوز هيمنة الدولار.

الملاحظ ان هناك العديد من الدول الاوروبية تحاول التفاوض اليوم للانضمام لهذا النظام الروسي وهو نظام خارج النفوذ الامريكي بالتأكيد. اضافة الى انه منذ ايام يعمل في بروكسيل على نظام "سويفت" جديد تحت اسم " اس ب ف"، ايضا هي محاولة للخروج من هيمنة الدولار وحماية الشركات الاوروبية للدخول والعمل في اسيا عبر بوابة ايران. الموقع الاستراتيجي لإيران اليوم هو مدخل لقلب اسيا. معاناة الاوروبي تحديدا اليوم انه خسر كل شي، كل المواقع التي تركها حلّ محله الصيني فيها، وهذه بالمقاييس الاستراتيجية تعتبر كارثة للأوروبيين. اليوم يصرح الاوروبيون وهذا لأول مرة انّ الخطر الحقيقي على الامن القومي والاجتماعي الاوروبي قادم من أمريكا، فهي باتت الخاسر الاكبر.

ان مشكلة امريكا اليوم هو صراعها مع قارة أسيا فالعقوبات اصبحت مشروع للمواجهة السياسية التي اعتمدتها ادارة ترامب ولا تزال، فترامب منذ برنامجه الانتخابي دعا الى الانسحاب من كل الالتزامات الدولية، اولها اتفاق الشراكة بالمحيط الهادي، ثم الاتفاق النووي مع ايران، ثم الحدّ من اولوية الاهتمام بتفعيل اكثر لحلف شمال الاطلسي الذي كان على الدوام حلفا عسكريا تستخدمه امريكا لتطويع سياسات الهيمنة في العالم. كما قامت الادارة الامريكية في عهده بفرض عقوبات على روسيا والصين، وفرض ضرائب على أوروبا وكوريا الجنوبية واليابان. ما يحدث اليوم هو انكفاء للتدخل الأمريكي وهذا يعني انها لم تعد القطب الاوحد المهيمن في العالم. وفي مفهوم الاقتصاد السياسي هذا يعني تراجع حقيقي لم تشهده امريكا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

بالمحصلة تعد هذه العقوبات مجرد بروباغندا اعلامية اكثر منها واقعا مدروسا قد يثمر نتائج تستفيد منها الادارة الامريكية الحالية. لكن بالمقابل ستستفيد منها ايران وكل الدول التي ترفض الهيمنة الامريكية بالمطلق./انتهى/