وليس جديدا ان كلا من واشنطن ولندن وباريس من اكثر داعمي انظمة الاستبداد في العالم العربي، ولا تمثل انتهاكات حقوق الإنسان خصوصا في الكيان الإسرائيلي ومصر وبعض دول مجلس التعاون، مشكلة اخلاقية او سياسية كبيرة.

وکالة مهر للانباء : د. سعيد الشهابي : بعد أيام يحتفي العالم الحقوقي باليوم العالمي لحقوق الإنسان للتعبير عن تشبثه بشعار اصبحت اهميته في العلاقات الدولية تتراجع بشكل مذهل. ففي العاشر من كانون الثاني- ديسمبر من العام 1948 اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ويعتبر هذا الإعلان وثيقة تاريخية أعلنت حقوقا غير قابلة للتصرف، يفترض أن يتمتع الإنسان بها – بغض النظر عن العرق أو اللون أو الدين أو الجنس أو اللغة أو الرأي السياسي أو غيره، أو الأصل القومي أو الاجتماعي أو الثروة أو المولد أو أي وضع آخر.

كان ذلك الإعلان تطورا ملحوظا في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي أتت على الاخضر واليابس، ودفعت «المنتصرين» لاعادة تشكيل العقل البشري باتجاه يقلص نزوعه نحو العنف او الانتقام او الانتقاص من حقوق البشر الطبيعية.

كان صدور الإعلان الذي أقرته عند صدوره خمسون دولة، بمثابة ثورة قيمية كبرى في عالم خاض غمار الحروب واصبح أكثر قلقا على مستقبله. كانت لجنة حقوق الإنسان التي أعدت الإعلان مكونة من 18 عضواً يمثلون شتى الخلفيات السياسية والثقافية والدينية. وقد قامت السيدة إليانور روزفلت، أرملة الرئيس الأمريكي فرانكلين د. روزفلت برئاسة لجنة صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

واشترك معها السيد رينيه كاسين من فرنسا، الذي وضع المشروع الأولي للإعلان، ومقرر اللجنة، السيد تشارلز مالك من لبنان، ونائب رئيسة اللجنة السيد بونغ شونغ شانغ من الصين، والسيد جون همفري من كندا، ومدير شعبة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، الذي أعد مخطط الإعلان. ومع هذا، فإنه كان ثمة تسليم بأن السيدة روزفلت كانت بمثابة القوة الدافعة وراء وضع الإعلان.

فاختار الحلفاء الذين انتصروا في الحرب على ألمانيا الهتلرية العمل وفق مبدأ «توازن الرعب» وهرعوا لتكديس الاسلحة التقليدية بمعدلات غير مسبوقة. والاخطر من ذلك ان هذه الدول دخلت سباق التسلح النووي برغم ما شاهدوه من دمار في هيروشيما وناغاساكي. صحيح ان مواثيق الحرب توسعت ولكن عقلية الاستكبار والاستعمار والنزعة للاستحواذ والهيمنة لم تتغير برغم اهوال الحرب
ويمكن القول إن استخدام القنبلة الذرية للمرة الاولى من قبل الولايات المتحدة كوسيلة اخيرة لانهاء الحرب كان من بين دوافع العالم لإعادة صياغة المشروع الإنساني بما يجنبه شرور الحرب التي ستكون أكثر تدميرا بعد دخول السلاح النووي الميدان العسكري على نطاق واسع. وقد توازى العمل البشري لتطوير الآليات التي تحمي الحقوق الطبيعية للبشر، مع سباق التسلح النووي بين الدول الكبرى. ويعتبر هذا التوجه منافيا لروح الإعلان المذكور الذي يفترض أن يؤدي الى توازن دولي مؤسس على القانون الدولي ومبدأ الحوار والتفاهم بهدف حفظ الامن والسلام الدوليين. ولكن ما حدث لاحقا كشف الجانب الشيطاني في النفسي الإنسانية.

فاختار الحلفاء الذين انتصروا في الحرب على ألمانيا الهتلرية العمل وفق مبدأ «توازن الرعب» وهرعوا لتكديس الاسلحة التقليدية بمعدلات غير مسبوقة. والاخطر من ذلك ان هذه الدول دخلت سباق التسلح النووي برغم ما شاهدوه من دمار في هيروشيما وناغاساكي. صحيح ان مواثيق الحرب توسعت ولكن عقلية الاستكبار والاستعمار والنزعة للاستحواذ والهيمنة لم تتغير برغم اهوال الحرب.

هذه التطورات خلال بضع سنوات من نهاية الحرب كشفت حقائق عديدة: اولها ان لدى الإنسان نزعة نحو السلام والعدل ومنع الظلم ووقف الانتهاكات، وهذه مشاعر غالبية قاطني هذا الكوكب. ثانيها: بموازاة ذلك هناك النزعة الاخرى لدى الإنسان، حب التسلط، الاستحواذ، الانانية، وهذا يدفع الكثيرين نحو النزعة الذاتية التي تجعل الفرد يشعر أنه محور الكون وان كل شيء يجب ان يسخر لمصلحته وتوفير ملذاته. ومن مصاديق ذلك العودة الى اجواء السباق العسكري والسعي لاقتسام النفوذ مجددا. وبهذه الروح دخل العالم في سباق نووي محموم يهدد امن العالم.

    يعتبر إعلان حقوق الإنسان وثيقة تاريخية أعلنت حقوقا غير قابلة للتصرف، يفترض أن يتمتع الإنسان بها – بغض النظر عن العرق أو اللون أو الدين أو الجنس أو اللغة أو الرأي السياسي أو غيره، أو الأصل القومي أو الاجتماعي أو الثروة أو المولد أو أي وضع آخر

ثالثا: ان روح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كان لها اثر محدود على سلوك حكومات العالم، فلم تلتزم الدول التي وقعت ذلك الإعلان بمقتضياته بشكل سليم. بل ان بعضها استمر بممارسة الانتهاكات. رابعها: ان المنظومة الحقوقية دخلت مرحلة الأفول بعد الحرب الباردة، وعلى مدى العقود الثلاثة الاخيرة تراجع الاهتمام الغربي بها، وبقيت محصورة بالجهات الحقوقية التي تكتفي باصدار التقارير ولا تملك آليات فاعلة لتفعيل توصياتها. خامسا: ان تراجع القيمة المعنوية للمنظومة الحقوقية ساهم في تشجيع انظمة الاستبداد على ممارسة المزيد من القمع والاضطهاد بحق معارضيهم. كما ادى لحالة من تلاعب انظمة القمع بها حتى بلغت مستوى غير مسبوق من الهبوط. سادسا: ربما من أهم أسباب تداعي أثر المنظومة الحقوقية تراجع دول «العالم الحر» عنها عمليا من جهة، وتخلي بعضها عن بعض مضامينها من جهة ثانية.

وليس جديدا ان كلا من واشنطن ولندن وباريس من اكثر داعمي انظمة الاستبداد في العالم العربي، ولا تمثل انتهاكات حقوق الإنسان خصوصا في الكيان الإسرائيلي ومصر وبعض دول مجلس التعاون، مشكلة اخلاقية او سياسية كبيرة
في هذه الاجواء القاتمة يحتفي الحقوقيون هذا الاسبوع باليوم العالمي لحقوق الإنسان وسط تصاعد الاصوات من بلدان كثيرة بالاستغاثة من الاوضاع المتدنية التي وصلت لها بلدانهم خصوصا على مستوى احترام الإنسان نفسه. ففي الاعوام الثلاثة الاخيرة تضاعفت معاناة المواطنين خصوصا النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان. وتطورت اساليب القمع بشكل كبير، فاصبحت الأنظمة كالحرباء التي تغير لونها لكي لا تُستهدف من الحيوانات الاخرى. هذا من جهة، ومن جهة اخرى تعمقت ظاهرة الافلات من العقاب، فاصبح المعذبون يمارسون ابشع اساليب التعذيب برعاية الحكومات التي يعملون ضمنها.

وتحظى هذه الحكومات بدعم حكومات غربية حليفة خصوصا امريكا وبريطانيا. لقد تراجع موقع حقوق الإنسان لدى هذه الحكومات، وتراجعت القيم الإنسانية في سلم اولوياتها، فاصبحت الاعتبارات الاقتصادية أهم لديها من اية مبادئ او قيم.

وليس جديدا ان كلا من واشنطن ولندن وباريس من اكثر داعمي انظمة الاستبداد في العالم العربي، ولا تمثل انتهاكات حقوق الإنسان خصوصا في الكيان الإسرائيلي ومصر وبعض دول مجلس التعاون، مشكلة اخلاقية او سياسية كبيرة.

وقد كشفت قضية خاشقجي ذلك، وكيف ان هذه العواصم تتعامل مع الحكم السعودي بشكل طبيعي ولا مكان لحقوق الإنسان عمليا في ذلك التعامل. واصبحت حكومات «العالم الحر» مستعدة للتكيف مع أشد الانظمة استبدادا وبطشا. بل انها عمليا تدعم هذه الأنظمة ليس امنيا وعسكريا فحسب، بل على مستوى العلاقات العامة وعلى صعيد العمل الدولي المشترك الذي يسلط الاضواء على اوضاع انظمة الاستبداد. ونظرا للميوعة الغربية ازاء مشروعي الديمقراطية وحقوق الإنسان، تشعر قوى الثورة المضادة بمناعة ضد الاتهامات والادانات التي توجه لها في هذين الجانبين.


في عالم القرن الحادي والعشرين، بعد ثلاثة ارباع القرن على انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبعد ثلاثة عقود من الاضطهاد والقمع من قبل الانظمة المحسوبة على الغرب، كان المتوقع حدوث صحوة ضميرية لدى اصحاب المشروع الغربي، تدفعهم لدعم قيام منظومة سياسية وامنية منسجمة مع المعايير الحديثة لقيم الحرية والديمقراطية وحكم القانون وحقوق الإنسان، خصوصا في الدول الصديقة للغرب، فيتوقفوا عن دعم الديكتاتوريين والمستبدين. كان المفترض ان لا تتكرر تجارب الماضي القريب التي نجم عنها سقوط اخلاقي وقيمي من قبل انظمة الاستبداد، فأين ذهبت تلك الاحلام؟ ما الذي سيستعرضه النشطاء الحقوقيون من تطور في المنظومة الحقوقية وهم يستعدون لاحياء اليوم العالمي لحقوق الإنسان؟

ما الرسائل التي سيوجهونها للانظمة المتحالفة مع الغرب، التي تمعن في التنكيل بمواطنيها بدون توقف؟ من المؤكد ان رئاسة ترامب لم تكن صديقة لمشروعي حقوق الإنسان والممارسة الديمقراطية، ولكن هل كان سابقوه أعمق توجها للدفاع عن حقوق الإنسان المهدورة في فلسطين او مصر؟ هل اتخذوا مبادرة لحماية ضحايا الانتهاكات المروعة لحقوق الإنسان في الرياض او المنامة أو ابوظبي؟ الامر المؤكد ان المنظومة الحقوقية قد تصدعت نتيجة سياسات التحالف الغربي الذي بقي اكثر من سبعين عاما متجاهلا حقوق الإنسان الأساسية للشعب الفلسطيني كالحرية والسيادة والانتماء، ووسّع ذلك ليشمل دعم أشد أشكال الحكم تخلفا وقمعا.

كاتب بحريني