يعرفه الفلسطينيون جميعاً، شعباً وقيادة، وفصائل وقوى مقاتلة، وأحزاباً سياسية وكتائب عسكرية، وكتاباً وإعلاميين، ومناصرين ومؤيدين، فقد كان قريباً من العامة والخاصة، ويعرف الجند والقادة، ويتابع الأفراد والمسؤولين، ويتفقد أحوال الجرحى والمصابين، ويهتم لشؤون الأسرى والمعتقلين، ويعرف حاجات الشعب ويدرك ما يريدون، فيهب لمساعدتهم إذا طلبوا، ويسرع في تلبيتهم إذا سألوا، فقد كان وأعوانه يحرصون على تقديم الدعم للفلسطينيين عموماً، بكل أشكاله وأنواعه، المادي والعسكري والتقني والمعلوماتي والفني، وغير ذلك مما يحتاج إليه الفلسطينيون في أعمال المقاومة وسبل الصمود والثبات، أو لمناحي الحياة وحاجات العيش الأساسية لشعبٍ قدره أن يكون تحت الاحتلال.
فلسطين في وعي الشهيد قاسم سليماني ورجاله، ولدى قيادته وأتباعه، آيةٌ من كتاب الله عز وجل، وهي بعضٌ من العقيدة بنص القرآن الكريم، التي لا يقوم الإسلام إلا عليها، ولا ينهض إلا بها، ولا يصح إلا بتمامها، وإيمانه راسخٌ أن المسجد الأقصى المبارك مسرى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعراجه إلى السماوات العلى، وأنه والقدس التي تحضنه، وفلسطين التي تضمهما معاً، يجب أن تحرر وتستعاد، وأن تطهر من الدنس، وتبرأ من النجس، وتعود إلى عمقها الإسلامي وحضارته الأصيلة.
سيبقى الفلسطينيون يذكرون الحاج قاسم سليماني كلما تذكروا الحروب التي صمدوا فيها، والمعارك التي ضد العدو خاضوها، والصواريخ التي أطلقوها، والمديات البعيدة التي وصلوا إليها، والأهداف الدقيقة التي استطاعوا أن يصيبوها، ومصانع الأسلحة المختلفة التي باتوا يملكون تقنيتها ويكتفون بحاجتهم المحلية منها، وهم المحاصرين من كل جانب، والمستهدفين من كل المحيط والجوار القريب والعدو البعيد، إلا أنهم تمكنوا بجهود الحاج قاسم سليماني من تصنيع حاجتهم من السلاح، وقد كان السيد القائد على الخامنئي قد طلب منه تصنيع السلاح لهم، بعد أن تعذر نقله من خلف الحدود إليهم.
سيذكر الفلسطينيون دوماً قاسم سليماني كلما مروا قريباً من نفقٍ أو عبروا فيه، أو سمعوا من الإسرائيليين شكوى أو من المستوطنين في غلاف غزة خوفاً، إذ مكنهم من حفر أنفاق المقاومة الاستراتيجية، وساعدهم في تحصينها وتجهيزها لتكون مقراً لقيادتهم، ومستودعاً لصواريخهم، ومصنعاً لسلاحهم، وملجأً آمناً لقيادة أركان المقاومة، وممراً آمناً لمن يأسرونهم من جنود العدو وضباطه.
سيذكره الفلسطينيون كلهم، في فلسطين المحتلة وخارجها، وفي مخيمات اللجوء في سوريا ولبنان، كلما مروا على بئر مياهٍ عامرة، أو خزانات مياهٍ للشرب معبأة، أو مولدٍ للكهرباء ينير البيوت المعتمة، أو مسجدٍ معمر، أو شارعٍ معبدٍ، أو مستوصفٍ يعمل، ورضةٍ تستقبل أطفالها، ونادٍ يرتاده الشبابُ ومكتبةٍ يجتمع فيها الطلاب والباحثون، فقد ترك الشهيد قاسم سليماني أثراً له في كل بيتٍ فلسطيني ومخيمٍ في الوطن والشتات.
وسيذكره الأسرى والمعتقلون والجرحى والمصابون، الذين كان يكلأهم برعايته، ويهتم بشؤونهم بنفسه، إذ سمى للأسرى مرتباتٍ شهرية، يشترون بها في سجونهم ما يحتاجون إليه، وأكرم ذويهم وأغدق على أهلهم، كما اهتم بالجرحى والمصابين فعالجهم في الداخل، وسَفَّرَ واستضاف ذوي الحالات المستعصية في مستشفيات إيران ولبنان وسوريا، وبقي يتابعهم ويهتم بأمورهم، ولم ينس الشهداء الذين كان يراهم شرف الأمة وخير أبنائها، فأكرم ذويهم، واهتم بأسرهم، ورعى وتبنى أبناءهم، وأوصى مساعديه بهم، ليقوموا مقامه معهم إذا غاب، ويحافظوا على وعده وعهده لهم إذا لقي الله عز وجل شهيداً مثلهم.
يعرف الفلسطينيون الجنرال قاسم سليماني أكثر من خلال العدو الإسرائيلي، الذي لا يفتأ يردد اسمه ويذكر مشروعه، ويحذر من جهوده، ويتخوف مما أعده وجهزه، ويقلق مما استبقاه سراً وأخفاه عن العيون ليكون بتصرف المقاومة وقت الحاجة، له مفاجئاً ولجيشه مباغتاً، وقد اعترفوا بأنه نجح في تسليح المقاومة الفلسطينية والعربية، وزودهم بالسلاح الكافي والصواريخ النوعية، البعيدة المدى الدقيقة الإصابة، واستطاع إلى حدٍ بعيد أن يحيط كيانهم بزنارٍ من الصواريخ، المحددة الأهداف والدقيقة الاحداثيات، الجاهزة للانطلاق في أي حربٍ قادمةٍ، وهي قادرة على تطويقهم بالنار وإمطارهم بحمم القذائف، وإصابة جميع الأهداف القريبة والبعيدة، العسكرية والاستراتيجية، والاقتصادية والخدمية، بما يشل كيانهم، ويدمر اقتصادهم، ويفكك مستوطناتهم، ويهجر سكانهم ويرحل وافديهم، وينذر بنهاية مشروعهم وشطب كيانهم.
ربما عاش الحاج قاسم سليماني لفلسطين أكثر مما عاش لأي قضيةٍ أخرى، إيرانية كانت أو غير ذلك، وقد كان بـإمكانه أن يبرع في قضايا أخرى كثيرة غيرها، وأن ينجح في سواها، وأن يجد لنفسه متسعاً رحباً بعيداً عنها، وأن يأمن على حياته ويطمئن إلى مستقبله، ولا يغامر بنفسه ويعرضها إلى المهالك، وأن يبقى قريباً من بيته مع أهله وأطفاله، وفي عائلته وبلدته، يسعد معهم ويعيش بينهم، ويهتم بأمرهم، ويخطط لمستقبلهم.
إلا أنه تقدم ولم يتأخر، وتجرأ وتشجع، ولم يخف أو يجبن، وسخر حياته كلها رغم المخاطر لأجل فلسطين، إيماناً منه بالواجب الملقى على عاتقه كقائدٍ لفيلق القدس، والتزاماً بتعاليم وتوجيهات السيد القائد علي الخامنئي، الذي جعل من خدمة قضية فلسطين عبادة، والعمل من أجلها تكليفاً ربانياً وفرضاً دينياً، وهو الذي أشرف على تأسيس فيلق القدس ورعايته، قبل أن يسلمه أمانةً إلى الحاج قاسم سليماني، قبل أكثر من عشرين عاماً على استشهاده.
سنتان مضتا على غياب قاسم سليماني وارتقائه شهيداً، وقد ظن قاتلوه أنهم سيأمنون إن غاب، وسيطمأنون على حياتهم إذا قتل، وستنتهي الأخطار التي كانت تحدق بهم، وأن جذوة المقاومة التي أشعلها ستنطفئ، ولن تتقد من جديد أو تشتعل، ولن يعود هناك في المنطقة أو المحيط من يهدد أمنهم، ويعرض مستقبل كيانهم للخطر، وستفقد قوى المقاومة الفلسطينية والعربية من بعده السند والعضد، والراعي والحليف، وستجف منابعهم، وستنضب مواردهم وستتفكك قواعدهم، ولن يجدوا من ينصرهم ويساندهم، أو يؤيدهم ويساعدهم، وسيسهل عليهم حينها أن يستفردوا بهم ويقاتلوهم، وأن ينتصروا عليهم ويستأصلوهم، ويفرضوا عليهم الحلول التي يريدون، والمشاريع التي يخططون لها.
إلا أن الحاج قاسم سليماني الذي كان يتمنى الشهادة ويتوقعها، ويدعو الله عز وجل أن ينالها، وأن يكرمه بها، وأن يجمعه برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وصحابته الأخيار والشهداء الأبرار، وأن يكون له متسعٌ من المكان إلى جانب الحسين عليه السلام، كان يتهيأ لهذا اليوم ويتحسب له، وقد استعد له وجهز لمن بعده، فما إن ارتقى شهيداً وحلق في السماء نجماً، حتى حمل الراية من بعد آخر، كان معه وإلى جانبه، ساعده ويمينه، عمل معه وخطط وإياه، إلى جانب عددٍ كبيرٍ من المساعدين والمختصين، الذين تعاهدوا وإياه على العمل لفلسطين ومع أهلها، وأقسموا على مواصلة الطريق والسير على ذات الدرب، فغص العدو بهم واختنق، وأصابه الغضب والحنق، إذ لم يطل فرحه ولم تدم سعادته، بل عض أصابعه ندماً وبشر نفسه حسرةً، وأيقن أنه دم سليماني سيلاحقه، وأن وعده الصادق سيطاله
وكان الحاج قاسم قد أعلن قبل استشهاده في رسالةٍ شهيرةٍ إلى محمد الضيف قائد كتائب الشهيد عز الدين القسام، أن "إيران لن تترك فلسطين وحيدة"، وهي بحق ما تركتها وحيدة، وما تخلت عنها يوماً، وما أشعرتها باليتم ساعةً، ولعلها اليوم في ظل موجة التطبيع، وحالة الهرولة العربية نحو الكيان الصهيوني، ومحاولات الضغط على الفلسطينيين وتشديد الحصار عليهم، أقرب إليهم من أي وقتٍ مضى، وأسرع إلى مساعدتهم وتلبية حاجاتهم، لأنها تعرف حجم المؤامرات التي تحاك ضد الفلسطينيين وقضيتهم، واستقواء العدو عليهم واستفراده بهم، ومدى حاجتهم إلى السند القوي والحليف الصادق.
آمن الركن الشديد واللواء المهيب والفيلق العنيد قاسم سليماني، أن زمان النصر قد أزف، وأن أوانه قد أظلنا، وأنه سيكون حليف هذه الأمة الصابرة، ومن نصيب المرابطين على الأرض والثابتين على الحق، الذين عملوا لهذا اليوم وأعدوا له عدته، وآمن أن أمتنا باتت قادرة على انتزاعه، وتستطيع فرضه، وتملك القدرة على تحقيقه، وأصبحت المقاومة عصية فتية، مسلحة قادرة، عزيزة كريمة، قوية برجالها وراشدة بقياداتها، وبصيرةً في مشروعها، وحكيمةً في قراراتها، وباتت هزيمة العدو ودحره قدراً محتوماً ومصيراً مكتوباً، وأنها ليست إلا مسألة وقت ونتيجة منازلة، فقد انتهى عصره وولى زمانه، فلم يعد هو المستعلي المتفوق، ولا القوي القادر، ولا المتفرد المستبد، ولا الآمن الواثق، وحينئذٍ سيفرح المؤمنون بنصر الله، الذي سيتنزل عزيزاً على هذه الأمة، أبلجاً كما الصبح، وساطعاً كما الشمس، وقاطعاً كحد السيف.
/انتهی/