وافادت وكالة مهر للانباء نقلاً عن "المنار" أن اللواء قاسم سليماني روى خلال المقابلة لقاء بولتون بوزير خارجيّة قطر حينها؛ ويقول الإسرائيليّون خلال اللقاء أنّ الجيش الإسرائيلي سوف يتلاشى في حال عدم إنهاء الحرب. كما ورد في اللقاء الذي أجراه مكتب حفظ ونشر آثار قائد الثورة الإسلاميّة مع قائد قوّة القدس قصّة تُنشر للمرّة الأولى حول الجلسة السريّة التي انعقدت بين مسؤولي الجمهوريّة الإسلاميّة وقائد الثورة في الأسبوع الأوّل لحرب تمّوز يذكر فيها الحاج قاسم خاطرة حول التقرير الذي قدّمه للإمام الخامنئي وردّة فعل سماحته وتعليقه على هذا التقرير.
إليكم نص المقابلة
نودّ أن نبدأ حوارنا بتحليل الأسباب التمهيديّة لوقوع حرب الثلاث وثلاثين يوماً. وقعت هذه الحرب بعد مرور 5 أعوام على التواجد العسكري لأمريكا في المنطقة وقيام هذا البلد باحتلال العراق وأفغانستان ومواجهة أمريكا خيبات عديدة في العراق وهذا ما جعل تنفيذ وتحقيق مخطّط أمريكا بشأن الشرق الأوسط الجديد يواجه مشاكل عديدة. لكنّنا رأينا فجأة أن ميدان الصّراع تغيّر فجأة وتمّ اختيار لبنان كساحة لتنفيذ هذا المخطط واندلعت حرب الثلاث وثلاثين يوماً. ما هو سبب وقوع هذا الأمر؟
بسم الله الرحمن الرحيم، أعزّيكم بمناسبة أيام عزاء سيد الشهداء الحسين بن علي عليه الصلاة والسلام. كانت هناك في قضية حرب الـ 33 يوماً عوامل خفية وهي العوامل والأسباب الحقيقية للحرب. كان هناك سبب ظاهري وواضح لكنه كان ذريعة لأهداف خافية أراد الكيان الصهيوني تمريرها والوصول إليها خلال فترة معينة. طبعاً حين أقول كانت هناك أسباب وعوامل خفية فقد كانت لنا معلومات حول استعدادات الكيان الصهيوني، لكننا لم تكن لدينا معلومات حول أن العدو يريد شن هجوم مباغت. وبعد ذلك توصلنا من موقفين أو قضيتين إلى هذه النتيجة وهي أنه كان المقرر قبل بدء هذه الحرب أن تُشنّ بسرعة وبشكل مباغت، وكان يفترض القضاء على حزب الله في هذا الهجوم المباغت. وقد وقعت هذه الحرب في ظروف وقع فيها حدثان مهمان أحدهما يتعلق بالمنطقة كلها والثاني يتعلق بالكيان الصهيوني على وجه الخصوص. في خصوص المنطقة كانت أمريكا قد حشدت قواتها بشكل كبير جداً في المنطقة نتيجة لحادثة الحادي عشر من سبتمبر، وما يشبه هذا التحشيد يمكن أن نراه في الحرب العالمية الثانية، طبعاً من الناحية الكمية فقط وإلا فمن الناحية النوعية لم يكن لهذا التحشيد نظير حتى في الحرب العالمية الثانية.
في سنة 1991 ونتيجة هجوم صدام على الكويت قامت أمريكا بهجومها، وكان لهزيمة صدام ترسباته التسليحية في منطقتنا والذي أدّى إلى تكريس القوات الأمريكية. لكن بعد الحادي عشر من أيلول بسبب الهجومين الكبيرين لأمريكا دخل ما يقارب أربعون بالمائة من القوات المسلحة الأمريكية إلى منطقتنا بشكل مباشر، وبعد ذلك على امتداد الزمن وبسبب التغييرات التي حصلت وصل الأمر حتى إلى القوات الاحتياطية والحرس الوطني. أي يمكن القول على وجه التقريب أن ستين بالمائة من الجيش الأمريكي سواء القوات الداخلية أو القوات الخارجية دخلت إلى منطقتنا. وإذن، فقد حصل تواجد عسكري ضخم جداً من الناحية الكمية حيث كان لهم في العراق فقط 150 ألف جندي وما يزيد على ثلاثين ألف جندي أمريكي في أفغانستان، هذا ما عدا قوات التحالف التي كان عديدها في أفغانستان حوإلى 15000 مقاتل.
إذن كانت هناك قوات من مائتي ألف مقاتل متخصص ومدرب في منطقتنا إلى جوار فلسطين؛ وهذا التواجد يوفر بطبيعة الحال فرصاً مناسبة للكيان الصهيوني. فالتواجد الأمريكي في العراق كان يمنع تحرك السوريين في سوريا وكان تهديداً ضد الحكومة السورية ويعد أيضاً تهديداً ضد إيران. وعليه، لو نظرتم لجغرافيا العراق في حرب 2006 أي حرب الـ 33 يوماً لوجدتم أن أمريكا أوجدت حاجزاً من 200 ألف مقاتل بين البلدين الأساسيين في محور المقاومة، وبمعونة مئات الطائرات والمروحيات مضافاً إلى آلاف الأجهزة المدرعة. ومن الطبيعي أن يمنح هذا الواقع فرصة للكيان الصهيوني ليستفيد من هذه الظروف ويقوم بعمل ما، بمعنى أن هذا التواجد والهيمنة يفترض أن يكون له تأثيره في إخافة إيران وفي إخافة وشلّ سورية بحيث ينبغي أن لا يستطيع هذان النظامان القيام بشيء. تحرّك الكيان الصهيوني على أساس هذا التصور خصوصاً أن الحكومة الأمريكية آنذاك هي حكومة بوش الإبن وهي حكومة متشددة حادّة المزاج وسريعة في اتخاذ القرارات، لا سيما الفريق الذي كان يحكم في البيت الأبيض وهو صديق للكيان الصهيوني. وعليه، وجدوا الفرصة مناسبة للمبادرة إلى مثل هذا الفعل.
إذن، الجذر الأصلي للقضية هو انتهاز الكيان الصهيوني للتواجد العسكري الأمريكي في المنطقة، وانتهاز فرصة سقوط صدام والانتصار الأمريكي الأوّلي في أفغانستان، وأجواء الرعب الثقيلة التي خلقتها أمريكا في المنطقة حيث اتهمت عدداً كبيراً من الجماعات السياسية في المنطقة والعالم بأنهم جماعات إرهابية فيما إذا عارضوا سياساتها. أراد الكيان الصهيوني انتهاز هذه الفرصة، واعتقد أن هذه خير فرصة لحرب خاطفة، لأنه كان قد انهزم سابقاً في عام 2000 ميلادي، وانسحب من لبنان والواقع أنه هرب من لبنان بعد أن فرض عليه حزب الله الهزيمة. ويريد الآن أن يعود ثانية، لا أن يعود للاحتلال، بل يعود للتدمير والتغيير الديموغرافي في جنوب لبنان. وهذا ما تبيّن لاحقاً في أثناء الحرب ومع انطلاقتها تقريباً. أساس نيتهم كانت التغيير الديموغرافي الكامل بحيث يجري إبعاد القوى الشعبية في جنوب لبنان ممن لهم علاقاتهم الدينية مع حزب الله من سورية على غرار ما حصل بعد 1967 مع الفلسطينيين في جنوب لبنان، مثل هذا المشروع كانوا يريدونه للشيعة في جنوب لبنان. إنه المشروع السابق الذي مارسوه مع الفلسطينيين بالضبط. فرضوا على الفلسطينيين أن يخرجوا من جنوب لبنان ويعيشوا في مخيمات متعددة في لبنان وسورية وغيرها من بلدان العالم العربي، بل إن عرفات اضطر إلى تغيير مقره من لبنان إلى تونس والمغرب. والواقع أنهم يريدون خلق إدارة مشردين. هذه النية نفسها كانت موجودة بشأن شيعة لبنان. لهذا أعود إلى ما قبل الحرب ليتضح هذا الموضوع بالكامل.
كانت هناك عبارتان مهمتان للأمريكيين والإسرائيليين في هذه القضية. عبّر بوش بألفاظ مبتذلة جداً في بداية الحرب، وكانت مكبّرة الصوت شغالة، ولأن الكلمة التي قالها هي بمستواه لذلك لا يمكنني تكرارها. قال تلك الكلمة في تأييد هذا الأمر ولكن ليس في تأييد الحرب، بل في تأييد نتيجة الحرب. والتعبير الآخر الأكثر أدباً ودبلوماسية قالته رايس عندما بلغت تلك المذابح والتقتيل والصخب في جنوب لبنان ذروتها؛ وكان القصف قد ذروة سكرة التكنولوجيا وكانوا قادرين على قصف وتدمير أي مكان يريدونه بفضل الدقة التكنولوجية. ووقعت مذابح جعلت مجزرة قانا في مطاوي النّسيان. استخدمت تلك العبارة أي إنها شبهت تلك الضجة تشبيهاً سخيفاً وقالت إن هذه هي آلام ولادة الشرق الأوسط الجديد. ضجيج الضحايا تحت الأنقاض والأطفال المظلومين والنساء والأبرياء شبهته بألم وعسر ولادة حدث كبير. إذن، كانت في هذه التعابير دلالة على وجود مشروع كبير. أما فيما يتعلق بالكيان الصهيوني فقد كان أعد مخيماً كبيراً وأعد أيضاً عدداً من السفن. أعد مخيماً ليستوعب أكبر قدر ممكن من الناس؛ كان هناك في البداية مخيم في داخل فلسطين يصل مدى استيعابه إلى سقف ثلاثين ألف إنسان. ينقلهم إليه ثم يفرزون في هذا المخيم بين الناس العاديين فينقلونهم إلى بلدان وأماكن أخرى، وبين الذين يعتبرونهم مجرمين أو مرتبطين بمنظمة حزب الله فيقبضون عليهم. وكانوا قد أعدوا سفناً للتسفير. لذلك كانت الحرب في تلك المرحلة بدقة تكنولوجية عالية خلافاً لكل الحروب التي تحرق الأخضر واليابس. أي إنهم أرادوا مهاجمة طائفة بكاملها.
في البداية حاولوا تبديل القضية إلى قضية حزب معين أي حزب الله. ثم وسعوا الأمر إلى كل الطائفة الشيعية في جنوب لبنان ليستطيعوا تنفيذ هذا التغيير الديموغرافي بالكامل في الجنوب. هذا ما يمكن فهمه عن جذور الحرب في بعدها الخفي وهو ما اعترفوا به لاحقاً حيث اعترفوا بأنهم كانوا يعتزمون، أي إن أولمرت قال ومن بعده وزير دفاعه ورئيس أركان الجيش قالوا كنا نعتزم القيام بهذه الحرب بشكل مفاجئ، ولو حصلت تلك المباغتة فكان المفترض أن تتدمر معظم طرق حزب الله بالهجمات الجوية الواسعة. في المرحلة الأولى كان يجب أن تصيب الخسائر والأضرار الفادحة ما لا يقل عن ثلاثين بالمائة من تنظيم حزب الله. وفي مرحلة لاحقة كانوا يريدون تدميره على نحو قاطع. لكن الأساس هو انتهاز التواجد الأمريكي الواسع في العراق وأفغانستان والمنطقة، ورغبة البلدان العربية في دعم إسرائيل في مثل هذه الحرب وموافقتهم على استئصال جذور حزب الله أو الطائفة الشيعية من جنوب لبنان؛ وهذا ما قاله أولمرت. قال في إحدى كلماته إنها المرة الأولى التي تجتمع فيها كل البلدان العربية، طبعاً حين يقول كل فذلك بمعنى الأغلبية من البلدان العربية، والمراد هنا طبعاً بلدان الخليج الفارسي ومجلس التعاون، لكن الأمر يشمل مصر أيضاً بطبيعية الحال ولم تكن البلدان الأخرى مستثناة من هذا الأمر. ولكن كان يمكن القول ببعض الاستثناءات في تلك الفترة، وتعلمون أن العراق كان يفتقر للسيادة، فقد كان الحاكم في العراق آنذاك هو بريمر، الحاكم العسكري الأمريكي، وكانت سيادة العراق بيد الأمريكيّين. وكانت الحكومة السورية دولة فتية شابة بسبب موت حافظ الأسد وقد بدأت العمل تواً. لذلك حين يقولون كل البلدان يقصدون تلك الأغلبية. وهكذا قال إنها المرة الأولى التي تجتمع فيها كل البلدان العربية لتدعم إسرائيل في حربها ضد منظمة عربية. هذا الذي قاله حقيقيّ، وهو تعبير عن واقع مهم وجاد.
إذن ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار ثلاثة أهداف لهذه الحرب. أوّلاً فرصة التواجد الأمريكي وسيادة أمريكا على العراق والرعب والفزع الذي بثه التواجد الأمريكي في المنطقة. ثانياً استعداد البلدان العربية وإعلانها الخفي للتعاون مع الكيان الصهيوني في حربه لاستئصال حزب الله والتغيير الديموغرافي في جنوب لبنان. وثالثاً الأهداف التي سعى إليها الكيان الصهيوني نفسه فيما يخصّ استغلال هذه الفرصة للتخلص من حزب الله إلى الأبد. شكّلت هذه الأهداف الثلاثة الأهداف الخفية التي مثلت أسباب وجذور الحرب.
لقد فصّلتم الأسباب الخفيّة لهذه الحرب بشكل جيّد، ماذا كانت ذريعة انطلاق هذه الحرب والأسباب الظاهريّة لها؟
حول الذريعة العلنية كان ظاهر القضية أن حزب الله التزم أمام الشعب اللبناني كسائر التزاماته أمام الشعب اللبناني، ولم تكن هناك قوة غير حزب الله تستطيع تنفيذ هذا الالتزام في تخليص الشباب السجناء اللبنانيين من قبضة الكيان الصهيوني. وقد وعد السيد بهذا في إحدى كلماته بأننا سوف نعمل على تحرير الأسرى اللبنانيين من قبضة الكيان الصهيوني كما حصل في الماضي. لم يكن أمام الشعب اللبناني من أمل وملاذ لتحرير الأسرى سواء كانوا من الدروز أو المسلمين أو المسيحيين سوى حزب الله، لا في الأمس ولا في الحاضر، أي إن حزب الله هو السند الأساسي للشعب اللبناني في أية حادثة وللدفاع عن نفسه أمام الحكومة الإسرائيلية الوحشية. هذا تصريح تم إطلاقه والتصريح به. وفي عمليات تبادل الأسرى السابقة لم تفرج إسرائيل عن بعض الشباب الناشئة الذين طال بهم السجن فأصبحوا الآن كهولاً. وعد حزب الله بذلك ولم يتحقق ذلك في العمليات الأولى لتبادل الأسرى أو إن إسرائيل لم توافق على تحرير هؤلاء الأسرى. لذلك بادر حزب الله إلى العمل لتحقيق هذا الوعد الذي قطعه للشعب اللبناني، حتى يستطيع أن يقوم بتبادل الأسرى نتيجة هذه العمليات، وقد نجح في ذلك بعدها.
لذلك على أساس عمليات خاصة ولا أدري أي اسم أطلق على قائد تلك العمليات الخاصة، هل أقول لواء وهذه الكلمة أصبحت شائعة جداً وقد كان هو فوق هذه الكلمة. في الأعراف العسكرية في بلادنا اليوم شاعت كلمة اللواء والأمير. ولكن الحق أن الشهيد عماد مغنية كان لواءً بالمعنى الحقيقي للكلمة. كان لواءً في ساحة الحرب صفاته أشبه بصفات مالك الأشتر. وقلت عند استشهاده لاحقاً، وهذا الكلام ليس في مكانه الآن، [عند استشهاده] حصلت نفس الحالات والعبارات التي حصلت لسيدنا أمير المؤمنين عند استشهاد مالك، أي أنّ حالة حزن وهمّ استثنائي استولت على الإمام، حتى أنه بكى فوق المنبر وقال: «مَالِكٌ وَمَا مَالِكٌ، وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ جَبَلاً لَكَانَ فِنْداً وَلَوْ كَانَ حَجَراً لَكَانَ صَلْداً لاَ يَرْتَقِيهِ اَلْحَافِرُ وَلاَ يُوفِي عَلَيْهِ اَلطَّائِرُ» ثم قال هذه العبارة المهمة للغاية وهي أن مالك كان لي كما كنت لرسول الله. وقد كان الحال نفسه بالنسبة لعماد مغنية، أي إن عماد كان بالنسبة للمقاومة بمثل هذه المكانة، وقلت إنني لو أردت أن أتجاوز هذه الأعراف السائدة عندنا فيجب أن أشبهه بمالك في عبارة الإمام أمير المؤمنين عنه. قال فلتلد النساء حتّى يلدن مثل مالك. لقد كان عماد مثل هذه الشخصية. لقد كان يتولّى إدارة هذه العملية كما تولّى إدارة الكثير من المهمات والساحات الصعبة. كانت إدارة هذه العمليات الخاصة على عاتقه وكان يشرف عليها ويديرها عن قرب. وقد نجحت عملياته واستطاع في داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة أن يهاجم عربة للكيان الصهيوني ويأسر منها شخصين وهما جريحان. لقد كانت هذه ثلاث عمليات ولم تكن عملية واحدة. كانت في الواقع ثلاث عمليات منفصلة خاصة. أولاً كان أساس التخطيط، وثانياً اجتياز أسلاك شائكة مكثفة جداً وعالية وواسعة للكيان الصهيوني والوصول، لأن العمليات لم تكن مجرد ضرب وتدمير، إنما كان ينبغي حصول حالة عبور والذهاب إلى الجانب الآخر والإتيان بأسرى. لذلك ينبغي العمل بكل دقة من أجل عدم مقتل الأشخاص داخل العربة. ثالثاً كان يجب العمل بمنتهى السرعة وخلال دقائق فقط، ولم يكن بالإمكان تطويل الأمر لربع ساعة أو نصف ساعة، بل كان الأمر بالدقائق والثواني. كان ينبغي العبور بسرعة وقبل أن يصل الأعداء. وعادة ما كانت المسافة الفاصلة بين العدو ونقطة العمليات عدة دقائق. هذا عن المسافة البرية أما المسافة الجوية فهي أسرع من هذا بكثير وكان يمكنه الوصول والاستيلاء على الأسرى. والعمليات الثالثة هي الوصول بهم إلى منطقة آمنة بسرعة وفي مأمن من تهديدات العدو، وقد نجح عماد [في ذلك].
بدأت الحرب بهذه الذريعة وتمّ شنّ هجمات قاسية على مواقع حزب الله، كيف كانت ردّة فعل حزب الله في لبنان في الساعات والأيام الأولى؟ خاصّة أنّ إسرائيل كانت قد جعلت أسر حزب الله للجنديّين ذريعة لشنّ هذا الهجوم الوحشي، وهذا مما فرض بطبيعة الحال ضغوطاً نفسيّة.
يجب أن نشير إلى نقطتين. بسبب أن حزب الله مشتبك مع عدو لا يمكن التصالح معه، أي إن حزب الله من الناحية العقائديّة والمنطق السياسي لا يمكنه التصالح مع هذا العدو، وذلك العدو أيضاً لا يريد الصلح مع حزب الله، لذلك فهذا العداء بين الجانبين عداء مستمر. وقد كان في ذلك الحين أيضاً عداءً مستمراً. لذا فحزب الله جاهز دائماً وباستمرار من الناحية الدفاعية. هذه نقطة. إذن لم يكن حزب الله فارغ البال وغير جاهز بل كان جاهزاً مستعداً. وهذه الجاهزية لا علاقة لها بتلك العمليات، فهذه العمليات زادت من الجاهزية والاستعداد في أبعاد أخرى، وضاعفت من اليقظة والترقب، لكن الجاهزية كانت موجودة مسبقاً على مستوى القوات المقاتلة والمعدات والإمكانيات. وكذا الحال الآن أيضاً أي إن حزب الله جاهز دائماً بأقصى الدرجات ومائة بالمائة. وليست جاهزيته من قبيل الجاهزيات الأخرى التي يصفونها بأنّها صفراء ثم ترتفع إلى مستوى الاستعداد والجاهزية الحمراء، أو مثلاً الجاهزية بنسبة ثلاثين بالمائة ثم سبعين بالمائة ثم مائة بالمائة، لا، إنما حزب الله جاهز دوماً مائة بالمائة. كان يومذاك في جاهزية مائة بالمائة واليوم أيضاً جاهزيته مائة بالمائة. بيد أن نوعية هذه الجاهزية تختلف من فترة إلى أخرى بسبب الإمكانيات والقدرات.
النقطة الثانية هي أن أية خطوة يريد حزب الله اتخاذها يتخذ لها تمهيدات أمنية مسبقة. لذلك عندما قرر حزب الله تنفيذ العمليات للقبض على الجنديين الصهيونيين من أجل ذلك التبادل المهم والمصيري فقد عمد أولاً إلى إيجاد جاهزية واستعداد ذاتي. وقد كان لهذه الجاهزية وضعان اثنان. الأول الجاهزية في المواجهة، والثاني الجاهزية في تقليل الخسائر. ولهذا طوال الفترة التي قام بها الكيان الصهيوني بهجماته وخصوصاً في الساعات الأولى واليوم الأول والأيام الأولى وكان له طبعاً بنك معلوماته المسبق وقدم كل معلوماته لقوته الجوية فقصفت على أساس هذه المعلومات التي تحتوي على إحداثيات دقيقة عن مواقع حزب الله، ولكن بسبب التدابير المسبقة التي اتخذها حزب الله نجد أنه تلقّى أقل ما يمكن من الخسائر سواء في الأفراد أو في المعدات والتجهيزات، بل ويمكن القول إنه لم يتضرر أبداً في اللحظات الأولى. وبعد عشرة أيام أعلن الكيان وفقاً لبنك معلوماته أنه توصل إلى جميع أهدافه، أي أنه دمر كل الأهداف الموجودة لحزب الله حسب بنك معلوماته، ولكن تبين لاحقاً أن كل ما قام به كان بخلاف المتوقع والمأمول، وذلك بسبب الخطوات والابتكارات التي قام بها حزب الله قبل البدء بعملياته متحسباً لردود أفعال العدو.
هذه إذن النقطة الأولى أما النقطة الثانية هي أنه في التخمينات المسبقة للحرب وتقدير ردود أفعال الطرف المقابل غالباً ما لا تؤدي هذه العمليات وردود الأفعال حيالها إلى حرب شاملة كبيرة. ستكون هناك ردود فعل ليوم واحد فيهاجم الكيان مناطق ونقاطاً معينة بشدة ثم يوقف الهجوم. ولكن في هذه المرة بدأ الكيان بتنفيذ كامل لعملياته التي خطط لها مسبقاً. أي أنّ الكيان بدأ بتنفيذ ذلك المشروع الذي خطط له في السر. طبعاً نحن الآن نقول إنه مخطط سري وسوف أقول لاحقاً في الإيضاحات إننا توصلنا بعد أسبوعين تقريباً إلى هذه النتيجة على شكل عقيدة، وسوف أقول لماذا توصلنا لهذه النتيجة من خلال العقيدة وليس من ناحية معلوماتية واستخبارية. في أواخر الحرب تقريباً توصلنا إلى أن العدو كان له مخططه المسبق وأراد أن يعمل بطريقة مباغتة تماماً. وقد كان جزء كبير من فهمنا هذا عائد إلى ما أعلنه العدو نفسه. وعليه فقد تحولت العمليات بأسرع ما يمكن إلى حرب شاملة كأنها مخزن عتاد ومتفجرات كبير تفجر بصاعق واحد. وكأن ذلك المخطط والمشروع دخل حيز التنفيذ دفعة واحدة وحصل هذا الانفجار الكبير الذي نسميه حرب الـ 33 يوماً.
أين كنت جنابك خلال أيّام الحرب؟
في اليوم الأول لوقوع الحادث عدت إلى لبنان، لأنني كنت هناك قبل يوم من ذلك. وعدت إلى سورية، ولكن لأن كل الطرق كانت عرضة للقصف والهجمات وخصوصاً الطريق الوحيد الرسمي للدخول والذى يسمّى المصنع وهو المعبر الحدودي بين لبنان وسورية حيث كان عرضة لقصف مستمر من قبل الطائرات ولم تكن الطائرات لتتركه آمناً حتى للحظة واحدة. كان لنا اتصالنا بالأصدقاء عن طريق خط آمن، وجاء عماد إليّ وأخذني من سورية إلى لبنان عن طريق آخر جزء منها يجب أن نمشيه على الأقدام وجزء آخر منه بالسيارة. كان التركيز في الحرب خلال تلك الأيام لا يزال على البنايات الإدارية لحزب الله وفي منطقة الجنوب غالباً وأحياناً في مناطق في الوسط والشمال. كان الأسبوع الأول على وشك الانقضاء وأصروا من طهران على أن أحضر لتقديم إيضاحات حول الوضع، فعدت عبر طريق فرعي. وكان سماحة السيد القائد آنذاك في مشهد، فذهبت للقائه في الاجتماع الذي حضره رؤساء السلطات الثلاث والمسؤولين الأساسيّين الأعضاء في مجلس الأمن القومي المختصين غالباً في الجوانب الأمنية والمعلوماتية.
قدمت تقريراً عن الأوضاع، وكان تقريراً مراً سلبياً. أي إن مشاهداتي لم يكن فيها أفق للانتصار. وكانت الحرب حرباً مختلفة تماماً. كانت حرباً تقنية دقيقة بشدة. البنايات ذات الإثني عشر طابقاً كانت تسوّى بالأرض بقنبلة واحدة، وكان يجري اختيار الأهداف بدقة. في داخل القرى والمسافات الفاصلة بين القرى قليلة جداً والقرى ملتصقة بعضها ببعض والتمييز بينها صعب على المدفعية، ومع ذلك كان يجري التمييز بين قرية وقرية. كانت الحرب آنذاك قد انتقلت من استهداف حزب الله إلى استهداف طائفة برمّتها. وكانت هناك قرى شيعية وقرى مسيحية بجوارها وقرى سنية بجوارها، وكان الأمر مختلفاً تماماً بالنسبة لهذه القرى. ففي مكان ما كان الرجل يجلس مرتاح البال يدخن النرجيلة وفي مكان آخر كانت تمطر عليهم آلاف الحمم والرصاص. قدمت تقريري في ذلك الاجتماع وحان وقت الصلاة فقاموا إلى الوضوء، وقمت أنا أيضاً لأتوضأ، وتوضأ السيد القائد. شمّر عن ساعديه وتوضأ وعاد وأشار لي بيده أن تعال. ذهبت إليه. سألني هل أردت أن تقول لي شيئاً في تقريرك هذا؟ فقلت له: لا، أردت فقط إيضاح الواقع. فقال السيد: فهمت هذا، ولكن ألم ترد قول شيء آخر؟ فأجبته: لا. صلينا وعدنا للاجتماع، وانتهى تقريري. وبدأ السيد القائد بالحديث، فذكر عدة نقاط وقال إن النقاط التي أشار لها فلان حول الحرب صحيحة. فهذه الحرب حرب صعبة وشديدة جداً. لكنني أتصور أن هذه الحرب تشبه حرب الخندق. وقرأ السيد آيات حرب الأحزاب أو حرب الخندق وكلاهما حرب واحدة، ووصف حالة المسلمين وأصحاب الرسول والوضع الذي استولى على صفوفهم. ثم قال لكنني أتصور أن الانتصار في هذه الحرب سيكون مثل الانتصار في معركة الخندق. اهتز قلبي لهذا القول، لأنني لم أكن أتصور أبداً مثل هذا الشيء من الناحية العسكرية. تمنيت في قرارة نفسي أنه ليت السيد القائد لم يقل هذا، وهو أن النتيجة ستكون انتصاراً على غرار انتصار الرسول الكبير في معركة الأحزاب.
بعد ذلك أشار إلى نقطتين مهمتين للغاية. أولاً قال، وأنا تصوري وعقيدتي التي أقولها للأصدقاء دائماً في ضوء تجربتي طوال عشرين عاماً مع السيد القائد أن نتيجة وثمرة التقوى هي الحكمة التي تجري على لسانه وقلبه وعقله، وهذا ما شاهدته تماماً لدى السيد القائد، تماماً. لذلك فأي شيء يشكك فيه الآن أكون أنا واثقاً أن نهاية ذلك الشيء سيكون ملتبساً غير قويم، وأي شيء يتيقن منه أكون أنا مطمئناً من أنه سيكون مفيداً وإيجابياً. قال السيد القائد إنني أتصور أن إسرائيل أعدّت هذا المخطط مسبقاً وكانت تريد تنفيذه بشكل مفاجئ ومباغت وتريد مباغتة حزب الله. لكن عملية حزب الله في القبض على الأسيرين أفسدت على إسرائيل مباغتتها. لم تكن لدي هذه المعلومات، ولم تكن هذه المعلومات متوفرة للسيد نصر الله أيضاً. أي منا لم تكن لديه مثل هذه المعلومات بمن في ذلك عماد مغنية. لم تكن لدى أي واحد منا هذه المعلومات والمعطيات. حسناً، كانوا على الحدود ويرون. لقد كانت هذه بشرى سارة جداً بالنسبة لي لأنها سوف تساعد السيد نصر الله كثيراً وتريحه. ولم يكن الأمر بهذه الشدة في بداية الأمر واشتد في النهاية حيث ازداد عدد الشهداء وحجم الدمار والخسائر. وصرّح السيد نصر الله بعبارات أثرت في كثيراً. ولا أريد تكرار تلك العبارات. وجدت أن تلك العبارات جيدة جداً بالنسبة له. وقد يشمت أحد فيقول لماذا عرّض حزب الله الشيعة كلهم للخطر من أجل القبض على أسيرين. ولكن أن يكون حزب الله قد أنقذ نفسه والشعب اللبناني من الدمار الكامل بالقبض على الأسيرين فهذه بشارة كبيرة ومهمة. ونقطة أخرى قالها السيد القائد كان لها طابع معنوي روحي. قال قولوا لهم أن يقرأوا دعاء الجوشن الصغير. والمعروف لدى الشيعة هو دعاء الجوشن الكبير. أما دعاء الجوشن الصغير فليس معروفاً كثيراً بين عامة الشيعة على الأقل، وقد يختلف الأمر بالنسبة للخواص. ثم أوضح السيد القائد بأنه يجب أن لا نتعجب من هذه التوصية بقراءة دعاء الجوشن الصغير، كما يتعجب البعض حين يقال له إقرأ سورة الإخلاص أربع مرات أو سورة الفاتحة. أوضح السيد القائد أن دعاء الجوشن الصغير هذا يمثل حالة الإنسان المضطر، الإنسان الواقع في حالة اضطرار شديد ويريد التكلم مع الله، هذه حالة إنسان مضطر. في اليوم نفسه عدت إلى طهران مساء وعدت ثانية إلى سورية.
جئت وعدت من هناك فوراً إلى سورية، لكنني كنت أحمل شعوراً طيباً جداً، أي إنني كنت أحمل شيئاً ربما كان أثمن من أي شيء آخر بالنسبة للسيد نصر الله. وجاء عماد مرة أخرى وعدنا في ذلك الطريق، وذهبت إلى السيد نصر الله ورويت له الأمر، وربما لم يكن أي شيء آخر مؤثراً في معنويات السيد نصر الله مثل تلك الكلمات. أولاً لديه خصوصية لم يصل أي واحد منا إليها بنفس تلك الدرجة، بل أظن أننا يجب أن نذهب ونتعلم دروس الولاية منه. لديه إيمان وعقيدة راسخة بكلمات سماحة السيد القائد، ويعتبرها كلمات إلهية غيبية. لذلك يهتم اهتماماً شديداً بأية كلمة أو عبارة تصدر عن سماحة السيد القائد، ويعتني بها عناية كبيرة. أوضحت له الأمر ففرح كثيراً. في البداية ذاع بين كل المجاهدين بسرعة قول السيد القائد بأن الانتصار في هذه الحرب سيكون مثل الانتصار في معركة الخندق أي أن فيها شدائد وصعوبات كثيرة لكنها ستنتهي بنصر كبير، انتشر هذا الرأي والبشارة بين المجاهدين انطلاقاً من الذين كانوا في نقاط التماس المتقدمة أمام العدو وصولاً إلى سائر صفوف المجاهدين. ثانياً أضحى التحليل القائل بأن العدو أعد مشروعاً مسبقاً الأساس لنشاطات السيد نصر الله في الإيضاح للرأي العام وتنبيه الناس لنوايا العدو. وفي خصوص القضية الثالثة انتشر دعاء الجوشن الصغير انتشاراً كبيراً، وفيه الكثير من المفاهيم العرفانية والروحية القيمة، وربما أمكن القول إنه من أفضل الأدعية في مفاتيح الجنان ويتضمن مفاهيم معنوية عبودية كثيرة. انتشر هذا الدعاء انتشاراً كبيراً وكانت قناة المنار تبثه باستمرار وبصوت حسن وحزين جداً، وكانوا يقرأونه في الساحة المسيحية أيضاً. لأن الدعاء دعاء إلهي عرفاني لا يختص بطائفة دون غيرها. وكل من له عبودية لله وتعبده لله وإيمانه بالله وبالقدرة الإلهية سيؤثر فيه هذا الدعاء، وقد أثر كثيراً. وقد أصبح هذا الشيء بداية لانطلاقة جديدة ويتسنّى لي القول إنه كان بمثابة دماء جديدة تضخ في وجود حزب الله ليستطيع بأمل أكبر وبثقة بالنفس أكبر أن يواصل المعركة مع العدو.
هل قمتم خلال الحرب بنقل رسالة أخرى من الإمام الخامنئي إلى السيّد حسن نصرالله وقادة حزب الله؟
لم أعد حتّى انتهاء الحرب، وبقيت هناك بشكل كامل طوال الـ 33 يوماً. بعد أن انتهت الحرب عدت من لبنان وشاركت في اجتماع شبيه بذلك الاجتماع في مشهد ولكن في طهران هذه المرة عند سماحة السيد القائد، وحضرها كل رؤساء السلطات والمسؤولين الكبار، وقدمت تقريراً بما حصل وحدث وقد نشر جانب منه. إضافة إلى ذلك كنت أبعث تقاريري يومياً عن طريق خطنا الآمن إلى طهران ليكونوا في سياق الأحداث والميدان بشكل كامل.
ماذا كانت الآراء المحليّة داخل إيران حول كيفيّة تصدّي الجمهوريّة الإسلامية في إيران وردود فعلها؟ هل كانت هناك آراء مخالفة بين المسؤولين أو أنّ الجميع كانوا مُجمعين على كيفيّة الرّد؟
لا، لم يكن هناك في تلك الفترة اختلاف في وجهات النظر أبداً. فالكل كانوا مجمعين على دعم حزب الله دعماً معنوياً ومادياً أي بالأسلحة والمعدات والإمكانيات والإعلام وما يندرج ضمن قدرات واستطاعة الجمهورية الإسلامية. لم يكن هناك شخص يشكك في ذلك داخل النظام. في تلك الفترة على الأقل، لأنني حين كنت هناك كنت أسمع ما يجري ولم يكن هناك أي قلق من هذه الناحية. كانت هناك وحدة تامة في الجمهورية الإسلامية بخصوص دعم حزب الله والسعي لانتصار حزب الله، وكانت هناك وحدة كلمة بالمعنى التام في الجمهورية الإسلامية. كان هنالك تعبد بخصوص هذا الدعم، والقطب الأساسي لهذا الدعم هو سماحة السيد القائد، لذلك لم يكن هناك أي شك أو ترديد في هذا الشأن لأنه كان يصب في مصلحة الجمهورية الإسلامية ومصلحة الإسلام والعالم الإسلامي. طبعاً قد تكون هناك اختلافات في الآراء حول موضوعات شتى ولكن حول موضوع حزب الله كان هناك ولا يزال لحد الآن إجماع ووحدة كلمة على كافة المستويات.
قلّما تمّ الحديث حول البُعد العمليّاتي لحرب الثلاث وثلاثين يوماً أو أنّ غالبيّة التصريحات والمعلومات كانت حول ظروف الكيان الصهيوني في هذه الحرب. نرغب في أن نسمع منكم تفاصيل حول الاستراتيجيات التي اتّبعت في عمليّات حزب الله في لبنان كونكم شاركتم بفاعليّة في ميدان الصّراع.
لا تزال هناك أمور غير مذكورة عن حرب الـ 33 يوماً، وربما كان ذلك لأنه لم يمض على تلك الحرب سوى 13 عاماً ولا تزال أمامنا سنين طويلة قبل الإفصاح عن جانب من أسرار هذه الحرب وما قام به حزب الله مما لا يزال طي السر والكتمان. لكن الجوانب التي يمكن التحدث عنها والمفيدة هي عدة نقاط مهمة، ولأسرد هنا مجموعة من الذكريات. كان لحزب الله غرفة عمليات في قلب الضاحية، وكانت البنايات المجاورة لها تقصف باستمرار وتدمر. في كل ليلة كانت هناك بنايتان أو ثلاث بنايات ضخمة عالية من 12 طابقاً أو 13 طابقاً، أقل أو أكثر، بل أكثر من هذا غالباً، كانت تسوّى بالأرض تماماً. ذات ليلة عندما كنا في غرفة العمليات وكان جميع مسؤولي إدارة الحرب في تلك الغرفة، ولم تكن غرفة العمليات تلك تحت الأرض بل كانت غرفة عمليات عادية، لكن فيها بعض أجهزة الاتصالات والارتباط ليمكن التواصل والارتباط مع مختلف الجهات.
شعرت هناك بعد أن قصفوا البنايات المجاورة لنا ودمروها، وكان الوقت ليلاً، والساعة حوالي الحادية عشرة مساء، شعرت أن خطراً جدياً يهدد حياة السيد نصر الله. قررت أن ننقل السيد إلى مكان آخر. تشاورنا أنا وعماد. ولم يوافق السيد إلا بصعوبة على الخروج من غرفة العمليات. ولم يكن ليخرج من الضاحية، بل الخروج من بناية كنا نتصورها معرّضة للخطر بسبب التردد والدخول والخروج إليها ومنها ولأن طائرات MK أي طائرات الدرون الإسرائيلية كانت تحلق هناك باستمرار فوق رؤوسنا في الضاحية ثلاثة ثلاثة وترصد بدقة كل التحركات والذهاب والإياب بما في ذلك سير الدرّاجات النارية. وهكذا كانت الضاحية ساكتة تماماً في الساعة الثانية عشرة ليلاً، وكأنما لا أحد يسكن هنا في قلب الضاحية حيث كانت المركز الرّئيسي لحزب الله. اتفقنا على الانتقال من هنا إلى بناية أخرى، وانتقلنا ولم تكن هناك مسافة طويلة بين البناية الأولى والثانية. عندما انتقلنا بمجرد أن دخلنا تلك البناية حدثت حالات قصف جديدة وقصفوا أماكن مجاورة لهذه البناية. انتظرنا هناك لأننا كان لدينا خط آمن واتصال ويجب أن لا ينقطع الاتصال، خصوصاً اتصالات السيد نصر الله واتصالات عماد. وحدث قصف آخر مجدداً ودمّروا جسراً مجاوراً لتلك البناية. شعرنا أن هذين القصفين سوف يعقبهما قصف ثالث وقد يقصفوا هذه البناية أيضاً. لم يكن في تلك البناية سوى ثلاثة أشخاص، أنا والسيد نصر الله وعماد. لذلك قررنا أن نخرج من البناية نحو بناية أخرى. خرجنا نحن الثلاثة ولم تكن هناك أية سيارة، وكانت الضاحية مظلمة تماماً والصمت يخيم عليها بالمرة. لم يكن هناك سوى أصوات طائرات الكيان الصهيوني فوق رأس الضاحية. كنت أرتدي بدلة عسكرية خاصة مموّهة. خلعت القميص العسكري وبقيت بالقميص الذي تحته وكان قميصاً عادياً مدنياً، لكن سروالي كان سروالاً عسكرياً.
قال عماد لي وللسيد إجلسا تحت ظل هذه الشجرة، وليس تحت ظلها لأن الوقت كان ليلاً ولم يكن لها ظل، بل اجلسا تحتها للحماية من الرصد، مع أنها لم تكن تحمي من الرصد، لأن طائرات MK ذات كاميرات تتحسس حرارة جسم الإنسان وتميزها عن سائر المصادر الحرارية لأشياء أخرى، لذلك لم يكن بالإمكان إخفاء شيء، وهذا هو مفهوم النقطة. جلسنا في ذلك المكان، وتذكرت قصة مسلم، لا لنفسي بل للسيد نصر الله. كان المكان بلاد السيد. ذهب عماد ووجد سيارة وعاد بسرعة، وربما لم يستمر الأمر أكثر من دقائق، عاد بسرعة. مهما أردت أن أمدح عماداً أخشى أن تختل الجلسة كما حصل بالأمس، لكنه كان منقطع النظير خصوصاً في التخطيط. عندما وصلتنا السيارة كانت طائرات MK تحلق فوق رؤوسنا وتركز علينا. وعندما وصلتنا السيارة صارت الطائرات تركز على السيارة. وتعلمون أن MK عندما ترسل ذبذباتها فإن هذه الصور تنقل إلى تل أبيب ويشاهدون المشاهد والصور في غرف عملياتهم. وقد استغرق الأمر وقتاً حتى استطعنا الانتقال من مخبأ تحت الأرض إلى آخ تحت الأرض، وبعد الانتقال من هذه السيارة إلى شيء لا يمكن ذكره الآن، من أجل أن نخدع العدو، ثم عدنا حوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليل إلى غرفة العمليات مجدداً.
النقطة المهمة التي كانت هي أن هناك تسارعاً كبيراً في الحروب عادة. وبعد أربعين عاماً من العمل العسكري والأمني يمكنني أن أفهم هذا الشيء. هناك تسارع واضطراب كبير في الحروب، وكل شيء ممكن أن يحصل في اللحظات الأولى . وكان حزب الله في هذه الحرب وفي كل مرحلة منها يفاجئ العدو بأدوات جديدة وخطوات جديدة ويتركه مبهوتاً. أي إنه لم يكن يعلن عن كل أدواته دفعة واحدة. لذلك كانت للسيد نصر الله عبارة تركت العدو في فزع وخوف كبير. كان يتقدم مرحلة مرحلة، فكانت هناك مرحلة حيفاً ثم قال: ستكون هناك مرحلة ما بعد حيفا، وما بعد بعد حيفا. تابعوا هذه المراحل بعضها تلو بعض ليفهموا العدو وكانوا يكشفون في كل مرحلة عن سلاح جديد. وكانوا يثبتون قدراتهم في كل مرحلة من أجل أن يهاجموا العدو في أعماقه بما يتناسب وتلك المرحلة. لذلك ثبت للعدو أن حزب الله في ذلك الزمن في 2006 كان بوسعه في مرحلة لاحقة جر الحرب إلى مرحلة الخطر والمرحلة الحمراء الخطيرة التي ما بعدها خطر، أي جر الحرب إلى داخل تل أبيب. لقد كانت لدى حزب الله مثل هذه القدرة. لذلك كانت خطوات حزب الله إلى جانب أهميتها العسكرية أهمية نفسية شديدة أيضاً. أي إنه كان يقوم بأعماله العسكرية ويخلق تحديات وصعاب للعدو في كل مرحلة في منطقة جغرافية معينة من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأيضاً كان يصيب العدو من الناحية النفسية بالحيرة والاضطراب الشديد. النقطة الثانية فيما يخص الأدوات والمعدات هي أن العدو كان يتصور أنه قلل قدرات حزب الله إلى درجة الصفر بالعمليات الضخمة التي قام بها، أو أنه هبط بها إلى أدنى مستوياتها. في كل مرحلة كان يعلن العدو فيها أن حزب الله لم يعد قادراً على إطلاق صواريخه ولم يبق شيء من قدراته الصاروخية، كان حزب الله في ذلك اليوم واليوم الذي يليه يطلق الصواريخ بأعداد أكبر من اليوم السابق. وإطلاق الصواريخ ليس بالأمر السهل، ففي الأرض التي تمطرها المدفعية المتحركة الثقيلة من الجو بالقنابل، يريد هذا الطرف أن يخرج من ملجئه وينظم الأهداف ويطلق الصواريخ على الأهداف بحيث لا تصيبه أضرار وخسائر ثم يعود إلى نقطة الأمان، هذه عملية صعبة جداً.
ما هي المراحل التي تمّ قطعها وفي أيّ زمان اكتسب حزب الله هذه الجهوزيّة العالية؟
تمرس وخبرة المجاهدين في حزب الله كانت بسبب التدريبات الدقيقة والمكثفة التي قاموا بها منذ سنة 2000 إلى 2006 ، أي منذ هروب الكيان الصهيوني أو هزيمته في جنوب لبنان. بدأت هذه التدريبات بشكل مكثف لا توقف فيه حتى 2006 كمشروع أطلقه حزب الله وأطلق عليه اسم مشروع سيد الشهداء. مدير هذا المشروع كان عماد، والمخطط له أيضاً كان عماد. وقد رتب عماد ترتيبات وتوزيعات دقيقة فيما يخص كيفية العمل والتصرف إذا ما حصلت مواجهة مع العدو. النقطة الثالثة هي تكتيك حزب الله الذي كان بخلاف الحروب التقليدية. ففي الحروب التقليدية هناك ساتر أمامي بينما لم يكن في هذه الحرب أي ساتر أمامي، إنما كانت كل نقطة فيها ساتراً أمامياً. كل نقطة في هذه الحرب ومن نقطة التماس على الحدود بين فلسطين المحتلة ولبنان إلى نهر الليطاني على الأقل، كل نقطة هناك وكل تل وكل قرية وكل بيت وكل منطقة كانت خطاً أمامياً وساتراً، ولم يكن هذا الساتر ساتراً محسوساً معلوماً كما هو المألوف في الحروب وكالتي كانت في حربنا، لا، إنما كان هناك تكتيكاً خاصّاً. ولو أردت التشبيه لشبهت كل هذا التكتيك الذي اعتمده حزب الله بحقل ألغام واسع ذكي لا توجد فيه أية نقطة فراغ آمنة. لذلك لاحظوا أسلوب تحرك العدو وسترون أن العدو عجز عن الدخول إلى بعض القرى الملاصقة للحدود مثل عيتا الشّعب، وعجز عن الدخول إلى هذه القرى ولم يستطع دخولها. وعجز عن الدخول إلى المدن، وبالتالي قرر الذهاب من الوادي الشرقي ليدخل ويتقدم نحو الليطاني، وكانت تلك في الحقيقة نقطة ضعف وانكسار العدو.
النقطة المهمة هنا في هذه الحرب هي الضربة التي وجهها حزب الله والتي كانت تشبه ضربة سيدنا أمير المؤمنين في حرب الخندق حيث صرع عمرو بن عبد ود، وقال الرسول إن ضربة عليّ يوم الخندق عادلت عبادة الثقلين الإنس والجن. لماذا؟ لأنها أنقذت الإسلام. الضربات التي يخطط لها حزب الله بعضها كانت تشل بنية كاملة من بنى الكيان الصهيوني بشكل مفاجئ. ومن هذه البنى القوة البحرية للكيان الصهيوني. أنتم تعلمون أن الوصول إلى الجنوب كان له طريق مواصلات، وكان هذا الطريق يصل من ضفاف البحر الأبيض المتوسط إلى صيدا وإلى صور وبالتالي إلى الخطوط الأمامية في الجنوب. في كل الحروب كان الكيان الصهيوني يضع بوارجه في البحر لتغلق هذا الطريق بمدفعيتها الدقيقة. وهذا ما فعلوه في هذه الحرب أيضاً خلال الأسبوع الأول. وما لم يكن العدو يتصوره واستطاع حزب الله أن يفاجئه به هو قضية الصواريخ البحرية. في ذلك اليوم كان يريد أن يستخدم الصواريخ البحرية لأول مرة. ولم يكن قد استخدمها قبل ذلك اليوم. كانت كل الصواريخ سرية ومخفية في نقطة سرية. وكانت العملية عملية صعبة. كان يجب أن يخرج الصاروخ من مخبئه على سيارة تحمله ويصل إلى نقطة إطلاق مكشوفة. وهناك مقابل هذه النقطة ثلاث أو أربع بوارج إسرائيلية في البحر. هكذا اتفق السيد نصر الله مع عماد فقد أشيع في ذلك الحين أن السيد قد جُرح وسادت حالة من القلق الناس في لبنان، وكان على السيد نصر الله أن يتحدث. إلى ذلك اليوم كان العدو قد حقق تفوقاً خلال ذلك الأسبوع، ولم نكن قد أنجزنا عملاً مهماً ما عدا ردود الأفعال الصاروخية. كان ينبغي لهذه العملية أن تتم. خرج هذا الصاروخ عدة مرات إلى منصته وأرادوا الإطلاق فعرضت مشكلة في الإطلاق. وكان السيد نصر الله يريد في كلمته أن يعلن عن هذا الإنجاز كمفاجأة حسب التعبير العربي. كانت هذه عملية مهمة مباغتة.
كنا قد وصلنا إلى نهاية كلمة السيد نصر الله، كلمة السيد كان يجب أن تسجل ثم من بعد ذلك تبث. كما لو أنكم الآن تجلسون في هذه الغرفة وتسجلون كلامي ثم تحذفون جزءاً منه وتبثّون جزءاً منه، أو تعرضوه عليّ لاحقاً فأحذف أنا جزءاً منه. كان ينبغي تنظيم كلمة السيد نصر الله في الغرفة، كانت هناك غرفة جانبية، وكنا نجلس معاً مع عماد وأخ آخر. كان الاشتباك متواصلاً، وهذا الصاروخ لم يطلق بعد، ووصلت إلى نهاية كلمة السيد وكان يريد أن يقول والسلام عليكم ورحمة الله، وحين وصل إلى هذه النقطة وقبل أن يلهج السيد بهذه العبارة تم إطلاق الصاروخ. تم إطلاق الصاروخ وسرعته ما فوق سرعة الصوت فأصاب الهدف بسرعة، لذلك قال السيد نصر الله في نهاية كلمته وفيما يشبه البيان الغيبي وكأنه يرى المشهد، قال وترون الآن أمامكم البارجة الحربيّة الإسرائيلية وهي تحترق. وصادف كلام السيد هذا لحظة إصابة الصاروخ للهدف. ولهذا الأمر بحد ذاته فلسفته التي ربما لا تكون مقبولة كثيراً في الأوساط العامة، ولكن من باب أن الله طابق بين كلام السيد وهذه الضربة فقد أصابت هذه الضربة البارجة بكل دقة، والحال أن هذه البوارج لديها قابليات تشويش وتحريف ويمكن تحريف مسار الصاروخ ولديها مضادات للصواريخ يمكنها ضرب الصاروخ قبل أن يصل إليها. لكن الصاروخ أصابها وشطر البارجة شطرين. وكان ذلك خلاصاً من القوة البحرية للكيان الصهيوني إلى نهاية الحرب حيث لم تشاهد قطعاته البحرية، ولم يشاهد أن القوة البحرية للكيان الصهيوني كلها تخرج من الساحة بصاروخ واحد.
طبعاً هذا شيء يقبل التحليل والنقاش، ويمكن التحدث عنه طويلاً، ومن جوانب الحديث قدرات الكيان الصهيوني أساساً. فالكيان الذي تخرج قوته البحرية من الساحة بصاروخ واحد يتضح أنه مهما كان لديه من البوارج، إذا خرجت قوته البحرية من الساحة بصاروخ واحد هذه المرة فسوف تخرج في المرات التالية بصاروخين أو ثلاثة. وإذا خرجت في المرة السابقة بصاروخ مداه مائة كيلومتر فسوف تخرج حتماً في المرة القادمة بصاروخ مداه ثلاثمائة كيلومتر. وكانت تلك معجزة وانتصاراً كبيراً جداً. والناس الذين كانوا في تلك الفترة إما مشردين أو معرضين للقصف صرخوا وهم تحت القصف بنداءات التكبير وأطلقوا العيارات النارية في الهواء من شدة الفرح. كانت هذه مباغتة ومفاجأة أخرى قام بها حزب الله وغير المعادلة ولم يستطع الكيان الصهيوني تعويض وإرجاع هذه المعادلة إلى أن جاء نحو سهل الخيام ونحو الليطاني. يومي الثامن والعشرين والسابع والعشرين كانا يومين صعبين عسيرين. كنت قد انفصلت عن عماد بعدما كنا في مكان واحد، وكان السيد نصر الله في مكان آخر. كانت لنا اجتماعاتنا في الليل. كنا نوصل أنفسنا إلى السيد بطريقة خاصة ونلتقي به وكان عماد يقدم تقريراً كاملاً عن ميدان القتال. وكان يتلقى التدابير التي يقدمها السيد نصر الله. أيام العشرين إلى الثامن والعشرين كانت أياماً صعبة جداً وثقيلة وعسيرة. يمكن القول إنها كانت من أصعب الأيام طوال هذه الثلاثة وثلاثين يوماً. وبعض الأمور لم يحن وقت التصريح بها بعد فيما يخصّ أحوال السيّد والمجاهدين. قام عماد بمبادرة مهمة كان لها تأثيرها البالغ، ولو أردنا قياس تأثيرها لأمكن مقارنتها بالرسالة والوعد الذي أطلقه السيد القائد. كانت مهمة إلى هذه الدرجة. والمبادرة هي الرسالة التي وجهها المجاهدون المحاصرون في الخطوط الأمامية لمواجهة العدو وهم تحت النيران يخاطبون بها السيد نصر الله. كانت رسالة عجيبة. عندما قرئت الرسالة كان عماد يجهش بالبكاء بحرقة وصوت عال وهو المخطط لهذه المبادرة، ولم أجد من يسمع هذا الصوت الذي يقرأ الرسالة ولا يبكي. والأهم من كل هذا جواب السيد نصر الله. ولو أردنا التشبيه ربما أمكن تشبيه الأمر بالأشعار التي أنشدها أصحاب الإمام الحسين في كربلاء وهم أمام جيش العدو في الدفاع عن الإمام الحسين. وكلام السيد في الصمود وفي تثمين وتقديس أعمال أصحابه والمجاهدين يشبه كلام الإمام الحسين في ليلة عاشوراء. هذان الكلامان اللذان ترك كل واحد منهما تأثيراً عظيماً وكانا كلاماً إلهياً حقاً. هذه البيانات والكتابات من قبل المقاتلين المجاهدين من الساحة وجواب السيد لهم ترك تأثيرات هائلة وأمدّ الجميع بطاقة كبيرة.
لكن الأمر انعكس منذ اليوم الثامن والعشرين. هنا يجب أن أشير إلى نقطة، لقد كانت لدينا الكثير من هذه المشاهد والأحداث في ملحمة الدفاع المقدس والحرب المفروضة، وكنت أقول دائماً إنها من مؤشرات أحقيتنا في الحرب. كانت معنويات المقاتلين وروحيتهم عالية جداً بما يشبه السير والسلوك وارتفاع الحجب، كانوا يقولون أشياء وراء الحجب والأستار. ذات مرة كنا في شلامجه وأردنا القيام بعمليات قبل عمليات كربلاء الخامسة، ربما قبل عام ونصف منها. ولأجل أن لا يكشف العدو أمرنا عيّنا قوات استخبارية لعملياتنا. وكان الماء أمامنا. وفي ذلك اليوم ذهب اثنان من شبابنا وهما صادقي وموسائي پور للاستطلاع فلم يعودا. وكان لدينا أخ ذو طباع عرفانية شديدة، كان حدث السن وطالب مدرسة لكنه عارف الروح بدرجة كبيرة، أي إنه ربما كان نادر النظير في العرفان العملي. كان قد وصل إلى مرتبة لا يصلها عظماء العرفان إلى بعد سبعين أو ثمانين عاماً. لكنه وصل إليها. اتصل بي وقال تعال، فذهبت. آنذاك كانت الاتصالات بلاسلكي راكال وكنت في الأهواز عندما اتصل. ذهبت إلى هناك فقال ذهب أكبر موسائي پور وصادقي وعدت أنا. فانزعجت كثيراً، وقلت أخذ العدو منا أسرى حتى قبل أن نبدأ. انكشفت هذه العمليات، وقد قلت هذا الكلام بغضب.
بقيت تلك الليلة هناك ثم عدت وكانت لنا جبهات متعددة. واتصل بي مرة أخرى بعد يومين. وقال تعال فذهبت. قال لي إن أكبر موسائي پور سوف يعود. وكان اسمه حسيناً. فقلت له: حسين، استخدمت كلمة يجب أن لا أذكرها الآن. قال : حسين، فتبسم ابتسامة خفيفة على طرف شفتيه لا تزال مزروعة في عيني. قال حسين ابن غلام حسين هو الذي يقول هذا. كان اسم أبيه غلام حسين، وكان أستاذ ثانوية محترم جداً، ووالدته أيضاً كانت أستاذة ثانوية وأبوه أيضاً، كان ابن أساتذة ومعلمين من طرف الأب والأم. بل كان معلماً وهو في سن الحداثة. حين كانوا يقولون السيّد حسين لم يكن هناك أكثر من سيد حسين واحد. وربما كان هناك المئات أسماؤهم حسين، ولكن هذا فقط كانوا ينادونه السيد حسين. قلت ما الخبر، قال غداً سيعود أكبر موسائي پور ويعود بعده صادقي. فقلت له من أين علمت هذا؟ قال ما عليك إلا أن تبقى هنا. فبقيت. وحوالي الساعة الواحدة ظهراً كانت لدينا كاميرا كنا نسميها أرنبيّة، ونلفها بالأكياس ونضعها على برج القلعة. وكان الإخوة في الاستخبارات والمعلومات خلف الكاميرا. فقالوا نرى شيئاً أسوداً على الماء، فصعدت إليهم ووجدت الأمر كما قالوا، هناك شيء أسود ممدد على الماء. وذهب الشباب داخل الماء فوجدوا أنه أكبر، أكبر موسائي پور. وفي اليوم التالي جاء حسين صادقي. وكان هذا أمراً عجيباً فالماء بكل تلاطمه وصخبه كان عجيباً أن يعود بهما من نقطة انطلاقهما في الخندق إلى النقطة نفسها. كلاهما كان قد استشهد. استشهدا في الماء وعاد بهما الماء إلى النقطة نفسها. كان ذلك شيئاً عجيباً جداً. قلت لحسين: حسين، كيف علمت هذا؟ قال رأيت ليلة البارحة في الحلم أكبر موسائي پور فقال لي: حسين، إننا لم نقع في الأسر بل استشهدنا، وسوف أعود غداً في الساعة الفلانية ويعود صادقي في اليوم التالي. ثم قال لي، وهذه جملة مهمة للغاية، قال: أتدري لماذا تحدث موسائي پور معي؟ -كان من شباب سيرجان- ولم يتحدث صادقي؟ قلت: لا. قال: لأن أكبر موسائي پور كانت له فضيلتان اثنتان. الأولى أنه كان متزوجاً والثانية أنه لم يترك صلاة الليل حتى وهو في الماء. هاتان فضيلتاه، فجاء هو وأخبرني.
بعد ذلك استشهد حسين. أريد أن أعود إلى هذه النقطة وهي أنه في ذلك الوضع العسير الصعب، قال أحد الإخوة من حزب الله وكان متديناً ومتشرعاً ومسؤولاً في جنوب لبنان، قال إنني في حالة لم تكن حالة نوم رأيت سيدة تأتي وإلى جوارها سيدتان اثنتان. وشعرت في تلك الحالة من الرّؤيا أنها السيدة الزهراء سلام الله عليها. فأسرعت إلى قدميها المباركتين. يقول: قلت لها بالعربية أترين كيف هو حالنا ووضعنا، أترين أي وضع وضعنا؟ قالت السيدة سوف يصلح الأمر. فقلت لها: لا، وكأنني كنت مصراً على أن أصل إلى قدميها وكنت مصراً على أن آخذ منها شيئاً. وبعد الإصرار قالت إن الأمر سوف يصلح. وأخرجت منديلاً من غطاء وجهها وهزته هكذا وقالت: انتهى الأمر. وبعد لحظة تمت إصابة مروحية إسرائيليّة بصاروخ. ومن بعد ذلك بدأ العد التنازلي للكيان الصهيوني واندحاره، أي إن إصابة دباباته بدأت، ومنذ ذلك الحين تغيرت المعادلة وظهرت معادلة جديدة. وكشف الستار لأول مرة في هذه الحرب عن صواريخ كورنيت، وأصيبت أول دبابات ابرامس، عفواً دبابات ميركافا الإسرائيلية التي لم تستهدف لحد الآن بهذا الشكل، وتم تدمير حوالي سبع دبابات في يوم واحد.
كيف انتهت الحرب؟
في ذلك الحين كان السيد حمد بن خليفة آل ثاني رئيساً للوزراء كان رئيس وزراء حكومة قطر ووزيراً للخارجية، وكان يتوسط ويأتي إلى لبنان ويذهب. وقد روى هو لاحقاً فقال في تلك الأيام لم يكونوا يسمحون أبداً بالنقاش والكلام حول إيقاف الحرب. وكان هو في منظمة الأمم المتحدة. يقول: يئست وذهبت إلى بيتي لأستريح، وإذا بي أجد جون بولتون الخبيث يبحث عني مضطرباً متسرعاً قلقاً ويقول: أي أنت؟ فقلت له: هل حدث جديد؟ قال: لنذهب إلى منظمة الأمم المتحدة، فذهبنا وإذا بي أجد سفير إسرائيل في منظمة الأمم المتحدة يتمشّى قلقاً ومضطرباً جداً. قال كلاهما لي: الآن يجب إيقاف هذه الحرب، فقلت: لماذا؟ قالا: إذا لم تتوقف الحرب فإن جيش إسرائيل سوف يتدمر ويتلاشى. لذلك تنازلوا عن كل شروطهم السابقة وتجاوزوها واضطروا للموافقة على شروط حزب الله وقبول وقف إطلاق النار، وتحقق هذا الانتصار الكبير لحزب الله.
ولم يكن ذلك مجرد انتصار بل كان نقطة عطف أنهت احتمالات وتصورات هجوم الكيان الصهيوني بعد ذلك على لبنان. ولا تزال هذه المعادلة قائمة إلى اليوم. وأعتقد أنها معادلة لا يمكن أن تزول بسهولة. ولم يكن حزب الله قد ترك هذا التأثير على الكيان الصهيوني بحيث لا يفكر في الهجوم على لبنان بل جعله لا يفكر بأي هجوم، وأقول لكم إنه بعد حرب الـ 33 يوماً تغيرت استراتيجية بن غوريون في الحرب الاستباقية والهجومية أو استراتيجية الهجوم لدى الكيان الصهيوني رويداً رويداً إلى مجرد استراتيجية دفاعية. وقد رأيتم في الحدث الذي وقع قبل أسابيع حيث هدد حزب الله بضرب الكيان الصهيوني والانتقام للشهيدين، كيف أن الكيان الصهيوني هرب ثلاثة إلى خمسة كيلومترات عن نقطة الصفر الحدودية إلى العمق، إلى درجة أن مراسل الميادين ذهب إلى جوار الأسلاك الشائكة وقال: إنني أتحدث إليكم من فلسطين المحتلة. هذا هو تأثير حرب الـ 33 يوماً.
نعيش اليوم ذكرى أيّام الحرب المفروضة على إيران، كيف ارتبطت ثقافة وأدبيات الحرب المفروضة بجبهة المقاومة في المنطقة وحافظت على استمرارها؟
في خصوص ملحمة الدفاع المقدس، إذا عدنا إلى مسار الأحداث في صدر الإسلام لوجدنا أن الإمام أمير المؤمنين كان يقتدي برسول الله. عندما كان يعظ وعندما كان يكتب الرسائل وعندما كان يلقي الخطب، كانت قدوته الأساسية زمن الرسول وعمل الرسول وسيرة الرسول. وعندما أراد سيد الشهداء الاقتداء جعل قدوته الإمام أمير المؤمنين كشاهد عيني ولكونه الشخص الأقرب إلى سيرة رسول الله والذي عبّر عملياً عن هذه السيرة وطبّقها وجعلها أساساً لأعماله. وهذا هو الحال بالنسبة لدفاعنا المقدس. هذا هو نوع العلاقة بين الدفاع المقدس وسائر ملاحم الدفاع المقدس الأخرى، فهو بالنسبة لها بمثابة الأم والمحور والأساس المقدس. لا أستطيع القول إذا لم يكن الدفاع المقدس لما كان هناك شيء. لكن ما حصل في الدفاع المقدس من أحوال ومظاهر معنوية كان بأرقى المدارج والإعلام الديني؛ برز هناك بأرقى المراتب والحالات العقائديّة والعبادية كانت بأعلى أشكالها ومن دون ذرة تحريف. الإيثار والجهاد والشهادة كانت بأرقى صورها. وحتى الإدارة والعلاقة بين المدير والمرؤوسين لو أردنا تشبيهها ومقارنتها فهي ممكنة المقارنة بأندر المشاهد في صدر الإسلام. وعليه فالدفاع المقدس كان هو القمة الأعلى في كل المجالات والموضوعات. تلك كانت سلسلة الجبال وهذه هي القمة. قمة دماوند هي النقطة المرتفعة الأساسية في سلسلة جبال البرز، إنها القمة الأكثر ارتفاعاً في البرز، وطول هذه السلسلة من الجبال ألف كيلومتر، لكن القمة المعروفة فيها هي دماوند. ودفاعنا المقدس بالمقارنة مع سائر حالات الدفاع يشبه قمة دماوند في سلسلة جبال البرز. إنها الأكثر ارتفاعاً من كل القمم الأخرى التي تعد سفوحاً لها. هذا ما يمكن قوله إذا أردنا التشبيه