اكد رئيس أساقفة صور وتوابعها للروم الكاثوليك المطران ميخائيل خلال كلمة له في ندوة "العولمة وكورونا"أبرص على دور العولمة وأثرها فؤ تئكيل الهوية الإنسانية في زمن كورونا مسلطا الضوء على الوجه السلبي لهذه الجائحة.

بسم الله الواحد الأوحد
 اود أولاُ أن اهنئ المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلاميّة في لبنان وأهنئ الدكتور علي قصير على اختيارهم هذا الموضوع الشيّق "كورونا: جدليات الهويّة الإنسانيّة": فهو موضوع معاصر وهام جدًا لمستقبل العالم أجمع وللبنان بنوع خاص، أشكركم على استضافتكم لي. وأرحب بالآخوة المشاركين في هذه الندوة  و هم  "الحاج عبد المنعم الزين"، و"الأستاذ الكاتب الدكتور نور الدين أبو لحية"، و"والباحثة الأستاذة إيمان شمس الدين"، وتحية وسلام إلى جميع المشاهدين الكرام.
وبادىء ذي بدء أحب أن أقول أن هذا الوباء الخبيث كورونا، الذي اجتاح العالم كلّه تقريبًا، قد أصاب حتى الآن أكثر من أربعة ملايين شخص، واباد منهم أكثر من 300.000 إنسان، قد أربك العالم بأسره وكشف لنا أمورًا هامة لها علاقة بالعولمة وبالهويّة الإنسانيّة.
 وموضوع "العولمة وأثرها على الهوية الإنسانيّة: كورونا أنموذجًا" إنما يفرض ذاته على ثلاثة محاور: الأول عن ماهية العولمة بحد ذاتها؛ والثاني عن علاقة هذه العولمة بالهوية الإنسانيّة؛ لنطبقها في المحور الثالث على الجائحة "كورونا" كنموذج لتلك العلاقة.  
 وبالرغم من عمرنا، نحن مع الجيل الجديد، ومع التطوّر الذي يحصل في العالم كلّه، بالرغم من تأثيره المباشر على هويتنا الشخصيّة والوطنيّة. ففكرة العولمة هي أن العالم كلّه أصبح في متناول كلّ من يرغب في معرفة ما يجري في المسكونة وذلك عبر الأقمار الإصطناعية وسائل الإعلام الالكترونية الحديثة. ولهذه العولمة وجهان: إيجابي، إذا عرفنا كيف نستعملها ونستفيد منها؛ وسلبي إذا تركناها تسيطر علينا وتجرفنا.
 ونحن مع العولمة ونشجع الجميع على الانفتاح لنخرج من قمقمنا الصغير. علينا أن نثبّت وجودنا كدولة ورجال دين وسياسيين وإقتصاديين ومثقفين وكأهل وكأفراد؛ ففي هذه الحقبة من الزمان علينا أن نتابع القضايا العالميّة: ومنها الحروب القائمة في عدة دول في الشرق وفي افريقيا واميركا الجنوبيّة... والوباء الأخير كورونا المنتشر في كل مكان مهدّدًا كل فردٍ منا، البترول في العالم، وكافة أمور الطاقة، البيئة والمحافظة عليها سالمة، الاقتصاد وتدهوره في هذه الأيام العصيبة (كالبطالة وفرص العمل والنقابات والاحتجاجات المطلبيّة...)، وغيرها من المواضيع الإجتماعيّة كاحترام المرأة والعنف الأُسري وفرص العمل، وتسويق المنتجات وما إلى ذلك من الأمور في كل العالم.
 ومن لا يرغب أن يتقدّم ويتماشى مع العصر؟ مع المنهج العالمي الجديد؟ كل العالم يتجمّع ليُصبح قوةً أمتن. كلنا نعرف أن العود الصغير وحده ينكسر بسهولة، إنما الرزمة من العيدان تبقى أقسى وأشد صلابة.
 وأكبر برهان هو ظهور المؤسسات الدوليّة والعالميّة منذ منتصف القرن الماضي. الدول الأوروبيّة بالذات إبتدأت بالتجمّع وخلقت فكرة الـ ٍShengen لتقف بقوة أكبر بوجه الولايات المتحدة والصين، وصكّت العملة المشتركة فيما بينها "اليورو" لتجابه  الدولار واليّن الصيني.
 والعالم كلّه يغلي بحثًا على أن يتقوى ويثبت وجوده على الأرض، وهذا ما علينا نحن اليوم، أن نتشبّه به، لنكون جميعًا كشرقيين يدًا واحدة صلبة قوية ونستفيد مثلهم من وسائل التواصل الاجتماعي الألكتروني الحديثة لنواكب التطوّر الحاصل والتعاضد والتآخي، ونتخطى الشرذمة والتقوقع، فننفتح على الآخرين ونبقى مواكبين التطور العالمي، على كافة الصُعد.
 وهذا واجب علينا وإلا فسنتراجع إلى الوراء أكثر بينما العالم يتقدّم.
 
وإنما في الوقت عينه، -وهذا هو المحور الثاني- علينا أن نكون حذرين جدًا من الدرب العريض السهل الذي يفرض الغرب علينا إتباعه. لا نستطيع أن نسير عكس التيار الجارف وحدنا. علينا أيضًا أن نكون حذرين واعين كي لا نقع في الدوامة التي يريدون أن يزجونا فيها كالخراف التي تتبع الكراز دون تفكير...

 لا تفكّر نحن نفكّر عنك
  لا تصمّم نحن نصمّم عنك
لا تختار نحن نختار عنك...الخ

 وهنا أود أن أقول من خبرتي الضئيلة، أن شعب إيران هم متصالحون مع العولمة ومع التطور، لأن هذا الشعب الآري ذو بنيّة قويّة ومرتبط مع بعضه؛ فقد طوّرت إيران الثقافة والعلوم والطب والأبحاث وتوصلت أن يكون لديها أقمار إصطناعيّة وبحوث نوويّة متقدّمة... لكنها ظلّت في الوقت عينه محافظة على قيّم شعبها الدينيّة والاجتماعيّة:  فهي لم تتأثر بشيء اسمه "الغرب" وبقيت تدافع دائمًا عن المظلوم، وحافظت على فكرة العائلة وتماسك أعضائها، وعلى الاحترام المتبادل بين الزوج والزوجة، وعلى اعتبار المُسنّ كقيمة عائليّة يكرمونها، ففي كل عيد يترأس الجد الأكبر طاولة الاحتفالات، والعائلة تهتم به مهما ساءت حالته ولا ترسله إلى دور العجزة، وهو بدوره يُعلم أولاده وأحفاده تاريخ دولتهم، فيقرأ عليهم من كتاب الشاهنامه (تاريخ الملوك) {وبالمناسبة أنا والدكتورة آني طوروسيان المحترمة بصدد تأليف كتاب عن الشاهنامة}...
 وأضف أنهم، في إيران، لا زالوا يحتفلون بعيد النوروز (الشابيه يللدا)؛ ويعلمون أولادهم الأشعار، وهي من الأمور التي بدأنا نفقدها...
 وإذًا الوعي والحذر والمحافظة على هويتنا وخصوصياتنا، كما في إيران، ضروري، والجميع يعلم أن الشرق يختلف كثيرًا عن الغرب: نحن لنا تاريخنا وتراثنا وعوائدنا وتقاليدنا وثقافتنا الخاصة والعريقة منذ قرون ما قبل التأريخ. فعلينا أن نتمثل بهم.
 

"لكن"... طبعًا هناك "لكن". إذ أن هناك بالمقابل أمور سلبيّة عديدة فرضتها علينا هذه العولمة وأثرت وتؤثر على هويتنا.
 التاريخ يشهد بالنسبة للبنان، أنا أعتقد أن عقدة النقص التي لدينا تجاه الغرب، على أنه أفضل منا وأحسن منا ومتقدّم أكثر منا، -وهذا واقع-، وأن الحرية التي يتمتع بها شعب لبنان، هما من الأسباب التي سهّلت تعلقنا بكل ما يأتينا منه، وأعادت وسائل الاتصالات الالكترونيّة الحديثة ومتنت الرباط بيننا وبين العالم.
 ونحن، لدينا تاريخ عريق أيضًا يعود إلى آلاف السنين قبل الميلاد، هذا ما يحاول الغرب أن يتخطاه ويطمسه ويدمّره (عبر الدواعش وسواهم). ولدينا حضارة واسعة ومتميّزة وثقافة وتقاليد، ولدينا عادات إجتماعيّة خاصة لها أثرها وتبقى هامة: كالعيش المشترك، وروح التضامن (العونة)، والحياة العائلة، والأمانة... (كما لدينا أمور سلبيّة علينا أن نعمل على إصلاحها بالمقارنة مع بقية أنحاء العالم، كمكانة المرأة في العائلة، والفساد في المجتمع وفي الاقتصاد...).
 وفي إيران مثلاً هناك العديد من الكنائس والحضارات غير الإسلاميّة لا زالت الدولة تحافظ عليها وهي تعيش بأمان وسلام في الدولة الإسلاميّة الإيرانيّة. هنا في لبنان، المتميّز عن سائر الدول العربيّة، هناك 17 طائفة تعيش مع بعضها جنبًا إلى جنب بمحبة وتآخي. لكن السياسة الأجنبيّة لعبت دورها على الحساسية الدينيّة وأظهرت لنا الآخر كعدو وأثارت النعرات الطائفيّة التي لم نكن نعرفها سابقًا، فأججت الفتن والحروب الشرسة لكن البائسة لتقسمنا وتشرذمنا وتعادينا فيما بيننا. وشعار "فرّق تسُد" معروف.
وأمل أن تكون الحرب الأهليّة قد علمتنا درسًا، يبدو أن الجيل الجديد يرفض فكرة الطائفيّة ولكنه لا زال متمسكًا بالطوائف. الدين يوحّد لكن السياسة تفرّق. الغرب الذي يرفض الدين وصل إلى الإلحاد وإلى إضاعة القيّم الدينيّة التي هي في الأساس قيّم إنسانيّة؛ فظهرت لديهم الزواجات المثلية، والتبني الخاطئ وأهمل التعاون والاهتمام الواحد بالآخر وطغت الفردية والإنعزاليّة والأنانيّة والتقوقع الشخصي... 
 ويريدوننا أن نصبح مثلهم دون قيّم إجتماعية وروحيّة ودينيّة... ففي الغرب مثلاً، يبقي الشخص ساكنًا في بناية عدة سنوات ولا يعرف جاره. الزيارات العائليّة والإجتماعيّة أصبحت شبه مفقودة. وأكبر برهان أنهم في هذه الجانحة، أهملوا المسنيين دون آلات تنفس إصطناعي ليفضلوا استخدامها للشباب... أصبحت القاعدة الذهبيّة: "المصالح الخاصة".
 لماذا انسحبت إنكلترا من الإتحاد الأوروبي؟ لأنها شعرت بفقدان كافة خصوصياتها وهويتها التي كانت تتميّز بهما عن بقيّة الدول الأوروبيّة.
 ونحن في الشرق إبتدأنا نتأثر بسبب العولمة بإضاعة هويتنا (في السهرة واجتماع أفراد العائلة كل واحد يستعمل الخليوي الخاص ويهمل البقيّة)؛ حتى ذكاؤنا إبتدأ يتأثر وينحدّ، وذلك باتكالنا على تحصيل المعلومات بسرعة وسهولة من البرامج الألكترونية الحديثة كالغوغل وغيره (حتى في العمليات الحسابيّة البسيطة...). لم يعد هناك مجال للتفتيش الشخصي والإبداع.
 مع العولمة، أصبحت نفسيتنا ضائعة، أصبحنا كما يقول المثل اللبناني "مثل دويك في المدينة". نعيش في عالم غير عالمنا، نقدّر ما نراه في الغرب من تقدّم فني وعلمي وتقني وثقافي وحضاري (وهذا صحيح) ولكن لا يجب أن نزدري ما لدينا من تراث وتقاليد وقيّم ونهملها كأنها بمجملها غلط. وجاءت السياسات الخارجية لتزيد الطين بِلة، لتفاقم الوضع الإجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي والروحي والديني.
 ومن المؤكد أن مع العولمة أصبح التعاون بين الشرق والغرب والشمال والجنوب أسهل بكثير ولكن هذا أيضًا ليس صحيح مئة بالمئة: ففي أزمة الجانحة كورونا، شعرت فرنسا أنها بحاجة لدعم الدول الأوروبيّة لتساعدها في السيطرة على هذا الوباء، لكنها وللأسف لم تجدها بالقرب منها....
 و أما المحور الثالث، موضوع الجائحة كورونا إنموذجًا، نرى كيف أن الدول كلها راحت تتعاون لتخطي الأزمة: منها الدور الهام لصندوق النقد الدولي الذي يساعد الجميع، وهناك العديد من الدول كالصين ذاتها ساعدت بتوفير المعدات الطبيّة للدول المحتاجة كفحوص الـ PCR، وآلات التنفس الآلي والكمامات والقفازات، وحتى بعض الدول كروسيا وكوبا ساهمت في تجهيز مستشفيات محليّة في دول أخرى لاستيعاب المرضى؛ هناك أيضًا مساهمات على الصعيد الزراعي والصناعي والاقتصادي لتجاوز هذه الأزمة. وتعاون مع المفوضيّة الأوروبيّة؛ هذا الدعم والتعاون المتبادلان بين الدول هو أكبر برهان على انتشار العولمة ودورها في مجابهة تداعيات هذا الفيروس... 
لكن بالمقابل نلحظ الوجه السلبي لهذا الوباء الذي أبعد الإنسان عن أخيه الإنسان وصار يراه كعدو يهدّد كيانه، لم يعد يسلّم عليه، صار يبتعد عنه ويتجنبه قدر ما أمكن؛ أضاعت الدول قيمة الإنسان: لم يعد للموت من رهبة ولا أهمية، إهملت المسنين، ولم تعد تحترم الموتى، فأستغنت عن الشعائر الدينية وراحت تلقي بالموتى دون صلاة في مقابر جماعيّة... كلٌ يفتش على خلاصه ولم يعدّ يهمه أمر أخيه الإنسان.
 في الختام، لسنا أرقامًا إنما بشرًا وكلّ منا إنسان له خصوصياته وفرادته، ويرفض الإنسياق لكل ما تجلبه عليه هذه العولمة من إضاعة لهويته الشخصيّة. فهل هذا هو الإنموذج الذي نريده؟".