في السادس والعشرين من اكتوبر عام 1995 اكتظت السماء بالتساؤلات، ما الذي حصل؟ ماهذه النسمات الزكية يسأل أحد الملائكة؟ الكل حينها مستبشر، جبريل وميكائيل وإسرافيل وكل من في الملأ الاعلى _إلا الله_يتسائل ماهذه الريح الزكية؟ من أين نبع هذا الطيب؟

يجيب ملك الموت بعد صمت إنها روح ذاك المغوار من علمه ربكم، وتعلمتم منه حسن العبادة، إنها نسمات روح ذاك العبد الصالح من طلب الشهادة ونالها، ماعرفتموه؟ أنه القائل: " إنني أرى بعقلي وبروحي، وطني وقد تحرر، ففلسطين ستعود إلينا وسنعود إليها، إن فلسطين غالية وتستحق منا البذل ، إنها أرض الرسالات ، وإنها وطني المقدس، إنني أراه عائداً وانا إليه عائد مهما طال السفر والغربة." أعرفتموه؟

ماذا أقول فيك؟ وهل لحروف لغتنا ان تحصي محاسنك، تلعثمت في حضرتك الكلمات وجفت الأقلام، واحتار اهل اللب في وصفك يا قلم الأقصى وفكره يافتحي الشقاقي.

لمحة عن ذاك الفارس

هو الدكتور فتحي إبراهيم عبد العزيز الشقاقي الذي ولد في مخيم رفح بغزة هاشم 4_1_1951 هجرت أسرته الي غزة عام 1948. ولد الدكتور الشهيد فتحي الشقاقي لعائلة فقيرة حيث عمل والده عاملاً في صحراء سيناء، ونشأ في وسط عائلي محافظ وأسرة متدينة تلتزم بالمجال الديني والشعائري، فقد كان والده الابن الوحيد لامام القرية. فقد الشقاقي أمه وهو في الخامسة عشرة من عمره ليشب بعدها يتيما. درس في جامعة بير زيت بالضفة وتخرج من دائرة الرياضيات، وعمل لاحقا في سلك التدريس بالقدس في المدرسة النظامية ثم في مدرسة الأيتام.

وفي أثناء عمله درس مرة أخرى الشهادة الثانوية لرغبته الشديدة في دراسة الطب, حيث التحق بكلية الطب- جامعة الزقازيق 1974. وبعد تخرجه عمل طبيبا بمستشفى فيكتوريا بالقدس وبعد ذلك عمل طبيبا للأطفال في قطاع غزة.

 قاد كفاحا مريرا ضد الاحتلال، اعتقل في فلسطين أكثر مـن مرة عام 1983 و 1986 ثم أبعد في أغسطس 1988 إلى لبنان بعد اندلاع الانتفاضة في فلسطين واتهامه بدورٍ رئيس فيها.

مشواره السياسي

كان الدكتور فتحي الشقاقي قبل العام 1967 ذا ميول ناصرية، ولكن هزيمة العام 1967، أثرت تأثيراً بارزاً على توجهاته، حيث قام بالانخراط في سنة 1968 بالحركة الإسلامية إلا أنه اختلف مع الإخوان المسلمين، وبرز هذا الخلاف بعد سفره لدراسة الطب في مصر عام 1974م  فأسس ومجموعة من أصدقائه حركة الجهاد الإسلامي أواخر السبعينيات. اعتقل في مصر في 1979 بسبب تأليفه لكتابه «الخميني، الحل الإسلامي والبديل»، ثم أعيد اعتقاله في 20/7/1979 بسجن القلعة على خلفية نشاطه السياسي والإسلامي لمدة أربعة أشهر. غادر مصر إلى فلسطين في 1/11/1981 سراً بعد أن كان مطلوباً لقوى الأمن المصرية.

قاد بعدها حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين وسجن في غزة عام 1983 لمدة 11 شهراً، ثم أعيد اعتقاله مرة أخرى عام 1986 وحكم عليه بالسجن الفعلي لمدة 4 سنوات و5 سنوات مع وقف التنفيذ: لإرتباطه بأنشطة عسكرية والتحريض ضد الاحتلال الإسرائيلي ونقل أسلحة إلى القطاع" وقبل أنقضاء فترة سجنه قامت السلطات العسكرية الإسرائيلية بإبعاد من السجن مباشرة إلى خارج فلسطين بتاريخ 1 أغسطس (آب) 1988 بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية. تنقل بعدها الشقاقي بين العواصم العربية والإسلامية إلى أن اغتالته أجهزة الموساد الصهيوني في مالطا يوم الخميس 26/10/1995 وهو في طريق عودته من ليبيا إلى دمشق بعد جهود قام بها لدى العقيد القذافي بخصوص الأوضاع الفلسطينية على الحدود المصرية.

و يعتبر الشقاقي المسؤول العسكري لحركة الجهاد الإسلامي وينظر إلى الداعية عبد العزيز عودة على أنه الزعيم الروحي للحركة، حيث يتمتع الداعية عبد العزيز عودة بشخصية دمثة وجذابة ولديه قدرة فائقة على الوعظ والخطابة. وكان عبد العزيز عودة من الشخصيات الدينية التي تحظى بالاحترام. و يعتبر كل من الشقاقي وعودة الزعيمين الرئيسيين لحركة الجهاد الإسلامي. ويأتي قادة الجهاد من الجيل الإسلامي الجديد، فهم شبان في الثلاثينات أو أوائل الأربعينات من العمر. وكان مؤسسو الجهاد الأوائل من أمثال الشقاقي وعودة من أصحاب الكفاءات.

المثقف أول من ييقاوم وآخر من ينكسر

اشتهر الشقاقي بثقافته ووفرة علمه وشمولية نظرته وكان عاشقًا للأدب والفلسفة، بل نَظَمَ الشعر أيضًا، ومن قصائده قصيدة 'الاستشهاد. حكاية من باب العامود' المنشورة بالعدد الأول من مجلة المختار الإسلامي في يوليو 1979م:- تلفظني الفاء،- تلفظني اللام،- تلفظني السين،- تلفظني الطاء،- تلفظني الياء،- تلفظني النون،- تلفظني كل حروفك يا فلسطين،- تلفظني كل حروفك يا وطني المغبون،- إن كنت غفرت،- أو كنت نسيت.

كان شاعرًا ومفكرًا وأديبًا، بل وقبل كل ذلك كان إنسانًا تجلت فيه الإنسانية حتى يُخيل للبشر أنه كالملاك.. كان رقيق القلب ذا عاطفة جيَّاشة.. حتى إنه كان ينْظِمُ الشعر لوالدته المتوفاة منذ صباه، ويهديها القصائد في كل عيد أم، ويبكيها كأنها توفيت بالأمس.

عشق أطفاله الثلاثة: خولة، أسامة، إبراهيم حتى إنه بالرغم من انشغاله بأمته كان يخصص لهم الوقت ليلهو ويمرح معهم، تعلق كثيرًا بابنته خولة؛ لما تميزت به من ذكاء حاد؛ إذ كان يزهو بها حينما تنشد أمام أصدقائه: 'إني أحب الورد، لكني أحب القمح أكثر…'.

أعمال خلدها التاريخ

يعتبر كتاب "الخميني الحل الإسلامي والبديل" من أهم ما كتب الشهيد الشقاقي وله محاضرات وندوات عديدة نذكر منها ما جاء في مجلد "رحلة الدم الذي هزم السيف" من إعداد الدكتوررفعت سيد أحمد والذي جع بين صفحاته أعمال الشهيد الشقاقي كاملة،

*الإنتفاضة بعد مدريد، *الإنتفاضة والحكم الذاتي، *الثورة الإسلامية في إيران والثورة الفلسطينية جدل مقدس، *التسوية والتطبيع مع العدو الصهيوني وأثرهما على الوحد العربية، *ضد (الشرق الأوسط الجديد)، *هذا سلام عابر وقائم على موازين قوى عابرة.

وللشهيد أقوال مأثورة كثيرة محفورة في صدور الشرفاء المؤمنين لعل أجملها وأكثرها تلخيصاً لما نحتاجه اليوم " المثقف أول من يقاوم وآخر من ينكسر".

ومن ما اثر عن الشهيد قوله " لا تصدقوني إلا إذا رأيتموني شهيداً"

 وقوله، معرفاً القائد الحقيقي« إن القائد الحقيقي هو الذي يصنع لدى الناس القدرة على الابتهاج، القدرة على الإبصار، القدرة على السير، القدرة على التحول، القدرة ان يكونوا شركاء درب، ويضرب لهم المثل في العناد والإصرار على مواصلة الكفاح والجهاد حتى النصر او الانعتاق من أسر الطين، وبالتالي على الجماهير أن تدرك بوعي وبمسؤولية أن للقيادة مبررين: إما هداية الجماهير .. وإما حمايتها ... وإلا فعلى الجماهير أن تعيد النظر.. »..

ومما أفاض به: "ستبقى فلسطين مركز الصراع الكوني رغم كل محاولات تغير البوصلة "

وقوله أيضاً:"« ليس من سبيل للتصدي لهذا الخطر سوى تحشيد الشعب الفلسطيني قواه و الاستمرار في الجهاد و استنهاض الأمة لتوجيه طاقاتها أو جزء منه لمساندة القضية الفلسطينية ».

ونذكر أيضاً قوله:" ونحن لسنا إرهابيين بل نملك للبشرية في قلوبنا حبا يكفي لتحويل الأرض واحة عدل وسلام".

ومما قاله أيضاً:" يا جرح تفتح يا جرح .. يا أهلي هاتوا الملح .. حتى يبقى حياً هذا الجرح .. تلعنني أمي إن كنت غفرت.. تلفظني القدس إن كنت نسيت"...

نال المجاهد ماكان يطمح

في السادس والعشرون من شوال عام 1995 اكتظت السماء بالتساؤلات، ما الذي حصل؟ ماهذه النسمات الزكية يسأل أحد الملائكة؟. الكل حينها مستبشر، جبريل وميكائيل وإسرافيل وكل من في الملأ الاعلى _إلا الله_يتسائل ماهذه الريح الزكية؟ من أين نبع؟ يجيبهم ملك الموت بعد صمت: إنها روح ذاك المغوار من اتاه ربكم من لدنه علما، وتعلمتم منه حسن العبادة، إنها نسمات روح ذاك العبد الصالح من طلب الشهادة ونالها إنها ريح مسك روح فتحي الشقاقي فقد اغتاله الموساد "الإسرائيلي" في مدينة "سليما" بجزيرة مالطا، أثناء عودته من ليبيا التي قصدها ليحل مشكلة الفلسطينيين هناك، نعم إنه إنها روح فتحي الشقاقي الزكية. قضي الأمر الذي فيه تختلفون.

شهادات بحق الشهيد

كثيرون كانوا من رثوا الشهيد فتحي الشقاقي، فقد كان لتواضعه وحياءه وخلقه الحسن وصدقه وجهده وعلمه أثر في نفس كل من عرف، وما إن ارتقى شهيداً إلا وتزاحمت الأقلام ترثوا شهيدها، فقد قال في حقه قائد الثورة الإسلامية في إيران السيد "على خامنئي":

"المجاهد المؤمن والشجاع والمفكر المخلص الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي، هو أحد الوجوه البارزة واللامعة الذين أضائوا فجر المقاومة الإسلامية الفلسطينية في العشرية الأخيرة، وأعلن بشكلي قطعي لا شك فيه أن شهادة الدكتور الشقاق سوف تؤدي إلى اشتداد النهضة الإسلامية العظيمة في فلسطين، وأن مظلومية الشهيد الشقاقي سوف ترسخ عقيدة الجهاد في سبيل الله في صدور المظلومين الفلسطينيين".

وقال شهيد المحراب الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في حق الشقاقي:

" عرفته من خلال عكوفه الدائم على صنع الجهاد، من خلال كؤوسه المترعة بخمر الشهادة، عرفته من خلال انتصاره للإنسانية التي حولها الذئاب إلى أشلاء، عرفته وهو يمزق أقنعة الدجل التي تحتضن الإرهاب وتعشقه سراً، وتصنع التنديد جهراً.

كانت أيام حياته سلسلة بطولات أشرق بها جهاد الشبيبة التي من حوله، والتي تستفتح أبواب الجنة بمفاتيح الشهادة..لقد علم رجاله من خلال يقينه الراسخ أن الشهادة في سبيل الله اسمى متعة يمكن ان يتذوقها إنسان، وأطرب نشوة يمكن ان تطوف بالرؤوس،  غير أنها مخبوءة داخل لفافة وهم الآلام واختراق الأخطار.

ولقد علم أعداء الإنسانية والحق، أن الموقنين بأحد الحسنيين، ماكانوا يوماً ما ليقيموا وزناً لتهديدات الدنيا كلها، وماذا عسى ان تعني التهديدات أمام السلطان الرباني القائل " أقض ما انت قاض..إنما تقضي هذه الحياة الدنيا.

سمعته يقول على اثر إحدى العمليات الإستشهادية الكبرى التي زلزلت أفئدة قادة الإرهاب وتجاره((إننا لا نتحرك بأي عملية إنتقامية إلا على أرضنا المغصوبة، وتحت سلطان حقوقنا المسلوبة. أما سدنة الإرهاب ومحترفو الإجرام فإنما يلاحقون الأبرياء بالذبح في عقر دورهم، ويبحثون عن الشطآن الراقد في مهد السلام ليفجروها بجحيم ويلاتهم)).

إن فتحي الشقاقي لم يعلم اصدقاءه وأعداءه هذه الحقائق، من فوق منبر الخطب الكلامية، او من خلال التصريحات والمقابلات الصحفية فقط، وإنما توج ذلك أخيراً بالشهادة التي طالما تعرض لها، بل طالما انتظرها واستعذب طعمها.

وعندما رثى الدكتور رمضان عبد الله شلح، فتحي الشقاقي، كتب: "ما دلّني عليه غير الشعر، لكنه حين ترجل عن صهوة جواده، سلبني وتر اللغة وألزمني مقبض السيف، وكانت على وجهه ابتسامة النصر وحكمة الدهر: أن الشهادة هي ربيع الشعوب حين تقبل كأسراب النحل على أزاهير الحياة وشهد السيوف... كان أصلب من الفولاذ، وأمضى من السيف، وأرق من النسمة. كان بسيطاً إلى حد الذهول، مركباً إلى حد المعجزة! كان ممتلئاً إيماناً ووعياً وعشقاً وثورة من قمة رأسه حتى أخمص قدميه". وغيرهم كثر مما تكلمت جوارحكهم حزناً وفخراً بالشهيد الشقاقي.

الفكرة لا تموت بموت صاحبها إنما تتجدد بتجدد الأجيال وتنتقل من جيل إلى جيل

نقل الكاتب والمفكر،رئيس مركز يافا للدراسات والأبحاث الدكتور"رفعت سيد أحمد" الذي أخذ على عاتقه تجميع أعمال الشهيد فتحي الشقاقي في مجلدين سماهم" رحلة الدم الذي هزم السيف" وصية الدكتور فقد أفاض الشهيد الشقاقي بما لديه للدكتور رفعت قبل استشهاده ببضعة أيام. يقول الدكتور "رفعت سيد أحمد": " تواصل الحوار مع فتحي الشقاقي..وتنوع، وأنا في حل من ذكر الكثير منه ..فقط أنتقي عبارات طويلة ساقها لي ونحن نسير على شاطئ طرابلس الجميل مساءً سوياً، ساقها لي وكأنه يوصي وصيته الأخيرة للأمة.

1_إنني لا اجد بديلاً عن الجهاد والكفاح المسلح لتحرير القدس والأقصى وكل فلسطين. إن التخبط السياسي امام الحركات الإسلامية بشأن المشاركة أو عدم المشاركة في اللعبة السياسية مع الكيان الصهيوني أو مع ما يسمى بسلطة الحكم الذاتي ..لا مستقبل له..ولا بد من الجهاد والكفاح حتى آخر العمر وحتى تحرير فلسطين من نجس الأعداء.

2_على الحركات الإسلامية التي تنتج العنف المسلح أن تضع على رس أولوياتها العدو الصهيوني، وألا ترحمه في أي مكان،وأن تطارده، فهنا ستنجمع حولها كل القوى ولن يعاديها إلا الخائن أو العميل.

3_إنني لا اخاف على حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، فلقد بنينا صرحاً متماسكاً فلسطين، فلسطين غايته والإستشهاد أداته ووسيلته، وشبابنا في الداخل قادرون على تغيير الواقع وخلق المستقبل الذي يليق بالشرفاء والمجاهدين وبالقدس الشريف.

4_أنا لا أخاف الموت ولا أخشاه، صدقني، لقد حاول بعض الأصدقاء منذ فترة حجزي داخل شقة أنا وأحمد جبريل لأن هناك عملاء صهاينة نزلو إلى دمشق بهدف اغتيالي، لكنني بعد أيام طلبت منهم الخروج وذهبت إلى مؤتمر علمي بالسودان ولم أخشى إلا الله، إننا نحب الموت كما يحبون هم الحياة.

5_إنني أرى بعقلي وبروحي، وطني وقد تحرر، ففلسطين ستعود إلينا وسنعود إليها، إن فلسطين غالية وتستحق منا البذل ، إنها أرض الرسالات ، وإنها وطني المقدس، إنني أراه عائداً وانا إليه عائد مهما طال السفر والغربة.

سفرك لن يطول يا سيدي فخيول التحرير قد سُرجت، وما زرعت فينا قد أثمر، وروحك إن شاء الله عما قريب سوف تهداً. /انتهى/

/عبادة عزت أمين/