وکالة مهر للأنباء _ کتب المفکر الفیلسوف المغربي ادریس هاني عن رحیل الشاعر الفلسطیني عزالدین المناصرة: "رحيل مثقف وشاعر في قامة عز الدين المناصرة، لا يعني أنّ فلسطين والعرب فقدوا آخر شعراء رعيل الكفاح والتّحرّر فحسب، حيث شكّل أحد الفرسان في الشعر الفلسطيني والعربي الحديث إلى جانب محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وطبعا لا ننسى فدوى طوقان، بل هو لحظة مأساوية في الوجودانية العربية، حيث في قلب هذا القلق الوجودي تسكن فلسطين، التي عند حافّتها فقط تختبر نوايا المثقّف المندمج، إذ لا اندماج في القلق الأنطلوجي خارج شروط وقلب الموجود، هناك فقط تبنى إشكالية الأنطولوجية العربية".
عزّ الدين المناصرة الذي ألّف وفكّر وساهم في نبض الكلمات في هذا المحصول الشعري، أصيل، ومثقّف يحسن التمييز بين التّمثّلات الصحيحة وبين إعادة عرض المسروق كما في منحوتته علم التّّلاص، وهو هنا ساهم في قطع الطريق ليس على المثقف غير المندمج فحسب، بنبض كلماته المبثوثة على طريق التحرر الفلسطيني، بل قطع الطريق على من تلصّصوا على النّصوص من دون تناص. غادر مسقط رأسه في بني النعيم حيث ولد 1946، شاعر مقاومة ترك بصمته على كل نبض وحرف، تغنّى مارسيل خليفة بقصائده وسافر بها نغما ،وألهم بها وجدانا عربيا ممتدّا على كل الساحات. لن أتحدّث عن شاعر حضر في كلّ مرابض الكفاح بالكلمة والموقف والعمل التحرري المسلح دفاعا عن القضية السليبة وعن الوجود الفلسطيني في المهاجر كما حصل إبان انخراطه في معارك تحرير بيروت، تاريخ حافل بالكلمة والمواقف والمهاجر، ولكنني أقرأ آيات التأبين في حروفه الخالدة، خلود الثورة الفلسطينية، في قصيدتين أنشدهما مارسيل خليفة: جفرا أمّي وبالأخضر كفّناه.
في جفرا، يحيلنا المناصرة إلى عمق التراث الفلسطيني الشعبي، إلى جفرا التي تلخّص الأنين وخيبة الأمل والتشبّث ببقايا الحنين، وهو الحنين الذي ينقلك من التجربة الشخصية إلى التجربة العامّة، كيف تصبح الأحاسيس ورقائق الغرام إلى إحساس وطنّي مُغنّى وإلى ذاكرة أمّة؟ جفرا هي في الأصل إسم نحته الشاعر الفلسطيني أحمد عزيز علي الحسن من قرية كويكات بعكّا لمحبوبته ابنة عمه، رفيقة نايف الحسن، التي طُلّقت منه عنوة لأسباب غامضة وفرض عليه البِعاد، ولكنه حمل ذلك الحبّ في جيد الكلمات. قصّة تحكي عن تجربة مرّة انتصر فيها الشّاعر بالكلمات والحنين، باتت أغنية شعبية غنّاها الفلسطينيون في ثلاثينيات القرن الماضي.
سيعيدنا المرحوم المناصرة في تناصّ جميل تبرره الذاكرة الجماعية والارتباط القلق بأرض تفوح بوشائج شتّى، الأرض التي يذكرها اللاّجئ الحامل لمفاتيح العودة، المزارع الذي يفلح الأرض ويحمل معها هذا الشّميم، وثمة ما هو عريق في هذا الارتباط بالأرض التي شهدت صورا من الحنين والحبّ، ذاكرة مكان تحمله الكلمات بشغف ينبض بالأمل. جفرا هي قصّة مؤلمة كما في تفاصيلها، وهي لهذا كما يقول المناصرة في إخراجها الثّاني:
من لم يعرف جفرا فليدفن رأسه
من لم يعشق جفرا فليشنق نفسه
ينقل المناصرة جفرا إلى بيروت، وتحديدا عند الحاجز في أيلول حيث قتلت وصُلبت، حين تمّ قصفها من قبل الوحش الطائر، أي قتلها في غارة إسرائيلية على لبنان. جفرا في إخراجها الثاني مع المناصرة ارتقت إلى الفعل الثوري وإلى العالمية في آن معا. استطاع المناصرة أن يجعل منها قضية وطنية تحررية حين كتب عن جفرا الوطن المنسي. هي "جفرا النابلسي" الطالبة الفلسطينية التي كانت على وشك أن تكون زوجة للمناصرة، قبل أن تسقط شهيدة على إثر قذيفة. سترقى القصيدة بعد ترجمتها إلى ما يزيد عن عشرين لغة إلى العالمية -في 1980 سيعرض فيلم يوغسلافي عن جفرا بمهرجان موسكو السينمائي الدولي - في مسرح موليير ببارسي تم إنشادها من قبل أحد المسرحيين الفرنسيين، في حضرة المناصرة وفدوى طوقان ومحمود درويش، وكان الحدث الأبرز حضور جاك دريدا واصفا إياها كأنّها السحر نفسه. لهذه الكلمات بالفعل سحر خاص، جعلها قصيدة تاريخية فاقت بدلالتها جفرا الأولى. جفرا الأولى هي صورة عن ذاكرة شعبية، ذاكرة الماضي النابض، بينما جفرا المناصرة هي ذاكرة المستقبل، ذاكرة الأمل.
في ذلك الزمن المغلول، يقول المناصرة وجهت القذيفة نحو الوردة..نحو مخدّتها.. لقد باتت أغنية ملوّنة، والذبح يسم المشهد كلّه:
تتصاعدُ أُغنيتي عَبْر سُهوبٍ زرقاءْ
تتشابهُ أيامُ المنفى، كدتُ أقول:
تتشابهُ غاباتُ الذبحِ، هنا، وهناكْ.
تتصاعدُ أغنيتي: زرقاءَ وحمراءْ:
الأخضرُ يولدُ من دمعِ الشهداءِ على الأحياءْ
الواحةُ تولدُ من نزفِ الجرحى
الفجرُ من الصبحِ
إذا شَهَقَتْ حبّاتُ ندى الصبحِ المبحوحْ
ترسلني جفرا للموتِ،
ومن أجلكِ يا جفرا
تتصاعدُ أغنيتي الخضراءْ.
تركت جفرا أثرا عميقا في مشاعر شاعر مقاوم، فقط المقاومون هم من يحسن الحبّ..من يا ترى يثق فيمن يبيع الأرض وينسى؟ الوفاء واحد لا يتجزّأ..الوفاء للأوطان.. للمحبوب.. كلّ تلك التفاصيل تصبح تذكارا، النظرة والبسمة في هذا الزّمن المغلول:
منديلُكِ ﻓﻲ جيبي تذكارْ
ﻟﻢ أرفعْ صاريةً، إلاّ قلتُ: فِدى جفرا
ترتفعُ القاماتُ من الأضرحةِ، وكدتُ أقولْ:
زَمَنٌ مُرٌّ، جفرا... كلُّ مناديلكِ قبلَ الفجرِ تجيءْ
هذا المحتلّ لا يرحم، يلاحق المواطنين في منفاهم، يرشّهم حمما من بعيد، ذنبهم أنهم لم ينسوا القضية..لم ينسوا أنّهم ذات مرة نبتوا في تلك الأرض كما هو المناصرة..أن ينسى الفلسطيني أرضه هذا يعني أن يصبح خارج المعنى..يفقد إنسانيته وذاكرته..حين تستباح الجغرافيا ينتحر التاريخ وتتورّم الذّاكرة. وهناك في بيروت حيث ينعى المناصرة حبيبته التي اختطفتها حمم الوحش الذي يخرّب العمران والأحاسيس، ويقضّ حتى الغرام، هناك حيث احترف الإبادة كقهوة الصباح، هنا بات القتل عادة:
ﻓﻲ بيروتَ، الموتُ صلاةٌ دائمةٌ...
القتلُ جريدتُهُمْ،
قهوتُهمْ،
القتلُ شرابُ لياليهمْ
القتلُ إذا جفَّ الكأسُ، مُغنّيهمْ
وإذا ذبحوا... سَمَّوا باسمكِ يا بيروتْ.
هي بيروت إذن، لحم يشوى، وجع دائم، ومع ذلك فهي العروس..فيها تعايشت الأضداد..بيروت هنا في قصيدة المناصرة محبوكة على نغم الوجع، تلك الأيّام ولا زالت، وفي كلّ حقبة نصيب مشهود من هذا القلق، حين يصف المناصرة بيروت حينئذ، فهو إحساس فلسطيني في منفاه، لكن من يا ترى يقول أن بيروت منفى؟ بيروت ليست منفى، بل هي شرفة نطلّ منها على وجع عربي عريض، عروس تلطّخت ذيول فستانها الأبيض بالدّم والغدر.. هكذا أراها على الأقلّ..وفي قصيدة المناصرة، لا شيء يشدّ عن هذا الشعور حين تحنّ الحروب وتمجّد بيروت:
سأعوذُ بِعُمّال التبغِ الجبليّ المنظومْ
هل كانت بيروتُ عروساً،
هل كانت عادلةً... ليستْ بيروتْ
إنْ هي، إلاّ وجعُ اللحمِ الملْمومْ
حبَّاتُ قلادتهِ، انفرطَتْ، ﻓﻲ يومٍ مشؤومْ
- إنْ هي إلاّ همهمةُ الصيّادينَ،
إذا غضبَ البحرُ عليهمْ
إنْ هي إلاّ جسدُ إبراهيمَ،
المُتناثرُ، قربَ الفُرْنِ البلديّْ
إنْ هي إلاّ أبناؤك يا جفرا
يتعاطونَ حنيناً مسحوقاً ﻓﻲ زمنٍ ملغومْ
إنْ هي إلاّ أسوارُكِ يا مريامْ
إنْ هي إلاّ عنبُ الشامْ
ما كانت بيروتُ وليستْ،
لكنْ تتوافدُ فيها الأضدادْ
تجري خلفكَ قُطْعانُ الرومْ
وأمامكَ بحرُ الرومْ.
لا أدري ما الذي يجعلني أستشعر وحدة الأحاسيس بين قصيدة باربارا لجاك بريفير وجفرا للمناصرة..ذاكرة المكان تؤرّخ للمنفى..لمن يا ترى تجدي الشكوى، حين يشتدّ الألم وهذا التّمزّق النّفسي في محرقة النّسيان، من نخاطب يا ترى بآلامنا حين تضمحلّ الأحاسيس الإنسانية، ويتحجّر -كميدوزا -كل قلب بالضغينة(= السّياب)؟ يقول المناصرة:
للأشجار العاشقةِ أُغنّي.
للأرصفةِ الصلبةِ، للحبِّ أغنّي.
للسيّدةِ الحاملةِ الأسرار، رموزاً ﻓﻲ سلَّة تينْ
تركضُ عبرَ الجسرِ الممنوعِ علينا،
تحملُ أشواقَ المنفيينْ
لفلسطينَ أُغنّي.
لرفاقٍ ﻟﻲ ﻓﻲ السجنِ، أُغنّي
لرفاقٍ ﻟﻲ ﻓﻲ القبرِ، أُغنّي
جفرا أُمّي إنْ غابتْ أُمّي
كانت جفرا جميلة..وهي هنا تحتلّ ذاكرة الوطن الجميل، السليب، حيث قصّوا ظفائر الأرض كما قصوا ظفائر جفرا عند الحاجز..جفرا التي يعشقها الماء، حيث يحيلنا المناصرة إلى نبتة النرجس، هي أسطورة هذا الجمال المغنّى على صفحة الماء، وحقّ أن ينبت النرجس في ذاكرة وجع الأرض..هي محبوبة امتزجت بذاكرة وطن، لكنها تسبح كحرية البحر في قصيدة المناصرة، لتكتسب رونقا ودلالة أبعد مدى..فقد العرب المعنى حين ابتعدوا عن الشعر ديوان مواجعهم، تحجّّرت الأبصار وعمّ الصّمم..متى يشرق الوجدان العربي؟ متى يقطر القمر نورا؟ متى ترقى الأرض إلى مفهومها العتيق؟
يغادر المناصرة المشهد في ذروة الصّراع..يغادر بعد أن ترك خلفه كلمات تحمل كل تلك الأحاسيس..دور الشّاعر حين يكون مفكّرا.. حمل معه قصّة وطن تمَشْكل بقوّة الغُلب وانحراف الجغرافيا السياسية، لكنه ظلّ على طراوته في وجدان الكلمات الثّائرة..هام المناصرة كشاعر يتحسس كلماته جيدا في كلّ وادي سليب من فلسطين، في زمن تكاثرت فيه الدكاكين التي لم تقدّم لفلسطين سوى الثُّغاء وأصوات قبيحة ومتاجر ومزايدات ومؤامرات وضجيج..في كلمات المناصرة نقف على جمال الذكرى والأرض، على المعنى الإستيتيقي للوطنية والفعل التّحرّري..أقول: كلّما جعلك أصحاب الدكاكين ومنتحلي النضال بالمراسلة تيأس من قضية هي أكبر منهم وأجمل منهم وأعرق تاريخا من تاريخهم الشّكالي(نسبة لـ: chacal- ابن آوى)، فعليك أن تقرأ فسلطين في قصيدة هذا الرّعيل..أي معنى للشّاكال الملتفّ بالكوفية بالغدوّ والأصال، ينثر قبحه الأصيل على قضية لا تحملها إلا حروف الجمال..لعن الله الشّاكال الملتف بالكوفية..ورحم الله من ازدانت فلسطين بأحاسيسهم الصادقة..رحم الله المناصرة..وأترككم مع ذيل قصيد جفرا..جفرا الشهيدة..
وضفائرُ جفرا،
قصّوها قربَ الحاجز،
كانت حينَ تزورُ الماءْ
يعشقها الماءُ... وتهتزُّ زهورُ النرجسِ حولَ الأثداءْ.
جفرا، الوطنُ المَسْبيّْ
الزهرةُ، والطلْقةُ، والعاصفةُ الحمراءْ
جفرا – إنْ ﻟﻢ يعرفْ، مَنْ ﻟﻢ يعرفْ
غابةُ بلّوطٍ ورفيفُ حمامٍ... وقصائدُ للفقراءْ
جفرا – من ﻟﻢ يعشق جفرا
فليدفنْ هذا الرأسَ الأخضرَ ﻓﻲ الرَمْضاءْ
أوْ تحتَ السورْ
أرخيتُ سهامي،
قلتُ: سمائي واسعةٌ والقاتلُ محصورْ
منْ ﻟﻢ يخلع عينَ الغولِ الأصفرِ...
تبلعُهُ الصحراءْ.
جفرا عنبُ قلادتها ياقوتْ
جفرا، هل طارت جفرا لزيارةِ بيروت؟
جفرا... كانت خلفَ الشُبَّاكِ تنوحْ
جفرا... كانت تنشدُ أشعاراً... وتبوحْ
بالسرِّ المدفونْ، المغمورْ
جفرا أُمّي إنْ غابتْ أُمّي
ﻓﻲ شاطئ عكّا... البيضاءِ الدورْ
وأنا لعيونكِ يا جفرا، سأغنّي
لفلسطينَ الخضراء... أُغنّي
سأغنّي
سأُغنّي.
- كانتْ... والآن تعلّقُ فوقَ الصدر، مناجلَ للزرعِ
وفوقَ الثغر، حماماتٍ بريّةْ.
النهدُ على النهدِ، الزهرةُ تحكي للنحلةِ،
الماعزُ سمراء،
الوعلُ بلونِ البحر، عيونكِ فيروزٌ يا جفرا.
وهناك بقايا الرومان: السلسلةُ على شكلِ صليبٍ من نورْ
هل عرفوا... شجرَ قلادتها من خَشَبِ اليُسْرِ،
وهل عرفوا أسرارَ حنين النوقْ
حقلٌ من قصبٍ، كان حنيني
للبئرِ وللدوريّ، إذا غنّي لربيعٍ مشنوقْ
قلبي مدفونٌ، تحت شُجيرةِ برقوقْ
قلبي ﻓﻲ شارعِ سَرْوٍ مصفوفٍ، فوقَ عِراقيّةِ أُمّي
قلبي ﻓﻲ المدرسةِ الغربيّةْ
قلبي ﻓﻲ المدرسةِ الشرقيّة
قلبي ﻓﻲ النادي، ﻓﻲ الطللِ الأسمرِ،
ﻓﻲ حرْفِ نداءٍ ﻓﻲ السوقْ.
جفرا، أذكرها، تلحقُ بالباصِ القرويْ
جفرا، أذكرها طالبةً، ﻓﻲ جامعةِ العشّاقْ.
- مَنْ يشربْ قهوتهُ ﻓﻲ الفجر، وينسى جفرا
فَلْيدفنْ رأسَهْ
مَنْ يأكلْ كِسْرتَهُ الساخنةَ البيضاءْ
مَنْ يلتهمُ الأصدافَ البحريةَ ﻓﻲ المطعمِ،
ينهشُها كالذئبْ
من يأوي لِفراشِ حبيبتهِ، حتى ينسى الجَفْرا
فليشنقْ نفَسَهْ.
جفرا ظلَّت تبكي ﻓﻲ الكرملِ،
ظلَّتْ تركضُ ﻓﻲ بيروتْ
وأبو الليلِ الأخضرِ، من أجلكِ يا جفرا
يقذفُ من قهرٍ طلقته... ويموتْ.!!!
/انتهی/