حاضنة المقاومة كانت واعية للعبة الدولية التي فجرت الأزمة في لبنان، والتي أرادت إحداث إنقلاب شارعي يستهدف إعادة التحكم بالطبقة السياسية وأجهزة الدولة، التي لم تعد مطواعة بما يكفي لتلبية المصالح الأميركية المستجدة.

وكالة مهر للأنباء - يحيى حرب: الإنتخابات النيابية اللبنانية التي تجري في الخامس عشر من مايو ايار 2022 ربما اعتبرت من اهم الانتخابات التي شهدها لبنان، منذ إتفاق الطائف؛ ذلك أنها تأتي بعد مرحلة عصيبة مر بها اللبنانيون ولا يزالون في الثلاثين شهراً الماضية، أنهار فيها النظام المالي والإقتصادي بشكل تام، وإنكشف فساد النظام السياسي وعجزه عن مواجهة الأزمة، وتعرت فيه الطبقة الحاكمة أمام مشغليها الخارجيين.

ولا بد لنا من الإشارة أولاً إلى أن اللبنانيين منقسمون بحدة هذه الأيام بين تيارين عريضين متباعدين، يحاولان إستمالة الشارع والتأثير على خياراته الإنتخابية، وإصطفافاته السياسية:

- التيار الأول؛ يرى أن الأزمة تنحصر بالفساد المالي والإداري، ويحاول أن يوجه الأنظار إلى فئات محددة من الطبقة السياسية الحاكمة، وتذهب أجنحة من هذا التيار إلى المطالبة بإستبدال الطبقة السياسية بالكامل، بذريعة العجز والفساد.

- التيار الثاني؛ يشخص الأزمة بإعتبارها جزءاً من الصراع السياسي على الأراضي اللبنانية، والتي لم تتوقف منذ عقدين من الزمن، وهي أخذت شكل إنهيار النظام المالي والإقتصادي في لبنان، بإعتباره الخاصرة الضعيفة، والورقة التي يمسك بها تاريخياً، أرباب اللعبة الخارجية الذين رعوا هذا النظام ووجهوا سياساته المالية والإقتصادية، وإرتهنوا لسياساتهم مفاتيح النظام الإقتصادي والمالي من جهة، ورعاته من عناوين الطبقة السياسية المعروفة من جهة أخرى.

وبكل بساطة فإن الإنهيار الذي أوجع اللبنانيين ودفع السواد الأعظم منهم إلى قاع الفقر والعوز والحرمان، والفساد الذي جرى تعميمه إعلامياً وتضخيم الحديث عنه بشكل أسطوري، لم يحدثا بسبب أزمة داخلية، بل هما بفعل فاعل، وعمل مُتعمّد ضمن إستراتيجية سياسية واضحة تستهدف إحداث إنقلاب في توازنات القوى الداخلية، ونقل لبنان وشعبه من ضفة سياسية إلى ضفة أخرى، سواء في هويته أو موقعه من صراعات المنطقة.

وقبل الإستفاضة بشرح الرؤية الوطنية لهذه الأزمة التي تعصف بلبنان، لا بد من العودة إلى منطلقات التيار الأول الذي أشرنا إليه، لإظهار هشاشته وتهافت الرواية التي يحاول تعميمها، قبل البحث عن دوافعه وعلاقته باللعبة الخارجية.

فمنذ إنطلاق مظاهرات 17 أكتوبر تشرين الأول 2019، تجندت لترويج شعاراتها وتضخيم أصوات المتحدثين بإسمها، زمرة من القنوات التلفزيونية، والإذاعات، والصحف، والمواقع الإلكترونية، وجيش من الناشطين والمغردين والذباب الإلكتروني المحترف في فنون الدعاية وتوجيه الرأي العام.

ضخ إعلامي رهيب على مدى الأربع والعشرين ساعة، شارك فيه من يعلمون ومن لا يعلمون، والكل اُعطي صفة ثائر، وخبير، وناشط، ومدير مركز إعلامي ومركز أبحاث.. وما إلى ذلك من صفات التفخيم والتضليل.

كما ظهرت إلى العلن آلاف الجمعيات والهيئات، التي راحت تصف نفسها وتروج لها وسائل الإعلام بإعتبارها منظمات مجتمع مدني!!؛ بعضها لا يتجاوز أعضاؤها الشخص الواحد، وأغلبها تضم أفراداً بعدد أصابع اليدين. إلا أن الأغرب من كل ذلك أمران:

- الأمر الأول؛ أن كل هذه المنظمات كانت تتحدث عن الفساد وتدعو إلى إسقاط النظام، بصرف النظر عن هويتها أو العنوان الذي نالت الترخيص من أجله!!، فهي سواء كانت لحماية الطيور أو الإهتمام بالزهور، والبيئة البحرية والبرية أو تلوث الهواء، أو حريات المرأة والطفل والشواذ جنسياً، فقد نشطت في المجال السياسي حصراً، والمطالبة بتغيير الطبقة السياسية.

- الأمر الثاني؛ أن لا أحد يطالب أو يسأل هذه المنظمات عن تمويلها ومراكزها وهيئاتها وأنشطتها، وما إذا كانت تخضع للقانون اللبناني الذي ينظم في المبدأ نشاط الجمعيات والمنظمات الثقافية والإجتماعية.

والملاحظة المثيرة للإنتباه، والداعية للشك والحذر، أن هذا الحراك الذي يتكلف ملايين الدولارات بل مئات ملايين الدولارات شهرياً، ويتمتع المشاركون فيه بفائض من القدرة المالية والبحبوحة في وسائل النقل والتواصل واللباس الأنيق وقصات الشعر والميكياج على آخر صرعات الموضة؛ هذا الحراك إمتنع عمداً عن توحيد قواه، بأي شكل من أشكال التجمع، ورفض تسمية قيادة موحدة له حتى لو كانت تضم ألف رأس!!.

وإمتنع قبل وبعد كل شيء عن وضع برنامج عمل له، أو جدول بالأولويات، والأهداف، والمطالب.. وظل الأمر في منتهى الفوضى والسطحية والعبث طيلة السنتين الماضيتين، بحيث أنك في كل يوم تسمع ألف مطلب، وألف مأخذ، وألف شكوى، من الخلافات الزوجية وأقساط المدارس إلى سرقة أموال الدولة وتهريبها إلى الخارج وإفلاس البنوك.

والخلاصة من كل ذلك أن هناك من كان يريد أن يسخف المطالب السياسية، ويمنع بلورتها بشكل مدروس، يمكن بحثه والمحاسبة عليه، ويترك الرأي العام في حالة من البلبلة والهذيان والرفض، وتسيطر على الجمهور حالة الإحباط واليأس وعدم اليقين من كل شيء ومن كل الأطراف. فلكي يمكن التلاعب بالرأي العام يجب أولاً تحطيم عناوين الثقة التي يلجأ إليها، والتي تشكل حائط صد للحرب النفسية، ومرجعية لليقين والوعي ورسم خريطة الطريق.

إن إعتقادنا الشخصي أن اللعبة الدولية التي فجرت الأزمة في لبنان، أرادت إحداث إنقلاب شارعي يستهدف إعادة التحكم بالطبقة السياسية وأجهزة الدولة، التي لم تعد مطواعة بما يكفي لتلبية المصالح الأميركية المستجدة.

والجهة الدولية التي لجأت إلى هذا الأسلوب بعد أن باتت عاجزة عن ضرب المقاومة بالسلاح وبالحروب العسكرية والحروب البديلة عبر المجاميع الإرهابية، وهي جربت هذه الوسائل جميعاً وتباعاً في السنوات العشرين الماضية، وباءت محاولاتها بالفشل، فعادت إلى إستراتيجية الثورات الملونة، التي تحرض فيها الشارع بهواجسه المطلبية والحياتية.

لكن الجهة الوطنية وحاضنة المقاومة كانت واعية لهذا المخطط أيضا، وأحبطت أهدافه في مهدها، فبادرت المقاومة وجمهورها في الوطن والإنتشار، إلى تنظيم أكبر حملة تضامن مع ضحايا الأزمة الإقتصادية والمالية في الوطن، للمساعدة على الصمود ومواجهة الكارثة التي تسببت بها اللعبة الدولية عبر أدواتها المصرفية والمالية. وأمام هذا الفشل أيضا تم اللجوء إلى الإنتخابات كبديل عن الثورة.

الجهة الدولية وأدواتها المحلية، التي تقف وراء هذه الأزمة المفتعلة في لبنان، تريد الإستثمار في معاناة اللبنانيين، وإستغلال النقمة العامة على النظام ومؤسساته جميعاً

وبإعتقادي أن الجهة الدولية وأدواتها المحلية، التي تقف وراء هذه الأزمة المفتعلة في لبنان، تريد الإستثمار في معاناة اللبنانيين، وإستغلال النقمة العامة على النظام ومؤسساته جميعاً، لكي توهم الناس بأن الحل هو في التغيير كيفما كان، وتجرهم إلى الفخ المنصوب لهم، عبر أدوات وعملاء يمثلون دور المنقذ والبديل للنظام الفاسد.

وفي أسوأ الحالات فإن المخططين للمؤامرة على لبنان، يؤمنون من خلال الإنتخابات سلم النزول عن الشجرة التي صعدوا إليها، دون أن تكون لديهم القدرة على إكمال الطريق. فبدل إعلان فشل ثورة السفارة كما سماها البعض، يلقى اللوم على الناس بأنهم هم من إختاروا ممثليهم أسقطوا رموز المنظمات التي أوجدتها اليد الدولية لتكون أداتها في السلطة الجديدة.

ولهذا فإن هذه الإنتخابات تستهدف بالنسبة للخط الوطني وفريق المقاومة فرصة لتأكيد وعي الأمة والشعب بأن إصلاح الفساد لا يكون بفساد أعظم. وأن التغيير مطلوب ولكن ليس كيفما كان ولا بالفوضى وألاعيب الصبيان. التغيير مسؤولية تاريخية، والجهة التي ستقودنا إلى التغيير هي الجهة الموثوقة المجربة، وهي كانت ولا تزال محط ثقة الناس في السراء والضراء.

كما أن الإنتخابات وتجديد ثقتنا بممثلينا الحقيقيين تعني أن النيل من المقاومة، هو إستهداف لشرف كل منا على المستوى الفردي ومن شرفنا الوطني المشترك. وأن الأمهات والآباء الذي قدموا فلذات أكبادهم من أجل قضية مقدسة، لتحرير الأرض وحمايتها وإستعادة الكرامة الوطنية، لن يقايضوا دماء أبنائهم بأي ثمن مقابل، بل إنهم واثقون أن المقاومة التي دحرت أقوى وأشرس عدوانين في التاريخ، الإرهاب الصهيوني والإرهاب التكفيري، قادرة على مواجهة التحدي الجديد، بل هي الوحيدة القادرة على التصدي للعدوان الأميركي والحرب الإقتصادية الجديدة.

الإنتخابات تستهدف بالنسبة للخط الوطني وفريق المقاومة فرصة لتأكيد وعي الأمة والشعب بأن إصلاح الفساد لا يكون بفساد أعظم

إن التيار الوطني المقاوم يرى بوضوح أن الأزمة الراهنة ليست أزمة نظام وحسب، بل هي مؤامرة خارجية إستغلت أزمات النظام التي هي تسببت بها وأشرفت على مشاريعها منذ عقود، وهي تريد أن تجعل من هذه الأزمة مضبطة إتهام لأركان الدولة دون إستثناء.

والمؤامرة الخارجية لا تستهدف الإصلاح على الإطلاق، ولا هي حريصة على كرامة ومستقبل هذا البلد، بل تريد أن تؤلب اللبنانيين على مقاومتهم، وإقناعهم بأن ما يعانونه هو بسبب وجود المقاومة. فأميركا غاضبة لأن المقاومة تعرقل مشاريعها وتهدد الكيان الصهيوني!!، والسعودية غاضبة لأن المقاومة تتعاطف مع الشعب اليمني أو لأنها منعت مخطط إسقاط الدولة السورية!!.

وهذا يعني أن عليكم أيها اللبنانيون لنيل رضا الأميركيين والمجتمع الدولي، والعودة إلى حضن النظام السعودي أن تنزعوا سلاح المقاومة وتحاصروها، هذا هو منطق الطرف المناهض للمقاومة، سواء كان بوجهه القديم القواتي الرجعي، أو بوجهه الجديد منظمات المجتمع المدني الممولة من السفارات المعروفة.

ومن هنا فإن المشاركة في الإنتخابات بكثافة، وضمان فوز لوائح المقاومة وحلفائها، يوجه رسالة مزدوجة للسفارة الأميركية وأدواتها الإقليمية والمحلية: ان المقاومة متجذرة في نفوس اللبنانيين الشرفاء، وإنها كما حمتهم من العدوان الصهيوني والارهابي، وكما حررت أرضهم وحققت لهم الـأمن والأمان في وطنهم، فإنهم لن يكونوا أقل وفاءً وصدقاً، ولن يقصروا في الدفاع عنها..

وبالتالي فإن الخدعة الأميركية الصهيونية السعودية الجديدة باتت مكشوفة ومفضوحة. إن توجيه هذه الرسائل للإدارة الأميركية سيكون عاملاً رادعاً لها يحول دون الإستمرار في لعبتها الجهنمية لتدمير لبنان، وقتل شعبه وتجويعه، للنيل من المقاومة.

بل أن الإقتراع للمقاومة يعني أنها بعد الإنتخابات لن تكون كما كانت قبلها، بل أن هزيمة المشروع الأميركي لإذلال اللبنانيين، ستواجه بخطة شاملة وحقيقية لإعادة بناء الإقتصاد اللبناني المنتج والبعيد عن الإرتهان للمؤسسات المالية الأميركية.

فالمقاومة التي تصدت لكل أشكال العدوان تدرك اليوم أن هذا الباب هو آخر أبواب التآمر لضرب المقاومة ولا بد من إقفاله، وقطع اليد الأميركية والرجعية التي تعبث بحياة الناس لإذلالهم أولا وجرهم إلى الخيانة الوطنية ثانيا./نتهى/