وكالة مهر للأنباء، ان ما أحوج الأمة الإسلامية وهي تعيش معركة الحفاظ على هويتها، والالتزام بقيمها الأخلاقية، إلى استذكار سير الأئمة الطاهرين
ولد الإمام محمد الجواد بن علي الرضا سنة 195هـ وهو الإمام التاسع من أئمة أهل البيت الاثني عشر. ويكنى: أبا جعفر الثاني تمييزاً له عن جده (أبي جعفر) الإمام محمد الباقر واستشهد سنة 220هـ فهو أقصر الأئمة عمراً إذ لم يتجاوز خمساً وعشرين سنة. وبالرغم من أنه عاش فترة قصيرة إلا أنها كانت زاخرة بالعطاء والفضل. ولا يقاس قدر الإنسان، ولا تُعرف قيمته بسنه، ولا بمقدار عمره، بل بكفاءته وعطائه وانجازاته، يقول الشاعر:
هي الحياة انتقالات مفاجئة *** لا الطول مقياسها الأسمى ولا القصر
تخلد المرء وقفات وترفعه *** إلى ذرى المجد ساعات هي العمر
والإمام الجواد برغم قصر عمره، يأتي في طليعة العظماء، الذين خلدهم التاريخ بقيمهم، وبعطائهم للمجتمع الإنساني.
تحمل الإمام اعباء الإمامة ومسؤولياتها منذ صغره، بعد استشهاد أبيه الإمام علي الرضا سنة 203هـ. حيث كان عمره 8 سنوات، وقد نص عليه أبوه الإمام الرضا بالإمامة. وكما هو معتقد الشيعة في الإمامة أنها تكون بالنص والتعيين، ينص الإمام السابق على الإمام الذي يليه. وقد يكون أمر إمامة الجواد في هذا العمر مثيراً للتساؤل، إذ كيف يعقل أن يصبح غلام في الثامنة من عمره إماماً ومرجعاً للأمة في دينها ودنياها؟ وهناك الإمام علي الهادي والإمام محمد المهدي المنتظر من أئمة أهل البيت ممن تحملوا أعباء الإمامة في صغر سنهم، فكيف يمكن هذا الأمر؟
ويرتفع هذا التساؤل بمعرفة أن مؤهلات الإمامة ليست كسبية. وأن علم الأئمة ثابت لهم بالوصاية والاستيداع والإلهام من الله، لا بكسب وتعلم من الناس وشد الرحال إلى الحلقات العلمية، وإذا كان الله جل شأنه هو المعطي والملهم بالطريقة الغيبية الإعجازية، فلا مجال للشك والتساؤل. أما إذا كان السؤال حول انطباق هذا المفهوم على الإمام أي هل أن الله عينه واختاره إماماً أم لا؟ فهذا بحث مستقل وللشيعة أدلتهم وبراهينهم على النص والتعيين كشرط للإمامة وعلى تحديد أشخاص الأئمة، عن طريق النقل الثابت لديهم، ومما يؤيد ذلك الكفاءة الظاهرة للناس.
والقرآن الكريم يحدثنا عن النبي عيسى الذي أعطاه الله النبوة وهو رضيع في المهد، وفي عقيدتنا أن الإمامة امتداد للنبوة، وهي لا تكون إلا بالتعيين من قبل الله، وليست شأناً يتحكم به البشر. حتى تكون مؤهلاتها كسبية أو مأخوذة عن طريق التحصيل. وتبدو قصة النبي عيسى جلية للجميع. يقول تعالى: ﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا. قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ﴾ وهذا ما يؤمن به جميع المسلمين.
فقد عجب بنو إسرائيل من أمر ولادته ومجيئه من غير أب، ولما كانت ولادته بالإعجاز فقد كان الجواب عن سؤالهم بالإعجاز أيضاً، ﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ﴾ لأنها كانت صائمة عن الكلام بأمر الله تعالى ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا﴾ فازداد تعجبهم، فكيف يكلمون طفلاً رضيعاً لم يمض على ولادته إلا أيام قليلة؟ وكيف يستفسرون منه عن أمر ولادته الغريبة؟ وإذا به يبادرهم بالجواب ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ﴾ ويحدثنا القرآن عن يحيى بن زكريا (عليهما السلام)، يقول تعالى: ﴿ يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ﴾ والصبي يطلق على من هو دون البلوغ، ونحن لا نشك في قدرة الله وإرادته.
وكذلك لم يكن علم النبي الأعظم كسبياً تحصيلياً فقد كان أمياً، لا يقرأ ولا يكتب ولم يأخذ علماً من أحد قط. قال تعالى: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ ، ويقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ. فإذاً ثبت أن الإمامة تكون بالنص والتعيين، وأن مؤهلاتها ليست كسبية أو تحصيلية، وإذا ثبت النص على الإمام الجواد وهذا ما نعتقده، فليس هناك مجال للشك في إمامته لكونه صغيراً في السن.
لم تصلنا من أخبار علوم الإمام الجواد إلا شذرات قليلة، أودعت في بعض كتب التاريخ، ومرد ذلك هو الاضطهاد الذي مارسه العباسيون بحق أهل البيت، والتنكيل بهم، والتضييق عليهم، وعلى من يلوذ بهم. وقد أثار معاصروه من العلماء وحاشية السلطة شكوكاً في أهليته لمنصب الإمامة، فكيف يدعي الإمامة وهو لا يزال في الثامنة من العمر؟ وكيف يدعي بعض الناس ممن حولـه الإمامة له وفي الأمة كثير من العلماء والقضاة وأعيان البلاد؟ وبهذا أصبح عرضة للتحدي والسؤال. وبالفعل فقد تعرض للامتحان، وزاد في شدة الأمر سخط مراكز السلطة على أهل البيت لأنهم ينافسونهم على مقام القيادة. ولم يكن بروز الجواد مرضياً للعباسيين والقضاة الملتفين حولهم.
ويذكر التاريخ أن العباسيين عقدوا مجلساً بمحضر الخليفة المأمون لامتحان معرفة الإمام الجواد وعلمه، وجاءوا بقاضي القضاة يومئذ وهو (يحيى بن أكثم) ليمتحنه بمسألة عويصة، فطرح عليه السؤال التالي: ما تقول في محرم قتل صيداً؟ فقال الإمام : « قتله في حل أو حرم؟ عالماً كان المحرم أم جاهلاً؟ قتله عمداً أو خطأ؟ حراً كان المحرم أم عبداً؟ صغيراً كان أم كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أم معيداً؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ من صغار الصيد كان أم من كباره؟ مصراً على ما فعل أو نادماً؟ في الليل كان قتله للصيد أم نهاراً؟ محرماً بالعمرة إذ قتله أو بالحج؟ » فتحيّر يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز الانقطاع.
ثم طلب المأمون من الإمام أن يذكر تفصيل الجواب على التفريعات التي ذكرها للمسألة، فقال أبو جعفر: « نعم، إن المحرم إذا قتل صيداً في الحل وكان الصيد من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة، فإن كان أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً، وإذا قتل فرخاً في الحل فعليه حمل قد فطم من اللبن، وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ، وإن كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة، وإن كان نعامة فعليه بدنة، وإن كان ظبياً فعليه شاة، فإن قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة، وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه للحج نحره بمنى، وإن كان إحرامه للعمرة نحره بمكة.
وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء، وفي العمد له المأثم، وهو موضوع عنه في الخطأ، والكفارة على الحر في نفسه، وعلى السيد في عبده، والصغير لا كفارة عليه، وهي على الكبير واجبة، والنادم يسقط بندمه عقاب الآخرة، والمصر يجب عليه العقاب في الآخرة ». فقال له المأمون: أحسنت -أبا جعفر- أحسن الله إليك، فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك.
فقال له أبو جعفر: « أخبرني عن رجل نظر إلى امرأة في أول النهار فكان نظره إليها حراماً، فلما ارتفع النهار حلت له، فلما زالت الشمس حرمت عليه، فلما كان وقت العصر حلت له، فلما غربت الشمس حرمت عليه، فلما دخل عليه وقت العشاء الآخرة حلت له، فلما كان انتصاف الليل حرمت عليه، فلما طلع الفجر حلت له، ما حال هذه المرأة وبم حلت له وحرمت عليه؟ »
فقال له يحي بن أكثم: لا والله ما أهتدي إلى جواب هذا السؤال، ولا أعرف الوجه فيه، فإن رأيت أن تفيدناه.
فقال أبو جعفر: « هذه أمة لرجل من الناس نظر إليها أجنبي في أول النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلما ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلت له، فلما كان الظهر اعتقها فحرمت عليه، فلما كان وقت العصر تزوجها فحلت له، فلما كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه، فلما كان وقت العشاء الآخرة كفّر عن الظهار فحلت له، فلما كان نصف الليل طلقها واحدة فحرمت عليه، فلما كان عند الفجر راجعها فحلت له.» وقد ذكر المحدّث ابن حجر الهيتمي المكي المتوفى سنة 974 هذه الحادثة في كتابه (الصواعق المحرقة) ونقل بعض ما دار في ذلك المجلس .
كرمه وجوده:
لقب الإمام محمد بن علي الرضا بالجواد، لجوده وكرمه وكثرة عطائه، والجواد من الجود، وهو كثرة العطاء والكرم. قال بعض اللغويين إن الجود هو كثرة العطاء من غير سؤال
وقال الشاعر:
وما الجود من يعطي إذا ما سألته *** ولكن من يعطي بغير سؤال
ومن شواهد جوده التي نقلها التاريخ:
قال أحمد بن حديد خرجت مع جماعة حجاجاً، فقطع علينا الطريق، فلما دخلت المدينة لقيت أبا جعفر في بعض الطريق، فأتيته إلى المنزل، فأخبرته بالذي أصابنا. فأمر لي بكسوة وأعطاني دنانير، وقال فرقها على أصحابك على قدر ما ذهب.
فقسمتها بينهم فإذا هي على قدر ما ذهب منهم لا أقل ولا أكثر .
وعن علي ابن إبراهيم عن أبيه قال: كنت عند أبي جعفر الثاني إذ دخل إليه صالح بن محمد بن سلمان الهمداني، وكان يتولّى له، -أي متولياً على بعض أمواله- فقال له: جعلت فداك اجعلني من عشرة آلاف درهم في حلّ فإني أنفقتها، فقال: «أنت في حل».
ونقل الصفدي أنه كان في كل سنة يوزع في المدينة أكثر من ألف ألف درهم . وكان يتفقد الفقراء والمحتاجين من دون أن يسألوه ولذلك سمي بالجواد. ويروى عنه أنه قال: « أهل المعروف إلى اصطناعه أحوج من أهل الحاجة إليه لأن لهم أجره وفخره وذكره فمهما اصطنع الرجل من معروف فإنما يبتدئ فيه بنفسه » فالإنسان أحوج إلى إعطاء الفقير من أخذ الفقير منه. وهذه الرؤية قمة في المبادئ والقيم. وقد لا يدرك الإنسان غير المتأمل حقيقة الأجر وعظم شأنه في الآخرة، لأنه يعيش اللحظة الحاضرة ويستغرق في مطالب الدنيا وقد عبر الله عن ذلك فقال: ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ .
من أفضل ما نستفيده من الاحتفاء بذكرى الإمام الجواد الاقتباس من هديه وإرشاده، فكلماته التوجيهية، ونصائحه الرسالية، تمثل نوراً يضيء للإنسان طريق الحياة.
فمن توجيهاته الرائعة قوله:
1- « لا تكن ولياً لله تعالى في العلانية وعدواً له في السر».
إنه تحذير لمن يتظاهر أمام الناس بتقوى الله، والتزام أوامره، لكنه بعيداً عن أعين الناس يتجرأ على معاصي الله.
2- قال: « من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح »
وهو توجيه إلى المعرفة، وتذكير بمحورية العلم في حركة الإنسان.
3- قال: «من أطاع هواه أعطى عدوه مناه»
فالعدو الرئيسي للإنسان في هذه الحياة هو الشيطان الرجيم، الذي يصفه الله تعالى بقوله: ﴿ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ وإذا ما أطاع الإنسان شهواته فإنه يحقق هدف الشيطان ومناه تجاهه.
وحتى في الصراعات والعداوات التي تحصل بين أبناء البشر، على الإنسان أن يتصرف تجاه أعدائه بتفكير وتعقّل، أما إذا تصرّف بوحي من عاطفته وانفعاله فقد يخدم أهداف عدوه، من حيث لا يريد.
4- قال: « من استفاد أخاً في الله فقد استفاد بيتاً في الجنة»
فلا شيء أثمن من الصديق المبدئي، الذي ترتبط به في ظل القيم الدينية، إنه يساعدك على نيل رحمة الله ورضوانه.
5- قال: « ثلاث يبلغن العبد رضوان الله تعالى: كثرة الاستغفار، ولين الجانب، وكثرة الصدقة »
إن كثرة الاستغفار تعني مراجعة الإنسان الدائمة لأخطائه وثغراته ونقاط ضعفه، وعزمه على تداركها وتلافيها. أما لين الجانب فيعني حسن علاقته مع الناس، والصدقة تعني الاهتمام بمناطق الضعف في المجتمع والشعور بالمسؤولية تجاه المحتاجين.
6- قال: « ما هدم الدين مثل البدع »
فإضافة شيء إلى الدين، ونسبة ما ليس منه إليه يعتبر نسفاً لحقيقة الدين وهي كونه وحي من قبل الله تعالى، وليس من وضع البشر.
7- قال: « عنوان صحيفة المؤمن حسن خلقه»
فالمعتقدات والعبادات على أهميتها إلا أن ثمرتها المطلوبة هي الأخلاق الطيبة، فإذا لم تتوفر في شخصية الإنسان، فذلك يعني ضعف العقيدة، وسطحية العبادة.
8- قال: « من سلامة الإنسان قلة حفظه لعيوب غيره وعنايته بإصلاح عيوب نفسه » .
هذا هو النهج السليم للإنسان الواعي، أن يهتم بمعالجة نقاط ضعفه، وأن لا يتتبع عثرات الآخرين.
/انتهی/