وكالة مهر للأنباء، انه كان لابدّ أن تكون ولادة الإمام الثاني عشر المهديّ المنتظر « عجلّ الله فرَجَه » مقرونةً بالسرَيّة والكتمان؛ حتّى تتسنّى له الغَيبة بعد ذلك والاختفاء عن الأنظار إلى مكان آمنٍ يختاره الله له إلى حين يأذن له بالظهور، باعتباره الكوكبَ الأخير في سماء الإمامة، والإمامَ الذي لا إمام للمسلمين بعدَه. وهذا المعنى يستلزم حياةً خفيّة وعُمراً مديداً وولادة سرّيّة، حتّى يبقى موقع الإمامة مشغولاً على مدى الدهر بإمام من الأئمّة الاثني عشر عليهم السّلام: ظاهرٍ أو غائب.
وحينئذ، فمِن غير المناسب أن يُقال: لماذا لم تكن ولادة الإمام، ووجوده بعد أبيه أمراً مشهوداً، ملموساً لكلِّ مَن أراد؛ حتّى نصدّق به ؟ فإنه لو كان كذلك لما تيسّرت له الغَيبة والاختفاء عن الأنظار، ولَما كان هو الإمامَ الثاني عشر، ولكان الأئمّة أكثرَ من هذا العدد، وهذا ما يخالف الأدلّة النبويّة المذكورة، فالولادة السرّيّة من المستلزمات والمقتضيات الطبيعية لتلك الأدلّة.
وهذا ما يوضّح أنّ الإثبات الخارجيّ لقضية، مِن نوع قضية ولادة الإمام المهديّ ووجوده وحياته، لا يمكن الاكتفاء فيه بالبحث التاريخيّ، ما دمنا نؤمن منذ البداية أنّها مقرونة بدرجة شديدة من السرّيّة والكتمان، بل هو إثبات عقائديّ تاريخيّ تقوم فيه العقيدة بلعبِ دورٍ أساسيّ، فيما يلعب البحثُ التاريخيّ فيها دوراً تكميليّاً؛ لأنّنا نُذعن منذ البدء بوجود المنكِرين لها والمشكّكين فيها، ما دامت القضية سرّيةً مكتومة، والمطّلعون عليها عددٌ محدود من الناس، بنحو يسمح للآخرين بالتساؤل ما داموا محجوبين عن الحقيقة السريّة المكتومة، بحيث لو سألهم سائل عن ولادة الإمام المهديّ ووجوده وحياته، لأنكروا ذلك، ولنقلوا عن سائر الناس أنّهم أيضاً لم يروه ولم يسمعوا بخبر ولادته ووجوده، فنحن لا نتحدّث عن قضيّة ماديّة محسوسة للناس بكلّ أبعادها وجهاتها، أو تخضع لتسجيلٍ تاريخيٍّ كامل حتّى نعتمد في إثباتها وإنكارها على المؤرّخين والرواة، وإنّما نتحدّث من حيث الأساس عن قضيّة غيبيّة، إلاّ أنّها ليست غيبيّةً بنحوٍ مطلق، وإنّما لها شعاع محسوس يطّلع عليه أفراد منتخَبون، يطّلعون على ولادته فيشهدون عليها، وعلى غيبته الصغرى فيشهدون عليها، وعلى غيبته الكبرى فيشهدون عليها؛ ولهذا نقول: إنّ مفهوم أهل البيت عليهم السّلام عن الإمام المهديّ عليه السّلام مفهوم عقائديّ، بمعنى أنّ إنكار المنكِرين في مثل قضية الإمام المهديّ عليه السّلام لا يكون حجّةً تاريخيّة منطقيّة لإثبات عدم وجوده، ما دمنا قد أذعنّا منذ البداية أنّ القضيّة سريّةُ مكتومة، ومن الضروريّ الاكتفاء من ناحية البحث التأريخيّ بإثبات وجود مَن رآه واطّلع عليه وسمع بوجوده وأذعن له.
الشواهد التاريخيّة الدالّة على وجود الإمام المهديّ عليه السّلام:
وهذه ناحية واسعة تظافرت عليها أرقام تاريخيّة كثيرة جدّاً، نصنّفها في عدّة نقاط:
1 ـ شهادة الإمام الحسن العسكري عليه السّلام بولادة ابنه الإمام المهديّ عليه السّلام:
وفي ذلك أحاديث كثيرة نقلها أثْبات الشيعة ورواتُهم، ننقل منها:
• الحديثَ المرويّ عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن إسحاق، عن أبي هاشم الجعفريّ، قال: « قلت لأبي محمّد عليه السّلام: جلالتك تمنعني من مسألتك، فتأذن لي أن أسألك ؟ فقال: سَلْ. قلت: يا سيدي، هل لك وَلَد ؟ فقال: نعم ».
وفي هذا الحديث الكفاية، سنداً ودلالة، فهذه كتب الرجال تشهد بجلالة محمّد بن يحيى أبي جعفر العطّار القمّيّ الذي لا زال قبره إلى الآن معروفاً ومشهوراً يُزار، وتشهد لعلوّ مكانة أحمد بن إسحاق بن عبدالله بن سعد بن مالك بن الأحوص الأشعريّ أبي عليّ القمّيّ، عند الإمام الحسن العسكريّ عليه السّلام، وتشهد أيضاً لمنزلة داود بن القاسم بن إسحاق بن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب أبي هاشم الجعفريّ.. ثمّ انظرْ إلى قلّة الوسائط في إسناد هذا الحديث، الذي يُعبَّر عن أمثاله بقُرب الإسناد الذي يُعتبر من الشواهد المؤيِّدة للحديث.
2 ـ شهادة القابلة:
وهي أُخت إمام، وعمّة إمام، وبنت إمام، العلويّة الطاهرة « حكيمة » بنت الإمام محمّد الجواد، وأُخت الإمام الهادي، وعمّة الإمام العسكريّ، حيث صرّحت بمشاهدة ولادة الإمام الحجّة المهديّ عليه السّلام ليلةَ مولده، وهي التي تولّت أمر نرجس والدة الإمام الحجّة المهديّ عليه السّلام، وبإذنٍ من أبيه الحسن العسكريّ عليهما السّلام.
3 ـ عشرات الشهادات برؤية الإمام المهديّ عليه السّلام:
وهنا قائمة طويلة من الأسماء، ممّن رأى الإمامَ المهديّ عليه السّلام واتّصل به وشَهِد برؤيته إيّاه، سجّلَتْها المصادر التاريخيّة، وجمعها بعض المصنّفين في مصنّفات خاصّة، مثل: ( كتاب تبصرة الوليّ فيمن رأى القائم المهديّ ) للسيّد هاشم البحرانيّ، ذكر فيه شخصاً شهد برؤية الإمام عليه السّلام في صغره أو في غيبته الصغرى، وذكر أسماء المصادر التي اعتمد عليها في ذلك. وأحصى الشيخ أبو طالب التجليل التبريزيّ زهاءَ أشخاص ممّن رأى الإمام المهديّ عليه السّلام، وشهد به. وأحصى الشيخ الصدوق ( ت 381 هـ ) وكان من غَيبة الإمام المهديّ عليه السّلام قريب جدّاً شخصاً شهد برؤية الإمام عليه السّلام، وكان كثيرٌ منهم وكلاءَ له عليه السّلام، وهم من مدن شتى.
فمِن وكلائه: من أهل أذربيجان: القاسم بن العلاء. ومن الأهواز: محمّد بن إبراهيم ابن مَهْزِيار. ومن بغداد: حاجز البلاليّ، وعثمان بن سعيد العَمْريّ، ومحمّد بن عثمان بن سعيد العَمْريّ، والعطّار. ومن الكوفة: العاصميّ. ومن قمّ: أحمد بن إسحاق. ومن نيسابور: محمّد بن شاذان. ومن همدان: البسّاميّ، ومحمّد بن أبي عبدالله الكوفيّ الأسديّ، ومحمّد بن صالح.
أمّا مَن رآه عليه السّلام من غير الوكلاء، منهم: من أهل اصفهان: ابن شاذان. ومن الأهواز: الحُصَينيّ. ومن بغداد: أحمد بن الحسن، وإسحاق الكاتب من بني نَوْبخت، وأبو عبدالله الخيبريّ، وأبو عبدالله بن فرّوخ، وأبو عبدالله الكِنديّ، وأبو القاسم بن أبي حليس، وأبو القاسم بن دبيس، ومسرور الطبّاخ مولى أبي الحسن عليه السّلام، والنيليّ، وهارون الفَزاريّ. ومن الدينَوَر: أحمد بن أخي الحسن بن هارون، وعمّه الحسن بن هارون. ومن الريّ: أبو جعفر الرفّاء، وعليّ بن محمّد، والقاسم بن موسى، وابن القاسم بن موسى، وأبو محمّد بن هارون، ومحمّد بن محمّد الكلينيّ. ومن قزوين: عليّ بن أحمد، ومرداس. ومن قمّ: الحسن بن النَّضْر، والحسين بن يعقوب، وعليّ بن محمد بن إسحاق، ومحمّد بن إسحاق، ومحمّد بن محمّد. ومن مصر: أبو رجاء. ومن نصيبين: أبو محمّد بن الوجناء النصيبيّ. ومن همدان: جعفر بن حمدان، ومحمّد بن كشمرد، ومحمّد بن هارون. ومن اليمن: ابن الأعجميّ، والجعفريّ، والحسن بن الفضل بن يزيد، وأبوه الفضل بن يزيد، والشمشاطيّ. كما ذكر أيضاً مَن رآه من أهل شهرزور، والضيمرة، وفارس، وقابس ومَرْو.
فهل يُعقل اتّفاق هؤلاءِ جميعاً وتواطؤهم على الكذب وفيهم أثْبات ثِقات صرّحت كتب الرجال بتوثيقهم ؟!
4 ـ تعامل السلطة العباسيّة مع الحدث:
لقد تعاملت السلطة العبّاسيّة بعد شهادة الإمام الحسن العسكريّ عليه السّلام مع عائلته تعاملاً يدلّ على خيفتها من مولودٍ خطير خَفِيَ عنها، فراحت تبحث عنه بكل ما أُوتيت من وسيلة وقدرة، حيث أمر المعتمد العباسيّ المتوفّى سنة ( 279 هـ ) شرطته بتفتيش دار الإمام الحسن العسكريّ عليه السّلام تفتيشاً دقيقاً والبحث عن الإمام المهديّ عليه السّلام، وأمر بحبس جواري أبي محمّد العسكريّ عليه السّلام، واعتقال حلائله يساعدهم على ذلك جعفر الكذّاب، وأجرى على مخلّفي أبي محمّد عليه السّلام بسبب ذلك كلَّ عظيمة، من: اعتقال، وحبس وتهديد، وتصغير، واستخفاف وذلٍّ.
كلّ هذا والإمام المهدي عليه السّلام في الخامسة من عمره الشريف. ولا يهمّ المعتمدَ العمرُ بعد أن عرف أنّ هذا الصبيّ هو الإمام الذي سيهدّ عرش الطاغوت؛ لِما شاع وانتشر من الخبر بأنّ ثاني عشر أهل البيت عليهم السّلام سيملأ الدنيا قسطاً وعدلاً بعدما تُملأ ظلماً وجوراً، فكان موقفه من المهديّ عليه السّلام كموقف فرعون من موسى عليه السّلام، فألقَتْه أُمّه ـ خوفاً عليه ـ في اليمّ صبيّاً.
ولم يكن المعتمد العباسيّ وحده قد عرف هذه الحقيقة، وإنّما عرفها مَن كان قبله كالمعتزّ والمهتدي، ولهذا كان الإمام الحسن العسكريّ عليه السّلام حريصاً على أن لا ينتشر خبر ولادة الإمام المهديّ عليه السّلام إلاّ بين أفراد منتخَبين مِن شيعته ومواليه.
لقد كان تصرّف السلطة كاشفاً عن أنّها وسائر الناس قد أدركوا تماماً أنّ حديث جابر بن سَمُرة بالمهدويّة لا ينطبق عليهم ولا على مَن سبقهم من أُمويّين، وإنما مصداقه الوحيد هم أهل بيت النبوّة، ومهبط الوحي والتنزيل، وإلاّ فأيّ خطر يهدّد كيانهم في صبيٍّ لم يتجاوز عمره خمس سنين، لو لم يعتقدوا أنّه هو المهديّ المنتظَر الذي تحدّثت عنه الأحاديث المتواترة ؟!
يقول أحد الباحثين: ولو لم يكن مولوداً حقّاً، فما معنى حبس الجواري وبثّ القابلات لتفتيش مَن بهنّ حَمْل، ومراقبتهنّ مدّة لا تُصدَّق؛ إذ بقيت إحداهنّ تحت المراقبة لمدة سنتين! كلّ هذا مع مطاردة أصحاب الإمام العسكريّ عليه السّلام والتشنيع عليهم، مع بثّ العيون للتجسّس عن خبر المهديّ عليه السّلام، وكبس داره بين حين وآخر.
ثمّ ما بال السلطة لم تقتنع بما زعمه جعفر من أنّ أخاه عليه السّلام مات ولم يخلّف ؟! أمَا كان بوسعها أن تُعطيَه حقَّه من الميراث وينتهي كلُّ شيء من غير هذا التصرُّف الأحمق الذي يدلّ على ذعرها وخوفها من ابن الحسن عجل الله تعالى فرَجَه الشريف ؟!
نعم، قد يُقال بأنّ حرص السلطة على إعطاء كلّ ذي حقٍّ حقَّه هو الذي دفعها إلى التحرّي عن وجود الولد، لكي لا يستقل جعفر بالميراث وحده بمجرّد شهادته!
5 ـ اعترافات علماء السنّة بولادة الإمام المهديّ عليه السّلام:
قال السيّد ثامر العميديّ في هذا الصدد:
« بلغت اعترافات الفقهاء، والمحدّثين، والمفسّرين، والمؤرّخين، والمحقّقين، والأُدباء والكتّاب من أهل السنّة أكثر من مائة اعتراف صريح بولادة الإمام المهديّ عليه السّلام، وقد صرّح ما يزيد على نصفهم بأنّ الإمام محمّد بن الحسن المهديّ عجّل الله تعالى فرَجَه الشريف، هو الإمام الموعود بظهوره في آخر الزمان.
وقد رُتّبتْ هذه الاعترافات بحسب وَفَيات أصحابها، فوجدناها متّصلةَ الأزمان، بحيث لا تَتعذّر معاصرة صاحب التصريح اللاّحق، لصاحب التصريح السابق، وذلك ابتداءً من عصر الغيبة الصغرى إلى وقتنا الحاضر، وسوف نذكر أقوال بعضهم حيث وقفنا عليها في مصادرهم ريثما يأتي دَورُهم، مع الاكتفاء بذكر أسماء الآخرين فقط دون التعرّض لأقوالهم؛ لتعذّر تسجيلها؛ حيث بلغت أقوال تسعة وعشرين واحداً منهم في كتاب إلزام الناصب ما يزيد على مائة صحيفة، فكيف الحال مع تسجيل أقوالهم كلّهم ؟ على أنّ ما سنذكره في المتن دون الإشار إلى مصدره في الهامش، هو دليل أخْذِنا ذلك من كتب الشيعة الإماميّة التي سبقت إلى هذا المجال مع اعتنائها بتسجيل رقم الجزء، ورقم الصحيفة مع مكان وسنة الطبع؛ ولعلّ من أوسعها في هذا الباب كتاب « المهديّ المنتظر في نهج البلاغة » للشيخ مهديّ فقيه إيمانيّ، حيث ذكر فيه مائةً ورجلين من رجالات أهل السنّة الذين اعترفوا بذلك، مكتفياً بذكر أسمائهم ومصادرهم بأجزائها وصحائفها دون التعرّض لأقوالهم، وربّما اضطُرّ إلى تعيين واسطته إليهم بدقّة، وقد فاته ما يقرب من ثلاثين اسماً، وكان جلّ اعتمادنا عليه، ولم نستدرك عليه شيئاً؛ لأنّ ما فاته سبقني إليه غيري، حتّى عاد دَوري في هذا الدليل مقتصراً على الجمع والترتيب بحسب القرون ».
ثمّ ذكر أسماء ( 128 ) مصنَّفاً من مصنَّفات أهل السنّة ذكرت الإمامَ المهديّ عليه السّلام في كتابٍ من كتبه بعنوان: الإمام الثاني عشر من ائمّة أهل البيت عليهم السّلام.. منهم مَن عاصر الميلاد والغيبةَ الصغرى، ولشهاداتِ هؤلاء قيمتُها التاريخيّة المعروفة، ومِن بينهم:
1 ـ أبو بكر الرُّويانيّ، محمّد بن هارون ( المتوفى سنة 307 هـ ) في كتابه ( المُسند ).
2 ـ أحمد بن إبراهيم بن عليّ الكنديّ، من تلامذة ابن جرير الطبريّ المتوفّى سنة ( 310 هـ ).
3 ـ محمّد بن أحمد بن أبي الثلج، أبو بكر البغداديّ ( المتوفّى سنة 322 هـ ) في ( مواليد الأئمّة )، وهو مطبوع ضمن كتاب ( الفصول العشرة في الغَيبة ) للشيخ المفيد، ومع كتاب ( نوادر الراونديّ ) ـ طبعة النجف الأشرف سنة ( 1370 هـ ). وممّن هو قريب العهد به من الأعلام الكبار: الخوارزميّ ( المتوفّى سنة 387 هـ ) في ( مفاتيح العلوم 32 ، 33 ) ـ طبعة ليدن، 1895م.
/انتهى/