وأفادت وكالة مهر للأنباء، انه تعكس الغارات الجويّة التي شنّتها طائرات حربيّة تركيّة فجر يوم أمس الأحد على أكثر من 90 هدفًا في المناطق والنقاط العسكريّة الكرديّة في ريفيّ حلب والحسكة، وشِمال العِراق التابعة لوحدات الحماية الشعبيّة المُتّهمة بكونها الذّراع العسكري لحزب العمّال الكردستاني في الأراضي السوريّة، وتعكس هذه الغارات تصعيدًا عسكريًّا، وحالةٍ من الارتباك تتفاقم في صُفوف السّلطات التركيّة وقيادتها بعد عمليّة التفجير الإرهابيّة التي وقعت في شارع الاستِقلال المُتفرّع من ميدان تقسيم الشّهير باسطنبول، وأسفرت عن مقتل ستّة أشخاص وإصابة 81 شخصًا.
ربّما تُحَقِّق هذه الغارات أهداف الرئيس رجب طيّب أردوغان وحزبه في الثّأر من المُتّهمين بالوقوف خلف تلك العمليّة الإرهابيّة، وإظهاره بمظهر القائد الصُّلب في مُواجهة الإرهاب، ولكنّ نتائجها المُستقبليّة قد تكون كارثيّة عليه، وحزب العدالة والتنمية الذي يتزعّمه، مع اقتِراب موعد الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة في حزيران (يونيو) المُقبل.
أخطر جوانب هذه الغارات استهداف مواقع للجيش السوري، واستشهاد عشرة من جُنوده مثلما أكّدت وكالة الأنباء السوريّة الرسميّة “سانا” مّا قد يُؤدّي إلى نسف كُل ما حقّقته المُفاوضات الأمنيّة بين رئيسيّ جهاز المُخابرات في تركيا وسورية، من نجاحٍ وتأجيل، وربّما إحكام إغلاق الأبواب، في وجه المُبادرة الروسيّة التي تُريد ترتيب قمّة ثُنائيّة لرئيسيّ البلدين تحت رعايتها للتوصّل إلى اتّفاقٍ تنسيقيٍّ يُحقّق الأمن على حُدود البلدين يُنهي الانتهاكات الإرهابيّة، وتقليصها والاحتِلال التركي لأراضي سوريّة في الشّمال ويُعيد العلاقة الاستراتيجيّة السّابقة بين الجانبين.
النّقطة الأُخرى التي لا تقل أهميّةً ولا يُمكن تجاهلها، أن هذه الغارات الانتقاميّة قد تأتي بنتائجٍ عكسيّة، أيّ تُؤدّي إلى تصعيدِ الهجمات من قِبَل حزب العمّال الكردستاني، ووحدات الحماية الشعبيّة في العُمُق التركي ممّا سيُؤثّر حتمًا وبطَريقةٍ سلبيّةٍ على الأمن، وصناعة السّياحة التركيّة التي تدر أكثر من 25 مِليار دولار سنويًّا على الخزينة التركيّة وتوفير مِئات الآلاف من الوظائف، وبدأت أخيرًا تدخل مرحلة التّعافي بسبب الاستِقرار الأمني وانتهاء خطر فيروس كورونا، واحتمال هُروب الكثير من الاستثمارات الأجنبيّة إلى ملاذاتٍ أكثر أمنًا في أوروبا في وقتٍ يُواجه فيه الاقتصاد التركي أزمات طاحنة أبرزها اقتراب مُعدّلات التضخّم من حاجز التّسعين في المئة، ممّا سيُفاقم من غلاء المعيشة، وانخفاض العملة الوطنيّة وارتِفاع مُعدّلات البطالة.
البيان الرسمي التركي الذي قال إن هذه الغارات تستهدف “الإرهاب في منبعه” لم يكن دقيقًا، فالجُنود السوريين العشرة الذين استشهدوا في هذه الغارات لم يُمارسوا، ودولتهم، أيّ إرهابٍ ضدّ تركيا، بل ما حدث، ويحدث، هو العكس تمامًا، ولا نستبعد أن تُؤدّي هذه الغارات إلى تحقيقِ مُصالحةٍ بين الدولة السوريّة والأكراد المُتمرّدين على سِيادتها في الشّمال، وتوسيع دائرة الحرب ضدّ الاحتِلال التركي للمناطق الشماليّة السوريّة.
تصريح الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان الذي فاجَأنا وقال فيه إنّه سيُقدِم على إعادة العلاقات مع كُل من مِصر وسورية ولكن بعد الانتِخابات التركيّة الصّيف المُقبل يُنْبِئ بأمْرين أساسيين:
الأوّل: أن جُهود المُصالحة بين أنقرة وكُل من دِمشق والقاهرة ربّما وصلت إلى طريقٍ مسدود، إن لم يكن قد فشلت وانهارت كُلِّيًّا.
الثاني: أن هُناك خطّة تركيّة لتصعيد المُواجهات والغارات العسكريّة في الأشهر الستّة القادمة، خاصَّةً ضدّ سورية، وتوسيع “مناطق آمنة” لترحيل المزيد من اللّاجئين السوريين بالقوّة إليها، ممّا يعني تكريس الاحتِلال التركي وتوسيع مناطقه، وزيادة حالة عدم الاستِقرار في المِنطقة برمّتها.
استعادة العلاقات التركيّة مع كُل من مِصر وسورية يجب أن يكون طريق من اتّجاهين، وليست إملاءً تُركيًّا من جانبٍ واحد، فإذا كانت هذه العلاقات قد انقطعت، فإن ذلك جاء كرَدّ فعلٍ على التدخّل التّركي الرّسمي في الشّؤون الداخليّة في البلدين، ولا يُمكن استعادة العلاقات إلا بعد وقف هذا التدخّل جديًّا وكليًّا، وأزالت كُل الكوارث التي ترتّبت عليه، وأبرزها التوغّل العسكري في الأراضي السوريّة.
أمّا النقطة الأخرى التي لا يجب تجاهلها هي الوعد “الزّمني” باستِعادة هذه العلاقات بعد الانتِخابات الرئاسيّة، ممّا يعني وللوهلة الأولى، أن الرئيس أردوغان واثقٌ من الفوز فيها، وهذه مسألةٌ افتراضيّة، خاصَّةً أن استِطلاعات الرّأي تُؤكّد تراجع شعبيّته، وحزبه، وتقدّم الائتلاف السُّداسي للمُعارضة التركيّة بزعامة حزب الشّعوب الجُمهوري.
الرئيس أردوغان ونُكَرّرها مَرّةً أُخرى ارتكب في رأينا خطيئةً كُبرى عندما شنّ هذه الغارات بطريقةٍ عشوائيّةٍ، واستهدف مراكز للجيش السوري، مدفوعًا بنزعة الانتقام والثّأر، وليس بالحِسابات السياسيّة والأمنيّة الدّقيقة، ولعلّ السيّد سليمان صويلو وزير الداخليّة التركي وضع إصبعه على الجُرح عندما اتّهم أمريكا بالوقوف خلف العمليّة الإرهابيّة الأخيرة في ميدان تقسيم، ورفض تلقّي التّعازي بالضّحايا من قِبَل السّفارة الأمريكيّة في أنقرة، فأمريكا هي فِعلًا الدّاعم الأكبر للحركات الانفصاليّة الكُرديّة سواءً في سورية أو العِراق أو تركيا.
لا نتردّد لحظةً في خِتامِ هذا المقال بالقول للرئيس أردوغان “بضاعتكم رُدّت إليْكُم يا سيادة الرئيس”، وأوّل خطوة لتصحيح هذه الخطيئة، والقضاء على الإرهاب، هي باستِعادة العلاقات فورًا مع دِمشق والقاهرة، وبِما يُحَقّق مصالح جميع الأطراف، فربّما يُساعد هذا التوجّه في تحسين فُرص الفوز في الانتِخابات الرئاسيّة والبرلمانيّة معًا، لأنّ الفوز غير مضمون، والبديل كارثي بكُل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.. والأيّام بيننا.
/انتهى/