تطرق الباحث الاجتماعي ادريس هاني في مقال له الى الدور الذي تلعبها الطقوس في الحياة الاجتماعية معتبراان الاجتماع الخالي من طقوس هو اجتماع خاوي الوفاض ولا يمكن أن يستمر ولا شيء يحل محلّ الطقوس في ربط المجتمع بالروح الجماعية.

وكالة مهر للأنباء- ادريس هاني: للطقوس الدينية والعرفية التي تناهضها السلفيات آثار إيجابية كما لها أضرار حين يتجاوزها الزمن..وبالنسبة للشق الثاني لن يكون موضوعا لمقالنا هذا، ولكن يمكن القول اختصارا إنّ المشكلة في معالم الطقوس التي يتجاوزها الزمن لها علاقة بالتعبيرات العرفية الثقافية والاجتماعية عن جوهر ديني معين، وحين يكشف الزمن عن بعض من آفات تلك العوارض يصبح الأمر أشبه ببعض الأعضاء التي فقدت وظيفتها البيولوجية..فيصبح التجديد ليس في الدين بالضرورة بل في العوارض الثقافية والاجتماعية التي تعبر عن ذلك الطقس..لكن ما يعنينا هنا هو ما يمثله الطقس في حياة الجماعة البشرية..ذلك لأنّ لكل أمة طقوسا خاصة بما فيها المجتمعات الحديثة..طقوس تجد حيويتها في الممارسة اللاّعقلانية ولكنها ترضي الطّباع والأذواق..وأي طقس لا يرضي الذوق العام لفئة ويؤذي فئة أخرى فهو طقس شاذ وغريب..
إنّني أنطلق من الفكرة التي عالجتها منذ سنوات حول حقيقة الإنسان باعتباره يتميز بهوية تخارجية سميتها بالتخارج النوعي، حيث الإنسانية فيه كما لا يخفى مكتسبة لا حقيقة..ويصعب أن نمثّل له بكهرب ينتقل من مدار إلى آخر، لأنّ هذه الحركة في الكهرب هي من شأنه..فالإنسان تُرك حرّا ليختار شأنيته ويلتزم بمداره فإذا خرج عن مداره فقد شأنيته..وتضمن الغريزة التزام الحيوان بمداره وشأنيته فهي غريزة عاقلة بالمعنى الكوني نظرا لأنها تقيد الحيوان بوظيفته التي خلق لها لكن الإنسان مزود بعقل هو مناط هذه الشأنية وضامنها وأحيانا يجد نفسه مناهضا للمعقول الكوني..غير أن الانسان له خاصية التمرد والشطط والانزياح بين المدارات، وحين يشط فيها يكون قد احتل ما لا ينبغي له، فينحدر إلى مدرك الأنعام..واعتقادي أن "بل" في الآية: (إن هم إلاّ كالأنعام بل هم أضلّ سبيلا)،هي استدراكية في المقام وليس عاطفة، لأنّ نزول الإنسان إلى مرتبة ليست من شأنه لا تجعله يضارع صاحب المرتبة، فلا يكون الإنسان حين يحتل مرتبة الحيوان حيوانا بل يكون أضلّ عن إنسانيته لأنّ الحيوانات الأخرى لا تضلّ عن ماهيتها، فلا يوجد حمار أحمر أو أقل حمارية من حقيقته ولا السباع والهوام، لكن يوجد إنسان أعلى وانسان أدنى..إن الإنسان لا يمكن أن يكون حيوانا ولو خرج من فصله وجنسه بل يكون أضلّ مخلوق لانزياحه عن شأنيته..
وبسبب التخارج النوعي لكائن يعقل ولا يعقل لا بدّ من رابط يشدّ عصب الإنسان ببعده الروحي والجماعي، فالاجتماع الخالي من طقوس هو اجتماع خاوي الوفاض ولا يمكن أن يستمر..ولا شيء يحل محلّ الطقوس في ربط المجتمع بالروح الجماعية، فالمجتمع ليس مصالح وقوانين صُلبة فحسب وليس ثقافة مجردة بل هو ثقافة حاضرة عبر ألوان من الطقوس التي يتحقق بها الرضى الجماعي..وهنا تأتي الطقوس الاحتفالية في شقها الأفراحي وشقها الأتراحي..فالطقس يمنح التدين نفسه روحا ويضرب مواعد ومواسم لتحيين وتجديد الروابط الروحية في المجتمع..فالدين في المجتمع ينتج طقوسا..وهنا خطأ السلفية أنها تحرم الطقوس والاحتفالات والتعبيرات الجماعية لأنها تنطلق من التجريد: أي الدين المجرد الذي لم يتنزل إلى المجتمع ويتحقق تداخل بين القيم الدينية الاعتبارية والقيم العرفية الجماعية..فالدين الذي لا تستتبعه طقوس هو دين ما قبل النزول..إنّ الديانات التي أبدعت لها طقوسا هي أكثر الأديان قدرة على البقاء، وهي الأكثر قدرة على الحفاظ على بعدها الروحي من الديانات السطحية التي لا تتوفر على طقوس..إنّ الإنسان الذي يتيح له تعريفه الماهوي أن يشطّ عن بعده الروحي الذي هو غريزته الأساسية في البقاء يحتاج إلى روابط ومناسبات واحتفالات تصله بأزمنة روحية وطوبوغرافيا روحية، فالإنسان الأعلى بخلاف الأدنى يصبح هو نفسه كينونة روحية منفصلة عن الزمان الروحي والطوبوغرافيا الروحية، لكن هذا الشدّ الروحي الزمني_المكاني ضرورة لحفظ ماهية الإنسان في وجوده الجماعي، وهو ما ينتج السلام..
وخلافا لذلك، كانت معرّة السلفية الظاهرية الكافرة بالطقوس مبدئيا وليس في عوارض ما يتصرم من رمزيتها بحكم تطور الأعراف والأذواق، فهم ليسوا بصدد تهذيب الطقوس بل هم بصدد نفي جدواها رأسا..أتراهم حقا استطاعوا أن يستغنوا عن الطقوس حتى حينما قلصوا من الزمن والمكان القدسيين؟
لقد وجدت السلفية في عنفها الظاهري تعويضا عن تلك الطقوس التي تصنع السلام طقسا خطيرا وشاذا عرفتها الأمم في أساطيرها المرعبة: طقوس الدم أو مصاصي الدماء..يبحث التكفيري الذي كفر بكل ما له علاقة بالأعراف والثقافات وأوجد تناقضا بينها وبين الدين عن ضحايا بصورة منتظمة لممارسة طقسه الدموي حيث أنّ طقوس الذبح وامتصاص الدماء باتت ممنهجة ومستمرة وتمارس بكل عوارض ممارسة الطقوس المقدّسة..فلقد أصبح لهذا الطقس مواسمه وزمنه وجغرافيته ولغته ورموزه وشيوخه ومريدوه..إنّ إماتة الدين وتضخم الفهم الظاهري للدين ليس فقط ينتج التخلف والتزمّت بل ينتج الإرهاب ويحول الجماعة السلفية إلى جماعة مصاصي دماء(Vampire)..ليس مصاصي الدماء ظاهرة خرافية بعد اليوم، بل لقد تحولت مع ظاهرة التدعّش إلى واقع حقيقي..فالفامبّير السّلفي يقوم بعملية غسيل دماغ تبدأ بتحطيم كل النشاطات الوقائية في مجال الممارسة الدينية الاجتماعية ليفرغه من كل محتوى روحي ويمنحه فهما محسوسا للدين تتحول فيه المتعة الدينية إلى متعة الكفار لكنها مضاعفة، فيكون الكافر وفق هذا الفكر أقل استمتاعا لأنّه ليس للكافرين كل هذا الشره السلفي للاستمتاع بالحور العين في الدنيا والآخرة وهم يفتكون بالنوع ويشربون الدماء أكثر مما يفعل الكفار في أزمنة الحروب الدينية..بينما الكفّار هم من يكفرون بالحياة والعقل ويستبيحون النسل والمال بينما حفظ الدين لا يتحقق إلا باحترام الحياة والعقل وحفظ النسل والمال..فالدين أما أن يكون روحانيا أم هي الكارثة..فالخيال الفامبيري السلفي كله يلتقي مع الطوبوغرافيا الفاجرة مع الفهم السلفي لظاهرة الحور العين...
أحيت السينما أساطير مصاصي الدماء، لكنهم باتوا بين ظهرانينا يرعون أكباد الخلائق ويمتصون دماء المواطنين في طقس إرهابي مقزّز..فما يحصل اليوم هو ضريبة إفراغ الدين الجماعي من طقوسه وهو الفقر الروحي الذي ينتح باسم الدين كل هذا الرعب والجريمة، أريد أن أخلص إلى نتيجة أنّ مايحصل اليوم هو نتيجة فراغ روحي تعاني منه الملّة الوهّابية أصل مصاصي الدماء الجدد، فليسوا أكثر الناس تديّنا بل أكثر الناس فقرا روحيا، لأنهم يعيشون خارج النسق الروحي الجماعي ويكفرون بالعرف والثقافة والتمثّلات الاجتماعية للروح..وما يحصل من فتاوى اليوم تحرم المناسبات والأعياد والطقوس وتكفر المجتمع في ذلك هو مقدمة لتحويل المجتمع إلى مزرعة لمصاصي الدماء..إنّ المأزق أعمق بكثير، فلا حلّ إلاّ بتفكيك الفهم الديني لهذه الملّة المنبعثة من القبور بعينين صفراوين وأنياب تقطر دما..إنّ السلفية وحيث أدركت أنّ خلوها من طقوس تشدّ عصبها الروحي هي في طريق الانقراض بلغت منتهى جنونها وهستيريتها ضدّ كل الأديان وغير الأديان، فهي في وضعية انتحارية بكل ما تعني الكلمة من معنى، ولقد أدركت أنّها لم تعد قادرة على البقاء بفعل المنشطات التي يوفرها شرب أبوال البعير بواسطة التمكين الرّيعي والبعيري وامتصاص الدماء بالإرهاب، فلاذت بأسوأ فهم للدين وأرعب خطاب للدين..وما تفعله الوهابية والسلفيات القاتلة والمقاتلة هو الوصول إلى نتيجة: إما الوهابية أو لا دين، والحقيقة أنّ الوهابية جاءت لتجعل الدين في حالة انتحار وليكون في خدمة الإمبريالية والفوضى الخلاّقة..لقد أطلقت الإمبريالية سربا من مصاصي الدماء ينبعثون كخلايا نائمة من داخل القبور..إنه مشهد سوريالي دموي..