وكالة مهر للأنباء - عادل الجبوري: منذ اغتيال كلٍّ من نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس وقائد "قوة القدس" الإيراني قاسم سليماني بعملية أميركية قرب مطار بغداد الدولي في الثالث من كانون الثاني/يناير 2020، اتسعت دائرة المطالب والدعوات السياسية والشعبية والمرجعية العراقية لإنهاء التواجد الأجنبي - وتحديداً الأميركي - من الأراضي العراقية، قابلها قدر كبير من المماطلة والتسويف والمراوغة من الإدارة الأميركية، تجلَّت في جانب منها بالاستهداف المتكرّر بين الفينة والأخرى لمواقع الحشد الشعبي، ناهيك بالحملات الإعلامية والسياسية المتواصلة من الأوساط والمحافل الغربية وبعض الأوساط والمحافل العربية، وحتى العراقية.
وكانت الذريعة لاستهداف "الحشد"، هو الرد على مصادر انطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة التي تستهدف القواعد العسكرية والمطارات في بغداد والأنبار وصلاح الدين وأربيل، حيث تتواجد القوات الأميركية، وكذلك استهداف أرتال الدعم اللوجيستي الأميركي على الطرق الخارجية بين المحافظات.
ترى فصائل المقاومة أنّ الخيار الوحيد لإخراج القوات الأميركية المحتلة من العراق يتمثل بالعمل العسكري
وترى فصائل المقاومة أنّ الخيار الوحيد لإخراج القوات الأميركية المحتلة من العراق يتمثل بالعمل العسكري، بعدما فشلت الخيارات السّياسية التفاوضية، واتّضحت صورة مواقف واشنطن المخادعة. وفي 11 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أعلنت تنسيقية المقاومة العراقية، بعد وساطات أممية ومباحثات مع كبار قادة الحشد، في بيان لها، هدنة مع الولايات المتحدة، مؤكدة أنها ستعلق الهجمات مقابل خطة واضحة لرحيل القوات الأميركية، وأن على الحكومة العراقية أن تنفذ قراراً برلمانياً صدر في كانون الثاني/يناير 2020، دعا إلى انسحاب جميع القوات الأجنبية من العراق، إذ صرح المتحدث باسم كتائب "حزب الله" محمد محيي في حينه: "إنّ الفصائل أعطت هدنة مشروطة. هذه الهدنة المشروطة موجهة إلى الحكومة العراقية بالذات، لأنها معنية بتنفيذ قرار مجلس النواب".
ولكن فصائل المقاومة عادت بعد حوالى 6 شهور، لتعلن انتهاء الهدنة على خلفية قصف أميركي لقطعات من قوات الحشد الشعبي في منطقة القائم قرب الحدود العراقية – السورية. وجاء في بيان انتهاء الهدنة: "لقد أصبحت الفرصة ضيّقة جداً على الحكومة العراقية لكي تبيّن موقفها بوضوح من الانتهاك المتكرر لسيادة العراق، سواء من قوات الاحتلال المختلفة، أو من دول الجوار التي تجعل من أراضيها منطلقاً للعدوان على العراق، أو من المتواطئين داخل هذه الحكومة، من الذين يبررون جرائم قوات الاحتلال أو يطالبون هذه القوات بالمزيد من هذه الجرائم، ويحاولون اختزال موقف العراق كله بموقفهم المنبطح الذليل".
وبينما جاء إعلان الهدنة بعد أقل من شهرين على زيارة رسمية قام بها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي للولايات المتحدة الأميركية، جاء قرار إنهاء الهدنة بعد استهداف أميركي جديد للحشد، علماً أنَّ الكاظمي أطلق بعد عودته من واشنطن تصريحات متفائلة عن جدولة الانسحاب، وعن استعداد واشنطن لمساعدة العراق لمواجهة تداعيات جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية.
وقد أُحيطت تلك الزيارة بهالة إعلامية كبيرة، وعقد البعض عليها آمالاً واسعة لحلحلة المشاكل والأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية التي يعانيها البلد، لكن سرعان ما تبدد التفاؤل لدى المتفائلين، ليحلّ محلّه الإحباط والتشاؤم حين راحت واشنطن تسوّف وتماطل وتتهرّب، وأكثر من ذلك تتمادى في انتهاك السيادة الوطنية.
قال الجبوري ان أيّ انسحاب تحت وقع صواريخ ومسيّرات حركات المقاومة يُعدّ هزيمةً مخزيةً للولايات المتحدة
أكثر من ذلك، تزايدت التسريبات والتلميحات من مراكز القرار في واشنطن، كالبيت الأبيض والبنتاغون والخارجية والأمن القومي، إلى أنَّ أيّ انسحاب تحت وقع صواريخ ومسيّرات حركات المقاومة وتأثيرها "يعدّ هزيمةً مخزيةً للولايات المتحدة، وانتصاراً لإيران وحلفائها وأصدقائها"، وهو ما لا ينبغي أن يحدث بأيّ شكل من الأشكال، أي بعبارة أخرى، لا تريد أميركا أن يتكرر كابوس فيتنام بعد أكثر من 40 عاماً.
وفي خضمّ الأجواء السياسية والشعبية الرافضة للتواجد الأميركي والمطالبة بإنهائه بعد عملية اغتيال سليماني والمهندس، أطلق وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو تصريحات قال فيها "إنَّ الولايات المتّحدة تتطلّع إلى متابعة عملها في العراق".
مجمل التصريحات الرسمية وغير الرسمية بعد ذلك، كانت بالمعنى والمضمون نفسه. ورغم تغير الإدارة الأميركية برحيل ترامب الجمهوري ومجيء بايدن الديمقراطي، فإنَّ الرؤية الاستراتيجية لواشنطن حيال العراق لم تتبدَّل، فما يتداول الآن من تصريحات قد لا يختلف كثيراً عما كان يردده ترامب ووزير خارجيته بومبيو.
وفي ذلك، يشير المسؤول السابق في وكالة المخابرات المركزية (CIA) والباحث في معهد الشرق الأوسط، تشارلز دان، إلى "أن هجمات الطائرات من دون طيار في العراق تشكل مصدر قلق تكتيكي متزايداً للتحالف، ولكن لا يبدو أنها خلفت المزيد من الضغوط للانسحاب من العراق". ويضيف قائلاً: "يمكن النظر إلى الوجود الأميركي في العراق باعتباره ميزة للولايات المتحدة من حيث الضغط على إيران، إذ إنه يوفر مستوى من النفوذ له قيمة في تشجيع السلطات العراقية على الوقوف في وجه طهران في بعض الأحيان، ويظهر التزاماً سياسياً أميركياً بالعمل مع العراقيين".
علاوةً على ذلك، إنَّ هناك أوساطاً سياسية وعسكرية أميركية تحذّر بشدة من تكرار خطأ الانسحاب الذي وقعت فيه إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما في أواخر العام 2011. ولعلَّ واشنطن تحاول توظيف الأسلوب الدبلوماسي الهادئ لتحقيق أهدافها وترتيب أوراقها في العراق، من دون الاضطرار إلى القبول على مضض بأسوأ الخيارات. وقد تكون جولات الحوار الاستراتيجي التي من المفترض أن تعقد الجولة الرابعة منها قريباً إحدى أدوات التوظيف.
كذلك، إنَّ البعض في واشنطن وبغداد وأربيل يعوّل نوعاً ما على الزيارة المرتقبة للكاظمي إلى واشنطن في غضون الأسابيع القلائل الماضية، وما يمكن أن تحدثه من تقارب أو تقريب للرؤى بين واشنطن وطهران، مع الأخذ بعين الاعتبار دلالات عودة المبعوث الأميركي السابق إلى العراق بريت ماكورك إلى واجهة المشهد، بعنوان جديد هو منسق البيت الأبيض، وترؤسه وفداً أميركياً للقاء كبار الساسة والمسؤولين في بغداد، والذي جاء متزامناً مع زيارة وزير الأمن الإيراني محمود علوي لبغداد، وعقده لقاءات مماثلة مع الزعامات السياسية العراقية.
واشنطن وجدت نفسها مرغمة على حزم حقائبها والمغادرة بفعل حقائق الأمر الواقع في الميدان
وإذا أقررنا بحقيقة أنّ ما تريده واشنطن شيء، وما يمكن أن يفرضه الواقع شيء آخر. حينذاك، لا بدَّ من النظر إلى دائرة الوقائع والأحداث من زاوية أوسع وأشمل، والتوقّف قليلاً عند سيناريو الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وفي ما إذا كان سيتكرر في العراق، في حال وجدت واشنطن نفسها مرغمة على حزم حقائبها والمغادرة، بفعل حقائق الأمر الواقع في الميدان، لا وفق حوارات وتفاهمات الأروقة والكواليس.
في الملفّ الأفغاني، من اليسير جداً تسجيل حزمة ملاحظات، من بينها أن الولايات المتحدة الأميركية التي غزت أفغانستان واحتلَّتها قبل 20 عاماً لتنهي نظام حركة "طالبان"، تغادر حالياً، لتفسح المجال لها من أجل الإمساك بزمام الأمور، ناهيك بالخراب والدمار والتخلف والانقسام السياسي والمجتمعي الذي تسبّب به الوجود الأميركي في البلاد، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، حتى بدا اليوم أنّ المفاوضات التي رعتها واستضافتها دولة قطر بين واشنطن و"طالبان" قبل بضعة شهور، كان الهدف منها ترتيب أوراق ما بعد الانسحاب الأميركي لمصلحة "طالبان"، وهو ما أثار حفيظة أوساط وشخصيات سياسية أميركية واستياءها، وولّد موجة انتقادات حادة ولاذعة لإدارة الرئيس بايدن، الذي صرّح بأن القوات الأميركية حقَّقت أهدافها في أفغانستان، وستكمل انسحابها الكامل في نهاية شهر آب/أغسطس المقبل، في الوقت الذي اعتبر الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش أن ذلك الانسحاب سوف سيترك نتائج كارثية وخيمة على الولايات المتحدة وحلفائها ودول المنطقة، وربما تكون واشنطن قد أدركت مبكراً أخطاءها الكبيرة السابقة واللاحقة، ولا سيما تلك المرتبطة بتداعيات الانسحاب ومخرجاته.
لذا، راحت تبحث عمن يستطيع سد الفراغ، والتحكّم في إيقاع الأحداث القادمة، في ظل التمدد السريع لحركة "طالبان"، والمؤشرات تذهب إلى أنَّ واشنطن تسعى إلى صياغة تفاهمات مع موسكو لذلك الغرض، مع إطلاق يد أنقرة - الطامحة إلى توسيع مساحات نفوذها وحضورها الإقليمي والعالمي - بقدر معيَّن في الساحة الأفغانية.
المقاربة بين الانسحاب الأميركي من أفغانستان والانسحاب المفترض أو المتوقّع من العراق، تكشف عن أوجه اختلاف غير قليلة، وإن كانت واشنطن لا تختلف كثيراً في تعاطيها مع حركة "طالبان" عن تعاطيها مع تنظيم "داعش".
وجود المرجعيّة الدينيّة، وطبيعة المعادلات والتوازنات السياسية القائمة، وبروز الحشد الشعبي كقوة شعبية ذات إطار رسمي حكومي، وتشابك وتداخل مصالح العراق وأمنه مع مصالح الفضاء الإقليمي وأمنه، تمثل كلها عناصر أو عوامل ضبط وتوجيه مهمة وفاعلة للمسارات، ولا يمكن في أي حال من الأحوال تجاهل أي منها في أية ترتيبات يراد العمل عليها.
قد لا يتاح للعراق في ظلِّ الواقع الداخلي والإقليمي الراهن، والتعقيدات والمشاكل والأزمات القائمة، أن ينعم بالاستقرار الحقيقي على المدى المنظور، ولكن في الوقت ذاته من المستبعد جداً أن تتمكَّن واشنطن - ومن يتحالف معها ويساند توجّهاتها - من فرض ما تريده في العراق وتسويقه وتطبيقه، مثلما فعلت أو تفعل في أفغانستان وغيرها./انتهى/