وكالة مهر للأنباء - د.حسن أحمد حسن: يتبين لأي متابع لما كُتِبَ ويكتب من دراسات تحليلية لزيارة بايدن إلى المنطقة أنه أمام كم كبير من المقالات والآراء والتحليلات التي تكاد بغالبيتها تندرج في اتجاهين متناقضين، حيث التهوين أو التهويل، فهناك من حكم بالفشل المسبق على الزيارة قبل أن تبدأ، ورأى بأن نتائجها تقترب من الحدود الصفرية.
وهناك على الضفة الأخرى من رأى الويل والثبور وعظائم الأمور التي تنتظر المنطقة بخاصة، والعالم بعامة بناء على الأهمية الإستراتيجية للمنطقة، ودورها الفاعل في موازين القوى وقواعد الاشتباك المعتمدة إقليمياً ودولياً، وقد يكون من المفيد هنا التذكير ببعض الحقائق والمحددات التي لا يمكن للعقل العلمي إسقاطها من حساباته عند التفكير بأي تحليل استراتيجي لتطور الأحداث، والسيناريوهات المحتملة لتداعياتها في منطقة الشرق الأوسط بتفرعاتها وتشابكاتها المعقدة والمتناقضة، ومنها:
الحديث عن أنصاف تسويات لم يعد قابلاً للتبلور، والتعويل على معادلة "رابح ـ ربح" وهمٌ لا يصلح للبناء عليه، فالقادم سيندرج تحت عنوان "ربح وخسارة"، وأية تسوية محتملة ستنطلق من تقليل الخسائر الذاتية، وزيادة الأرباح ما أمكن، وهذا يعني الاستمرار لمدة طويلة في الاستعصاء القائم
• تعيش المنطقة حالة من الاشتباك المستعصي وغير المسبوق جراء الاشتباك المماثل بين القوى الفاعلة على المستوى الدولي، فهناك محور المقاومة ومن خلفه روسيا الاتحادية في مواجهة محور المشروع التفتيتي الذي تقوده الإدارة الأمريكية ومن يدور في فلكها.
• لا يستطيع أي من المحورين المشتبكين تحمل مسؤولية خروج الأمور عن السيطرة والذهاب باتجاه حافة الهوية، ولا مصلحة لأي من الطرفين بحدوث ذلك.
• التآكل المتنامي في هيبة واشنطن ونفوذها الذي لم يعد قدراً لا يعني تراجع قدرتها على إلحاق الأذى والدمار، وخلط الأوراق في جميع ساحات الاشتباك المشتعلة أو القابلة للاشتعال جراء أي خطأ في الحسابات الإستراتيجية.
• نتائج ما يحدث في المنطقة سيترك تداعياته الحتمية بالضرورة على ساحة الاشتباك الدولي على الجغرافيا الأوكرانية، والعكس قد يكون صحيحاً، وقد لا يكون.
• الحديث عن أنصاف تسويات لم يعد قابلاً للتبلور، والتعويل على معادلة "رابح ـ ربح" وهمٌ لا يصلح للبناء عليه، فالقادم سيندرج تحت عنوان "ربح وخسارة"، وأية تسوية محتملة ستنطلق من تقليل الخسائر الذاتية، وزيادة الأرباح ما أمكن، وهذا يعني الاستمرار لمدة طويلة في الاستعصاء القائم.
• تواصل جبهات محور المقاومة، واستبعاد إمكانية الاستفراد بأي طرف في أية مواجهة مستقبلية محتملة.
• خصوصية الوضع الداخلي للكيان الإسرائيلي، وافتقاده القدرة على تحمل أية ارتجاجات طارئة، بغض النظر عما يمتلكه من طاقة تدميرية هائلة، لكنها تبقى عاجزة عن تأمين الحماية الذاتية المطلوبة.
* الزيارة بين الأهداف المعلنة والنتائج القابلة للتحقق:
لا شك أن الرئيس الأمريكي لم يأتِ إلى المنطقة ويقضي عدة أيام للتنزه، ولا للاطلاع على معالم سياحية أو طبيعية، بل لتحقيق أهداف محددة تحدثت عنها وسائل الإعلام الأمريكية وتناقلتها معظم وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي في العالم كله، وبكل تأكيد هناك ما لم يتم الإفصاح عنه من الأهداف المستترة والتي بسببها كانت الزيارة، والجميع يعلم أن بإمكان شاغل البيت الأبيض استدعاء كل من سيلتقيهم إلى مكتبه فرادى وجماعات.
وكل ما يقال عن شق عصا الطاعة الأمريكية من قبل بعض الأتباع وأصحاب الأدوار الوظيفية لا يخرج عن كونه شكلاً من أشكال إسناد المهام وتوزيع الأدوار بما يضمن تكاملها لتحقيق ما يفرزه مطبخ السياسة الأمريكية من قرارات يجب تنفيذها بغض النظر عن الشكل الذي يتم اعتماده وتظهيره.
يمكن باختصار تكثيف الأفكار التي أفصح عنها بايدن في مقاله الذي نشرته صحيفة "واشنطن بوست" بتاريخ 9/7/2022م. بخصوص أسباب زيارته إلى المنطقة والأهداف المطلوب تحقيقها بالنقاط الأساسية التالية:
1- تأمين دول أوربا ببديل للغاز الروسي، وضمان تدفق النفط بكميات كافية وتخفيض سعره لتفادي ما أمكن من ضغط الوضع الاقتصادي المتشكل بعد الأحداث في أوكرانيا.
2- استعادة الهيبة الأمريكية التي تأذت كثيراً، واسترجاع فاعلية دورها المؤثر وزخمه المتآكل في كل ما تشهده المنطقة من أحداث.
3- تقديم أكبر دعم للكيان الإسرائيلي، والتكفل بضمان أمنه وبقائه متفوقاً عسكرياً.
4- تهيئة البيئة المطلوبة لقبول "إسرائيل" أكثر، وتسريع التطبيع العلني مع أكبر عدد ممكن من الدول العربية.
5- رفع مستوى التنسيق الأمني والعسكري بزعامة تل أبيب، وتشكيل ما يمكن من تحالفات تحت مسميات مختلفة لمواجهة إيران وبقية أطراف محور المقاومة.
6- محاولة تحقيق أي مكسب يرفع من شعبيته وشعبية حزبه المتراجعة بوتائر تهدد مكانة الديمقراطيين ودورهم في الداخل الأمريكي مع اقتراب موعد الانتخابات النصفية.
التحليل الموضوعي لمضمون العناوين الستة آنفة الذكر كفيل بتوليد مجموعة من الأفكار الضرورية لفهم حقيقة ما يجري، واستشراف آفاق المستقبل القريب، ومنها:
ـ موضوع ضمان التفوق العسكري الإسرائيلي جزء أساسي في الإستراتيجية الأمريكية منذ أن وُجِدَ هذا الكيان، وعلى الأقل منذ أن انتقلت رعايته من الحضن البريطاني إلى الحضن الأمريكي في نهاية خمسينيات القرن الماضي، وبالتالي ليس هناك ما يستدعي قدوم بايدن والفريق المرافق للإعلان عن هذا الأمر.
الجميع يعلم علم اليقين أن التشدق بالحرص على ضمان أمن "إسرائيل" جزء من البرنامج الانتخابي لجميع الرؤساء الأمريكيين جمهوريين كانوا أم ديمقراطيين
ـ الأمر ذاته ينسحب على موضوع التكفل بضمان أمن "إسرائيل"، والسؤال المشروع هنا: متى لم تكن واشنطن متكفلة بأمن" إسرائيل" على حساب الأمن الوطني والقومي لدول المنطقة وشعوبها؟، والجميع يعلم علم اليقين أن التشدق بالحرص على ضمان أمن "إسرائيل" جزء من البرنامج الانتخابي لجميع الرؤساء الأمريكيين جمهوريين كانوا أم ديمقراطيين، وبالتالي ما هو الجديد الذي يحمله الإعلان عن هكذا عنوان من قلب تل أبيب؟.
ـ موضوع تسريع ما أمكن من تطبيع الدول العربية مع حكام تل أبيب يتم العمل عليه جهاراً نهاراً، وحمَّى التطبيع التي شهدتها الأشهر الماضية لا تتضمن أكثر من انتقال التواصل الفعلي والتعاون الجوهري من السر إلى العلانية، وقد يكون الإعلان عما يتم التوصل إليه من البيت الأبيض ـ كما درجت العادة ـ أكثر زخماً ووهجاً ودلالات.
ـ موضوع "بيان القدس" الموقع بين بايدن ولابيد، ومحاولة تسويقه وكأنه فتح عظيم لم يكن مفاجئاً لمحور المقاومة قط، وكل ما تضمنه لا يتجاوز سقف الاستراتيجيات الأمريكية المعتمدة والمعلنة منذ عقود، وإذا كان هناك من يرى جديداً في تضمين البيان ذكر استخدام القوة لمنع طهران من امتلاك القنبلة النووية، فهذه الجِدَّة لا تتجاوز التلاعب بالألفاظ، لأن التهديد باستخدام القوة مشروط بـ "إذا"، وهذه الـ "إذا" لا وجود لها أساساً، فقرار الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ بداية الثورة واضح وصريح، وقد حرم تصنيع القنبلة النووية بفتوى رسمية، وبالتالي هذا التهديد جعجعة لتضخيم الذات التي التزمت الصمت عندما تم اقتياد البحارة الأمريكيين أسرى وجاثمين على ركبهم وأيديهم خلف رؤوسهم عندما اخترقوا المياه الإقليمية الإيرانية، في وقت كانت قدرات إيران أقل مما هي عليه اليوم بعشرات الأضعاف.
ـ الحديث عن تشكيل ناتو شرق أوسطي يضم دولاً عربية بقيادة إسرائيلية بذريعة مواجهة الخطر الإيراني يفتقد الكثير من الروافع الموضوعية الضرورية، فبعض الدول التي تم ذكرها ضمن الحلف المطلوب أعلنت بوضوح أنها لن تنضم إلى أي تحالف ضد أي دولة من دول المنطقة، ودول أخرى دخلت في محادثات مباشرة مع طهران، وظهرت بعض المؤشرات على إمكانية استعادة العلاقات الدبلوماسية، فعن أي ناتو يتحدثون؟ ومن هو العدو المفترض للتحالف الجديد المطلوب استيلاده بعملية قيصرية تهدد وجود حملته قبل غيرهم؟.
هذا الكلام لا يعني أن واشنطن وتل أبيب لا تتمنيان تشكيل هكذا تحالف، كما أنه لا يعني عدم وصول التنسيق العسكري إلى مراحل متقدمة، وبخاصة فيما يتعلق بمنظومات الدفاع الجوي لضمان أمن "إسرائيل" غير القابل لأن يكون مضموناً جراء العدوانية الإسرائيلية المنفلتة من كلعقال بمباركة أمريكا والدول الأطلسية وغير الأطلسية.
ـ تبقى نقطة واحدة أساسية، وفيها يكمن سر زيارة بايدن وفريقه، وهي ضمان بديل للنفط والغاز الروسي وبأسعار مقبولة أي تخفيض الأسعار الحالية التي حصَّنت الاقتصاد الروسي وزادته قوة على عكس الهدف الذي من أجله انساقت أوربا برعونة وراء البيت الأبيض، فالأوربيون غير مهيئين للاستمرار في ظروف عدم كفاية حوامل الطاقة، وطبيعة الحياة الصناعية والرفاهية التي استمرأ الأوربيون العيش فيها لا تحتمل فترات زمنية يشح فيها النفط والغاز، إذ تتهدد عجلة الحياة اليومية في شتى جوانبها ومفاصلها.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل تستطيع السعودية ودول الخليج مجتمعة التعويض عن الغاز والنفط الروسي حتى لو أرادت ذلك؟ الجواب ببساطة: لا، فضلاً عن الارتفاع الحتمي للتكلفة جراء عمليات النقل، وبالتالي مهما زادت عملية الضخ فالأسعار ستبقى مرتفعة، وبقاء الأسعار مرتفعة يثقل كاهل أوربا بما لا تستطيع تحمله، وعندما تزداد التظاهرات الشعبية كثافة وزخماً فكل ما له علاقة بالاستقرار الداخلي سيكون معرضاً لأخطار لا تستطيع واشنطن ادعاء القدرة على التحكم بتداعياتها، وعندها لن تتوقف عملية استقالة رؤساء الوزراء والقادة على بريطانيا وإيطاليا بل سيتساقطون تباعاَ كأحجار الدومينو.
- القطبة المخفية في كل ما يتعلق بالزيارة قد يكون على صلة بضمان تمكين "إسرائيل" من استخراج الغاز من شرق البحر المتوسط لعله يعوض بعض النقص المتزايد بأسرع وقت ممكن، وهذا ما قطعت عليه المقاومة الطريق بشكل مسبق، فأعلنت وعلى لسان سماحة الأمين العام السيد حسن نصر الله المعادلة الجديدة في المواجهة المفتوحة: (كاريش وما بعد كاريش وما بعد بعد كاريش).
وبالتالي لا يمكن لأي طرف أن يستثمر ويستخرج الغاز من شرق المتوسط ما لم يضمن لبنان حقه كاملاً ليس فقط فيما يتعلق بترسيم الحدود، بل وفي ضمان الاستخراج والاستثمار، وقد أعاد سماحة السيد بخطابه الأخير إلى الأذهان صورة استهدف البارجة ساعر التي كانت تقصف لبنان وأهله في حرب 2006 عندما قال "انظروا إليه إنها تحترق.."، واعتقد جازماً أن معادلة (ما بعد كاريش) لا تقل عن تلك الصورة غنى بالمعاني والدلالات، وتسليط الضوء على هذا الجانب أمر في غاية الأهمية ويتطلب دراسة تحليلية مستقلة.
الأمر الآخر الذي لا يجوز إغفاله في هذا السياق متعلق بزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى طهران في الأيام القليلة القادمة، وما قد تفرزه الزيارة من نتائج إستراتيجية يبنى عليها الكثير، وأبيح لنفسي طرح تساؤل أظنه مشروعاً، وينطلق من قراءة الواقع القائم حيث تتبلور ثلاث عتبات بوضوح:
زيارة بايدن لن تخفف الاحتقان القائم، ولن تساهم في تعزيز الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، بل ستقود إلى مزيد من الأخطار الكبرى التي تهدد الجميع، والخروج من دوامة هذا الاستعصاء المزمن قد يكون محكوماً برفع مستوى الاشتباك موضعياً بأشكال متعددة
ـ عتبة القطب المكافئ، وموسكو مؤهلة بجدارة لتسنُّم هذه العتبة.
ـ العتبة النووية، وطهران تبوأتها ببرنامجها السلمي قبل زيارة بوتن.
ـ عتبة الاستثمار الروسي المشروع في إرادة محور المقاومة وقدرته على منع تحويل غاز المتوسط إلى حبل سري لإنقاذ من يحارب موسكو على الساحة الأوكرانية.
والسؤال الأمني: هل يقوم السيد بوتن بالضغط على الزر لإشعال لمبات العتبات الثلاث دفعة واحدة، فيخفف بذلك الكثير من الأوجاع، ويصحح الخلل المفروض على العلاقات الدولية منذ عقود؟.. آمل ذلك.
الخلاصة؛ زيارة بايدن لن تخفف الاحتقان القائم، ولن تساهم في تعزيز الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، بل ستقود إلى مزيد من الأخطار الكبرى التي تهدد الجميع، والخروج من دوامة هذا الاستعصاء المزمن قد يكون محكوماً برفع مستوى الاشتباك موضعياً بأشكال متعددة تتضمن جس النبض، والتصعيد الأولي المتضمن تسخين مضبوط الإيقاع لمعرفة نوايا المحور الآخر، وهنا مكمن الخطر، حيث لا ضامن على الإطلاق قادر على التحكم بتداعيات احتكاكات قابلة للانفجار وخروج الأمور عن السيطرة لأي سبب خارج الحسابات.
/انتهى/