يتعجب النبي سليمان -عليه السلام- من النملة فيتبسم ضاحكا من قولها، ويتأمل الفيلسوف أرسطو النمل فيبدي دهشته من كونه "يعود إلى أعشاشه في خط مستقيم لا تعوق فيه نملة واحدة مسار أختها"، ويتحدث بعض أهل التصوف عن أن من يراقب النمل عشرين عاما يصل إلى الحقيقة. فأية أسرار لانهائية تخفيها هذه المخلوقات الصغيرة وتحار فيها تلك العقول الكبيرة؟
لا تنقضي عجائب النمل، ولا يفتر فضول العلم عن محاولة استقصاء دوافعه وسبر أغوار سلوكه، وفي هذا السياق نشرت قبل أيام دراسة بدورية إي لايف تقدم نتائج دراسة أجراها فريق بحثي من جامعات عدة في فرنسا والولايات المتحدة وأستراليا، وكشفت عن أن نمل الأرجنتين (وهو أحد أنواع النمل) لديه قدرة عجيبة على تفادي أية إعاقات قد يسببها ازدحام طرقه، حتى في أقصى "ساعات الذروة" المرورية.
تجنب الازدحام
يعد النمل من الكائنات المعدودة -سوانا- التي تستخدم في تحركاتها الطرق ذات الاتجاهين المتعاكسين، وقد أظهرت دراسات سابقة أن النمل يستخدم الطرق بسلاسة غير معهودة، ويتدفق بتجانس وبسرعات كبيرة، لكن هذه الدراسة كانت هي الأولى التي تثبت أن النمل يستطيع أن يتجنب تماما -حتى في أكثر الأوقات ازدحاما- المعاناة من اختناقات المرور.
وقد صمم فريق البحث تجربة يفصل فيها بين عش جماعة من نمل الأرجنتين وبين موقع طعامه بجسور لها عروض مختلفة (5 أو 10 أو 20 ملليمترا) حملت أعدادا مختلفة من النمل تراوحت بين 400 و25600 نملة على مدار 170 إعادة للتجربة مع تغيير ظروفها تحت الرصد بالكاميرات، الذي أثبت في النهاية هذه المناعة المذهلة لدى نمل الأرجنتين.
يقول فريق البحث إن تفاصيل الآليات التي يلجأ إليها النمل لتفادي الاختناقات المرورية لا تزال مجهولة، لكن النمل كان يتجاوب على الفور في مواضع زيادة الكثافة بتعديل سرعته بصورة جماعية، وكأنما تهيمن عليه إرادة واحدة، بحيث يحافظ التيار دائما على أفضل سيولة تدفق ممكنة. في الوقت الذي يحجم فيه النمل المتأخر عن التدافع للانضمام إلى الطابور حتى يبدأ الزحام الموضعي في الانفراج، في سعي لتجنب الاصطدامات التي لن تؤدي إلا إلى المزيد من تعقيد المشكلة.
منطق النمل
وكانت دراسات سابقة قد كشفت عن أن بعض أنواع النمل قد تلجأ في ظروف الزحام الشديد إلى الدفع بقوة، يشبه عملها شرطة المرور، وتغلق مخارج الأعشاش عند مواضع الازدحام، لإجبار النمل الخارج من العش على البحث عن فتحات خروج بديلة حتى انفضاض الاختناق المروري.
يستحضر مؤلفو الدراسة المقارنة التي تفرض نفسها في هذه المسألة بين سلوك النمل والسلوك البشري، فيلفتون النظر إلى أن الاختناق المروري في مدن البشر أمر لا مفر منه، في مجتمع يسعى كل فرد فيه إلى مصالحه الشخصية وحدها بمعزل عن المنفعة العامة، بينما لا يسيطر على مجتمع النمل سوى دافع واحد جماعي هو بقاء الجماعة، يتشارك الأفراد كلهم في العمل الدؤوب تحت ظله، من أجل توفير أفضل الحلول وتأمين أكفأ طرق العودة إلى العش بأوفر كمية ممكنة من الطعام.
وقد يبدو ما يفعله النمل أقرب كثيرا إلى المنطق السليم، لكن من قال إن المنطق وحده هو الذي يحكم سلوك البشر ويقرر دوافعهم؟ فبينما يحرص النمل على توزيع أفراده بالتساوي في "حارات" الطرق -حتى في ظروف الطوارئ- نعرف جيدا أن البشر يتدافعون كل يوم، وربما دعس بعضهم بعضا في مساعيهم المحمومة لقضاء مصالحهم الفردية وتأمين احتياجاتهم الخاصة.
لا يأمل فريق البحث بالطبع في تغيير سلوك البشر، لكن آمالهم قانعة بالاستفادة من دراستهم في تحسين أداء السيارات ذاتية القيادة التي ستملأ الطرق في مستقبل وشيك، يمكن أن نستفيد فيه شيئا مما تعلمناه من مراقبة النمل الذي لا تنقضي عجائبه."انتهى"
المصدر : الجزيرة