لا بد من الإشارة إلى أن تصنيف الأحزاب الإسرائيلية بين يمين ويسار هو تصنيف مضلِّل، فعلى صعيد السياسات الاجتماعية والاقتصادية نجد أن أحزاب اليسار الإسرائيلي، بخلاف كل الأحزاب اليسارية في العالم، تدافع عن اقتصادات السوق والخصخصة.

أفادت وكالة مهر للأنباء أنه شكل عام 1977 محطة مفصلية في تاريخ "إسرائيل". في هذا العام، وصل اليمين إلى السلطة للمرة الأولى منذ عام 1948. وُصف ما جرى بالانقلاب. يومها قال أحد أشهر المذيعين الإسرائيليين، حاييم يافين، في مقدمة برنامجه التلفزيوني: "سيداتي سادتي، انقلاب".

منذ ذلك الحين، يعيش اليسار في حال تراجع وانحسار. وصلت الأمور إلى ذروة جديدة في عام 1995 مع اغتيال إسحاق رابين. شكّل هذا الحدث محطة مفصلية وكاشفة في هذا المسار. مع الوقت، تخطت المسألة مقولة "هيمنة اليمين". أثبتت التطورات أن الساحة الإسرائيلية برمتها تتحول إلى ساحة يمينية في ظل انهيار أحزاب اليسار.

هذا التحول لم يكن سلساً بدليل ارتفاع مستوى الاستقطاب الشديد داخل الكيان الصهيوني، والذي تُرجم بحدوث خمسة انتخابات برلمانية خلال ثلاثة أعوام بين عامي 2019 و2022، وصولاً إلى تشكيل حكومة نتنياهو الحالية في أيلول/سبتمبر 2022، والتي صُنِّفت على أنها الأكثر يمينية في تاريخ الكيان.

لم تُنهِ هذه الحكومة حالة الاستقطاب الحادة. تصاعدت الانقسامات إلى مستويات غير مسبوقة، وجاءت عملية طوفان الأقصى لتُظهر حالة من اللايقين بشأن مستقبل "إسرائيل" في ظل توسيع الأطراف اليمينية قاعدتها الشعبية وتعاظم الانقسامات بين اليمين من جهة والأطراف الأخرى من جهة ثانية، وفيما بين مكونات معسكر اليمين ذاته في الوقت ذاته.

لماذا تعاظمت قوة اليمين؟

في محاولة الإجابة عن هذا السؤال، لا بد من التوقف عند مجموعة معطيات:

أولاً: لا بد من الإشارة إلى أن تصنيف الأحزاب الإسرائيلية بين يمين ويسار هو تصنيف مضلِّل، فعلى صعيد السياسات الاجتماعية والاقتصادية نجد أن أحزاب اليسار الإسرائيلي، بخلاف كل الأحزاب اليسارية في العالم، تدافع عن اقتصادات السوق والخصخصة.

أمّا بالنسبة إلى الموقف تجاه الفلسطينيين، فشهدنا حروباً إجرامية متعددة خاضتها حكومات اليسار. كما ارتكب اليساريون الإسرائيليون عدداً من المجازر، أو أعطوا الأوامر بتنفيذ مجازر، عبر أدوات يمينية متطرفة. يذهب بعض المؤرخين والباحثين إلى حد القول إن غياب الفوارق بين اليمين واليسار الإسرائيليَّين هو أحد أسباب توجه الجمهور الإسرائيلي إلى اليمين. الباحث ميرون بنفستي أحد هؤلاء.

يرى بنفستي أن أحد أهم العوامل التي دفعت نحو انهيار اليسار هو أن "الجمهور" الإسرائيلي "لم يعد يلمس وجود فوارق أيديولوجية ذات مغزى بين أحزاب اليسار واليمين". ويضيف أن اليسار واليمين يُجمعان "على قداسة أسطورة الاستيطان، ويرفعان البيت والبؤرة الاستيطانية والشجرة المغروسة إلى درجة قيمة عليا".

وقال إن اليسار الإسرائيلي طرح شعارات فارغة من دون أن يدلل، ولو بفعل واحد، على أن لديه طرحاً آخر مغايراً لما يطرحه اليمين. وأشار بنفستي إلى "أن اليسار هو الذي تحمس لفكرة إقامة جدار الفصل العنصري في قلب الضفة الغربية، الذي حاصر الأرض الفلسطينية، وجعلها مناطق معزولة وغير قادرة على الوصول للعالم الخارجي".

وتأتي تغطية كل المكونات الإسرائيلية، من دون استثناء، للتوحش الإسرائيلي في حرب غزة الحالية، لتُضاف إلى الأدلة التي تثبت أن التمييز بين يسار ويمين إسرائيليَّين هو أمر سطحي لا يمكن الرهان عليه، وخصوصاً تجاه القضية الفلسطينية. وهو ما وقعت فيه للأسف عدة أطراف عربية، تبين فيما بعدُ أن رهانها هذا لم يكن سوى نوع من المراهقة السياسية. لذلك، من الأفضل اعتماد التقسيم الذي أشار إليه الرئيس الإسرائيلي السابق، رؤوبين ريفلين. قسّم ريفلين المجتمع الإسرائيلي إلى 4 قبائل: العلمانيين والمتدينين الصهاينة والحريديم والعرب. وهذا التقسيم يؤكد بدوره أيضاً غلبة اليمين على سائر المكونات.

ثانياً: لا شكّ في أن التغيرات الديمغرافية والإثنية، التي طرأت على المكونات داخل الكيان الصهيوني، هي من أبرز أسباب ظاهرة تحوّل الإسرائيليين نحو اليمين. كان المؤرخ الإسرائيلي، شلومو بن عامي، من أوائل الذين أشاروا إلى هذا السبب، وقال إن عام 1980 شهد بداية تبلور "ثلاثة قطاعات سكانية رئيسة داخل إسرائيل، هي المهاجرون الروس الجدد والشرقيون والمتدينون"، لافتاً إلى أن هذه التجمعات أصبحت تضم نحو 80 % من المستوطنين اليهود في "إسرائيل"، وأنها خضعت لتأثير نخب مثقفة ذات توجهات يمينية صرفة.

ويتم التركيز، في هذا السياق، على المهاجرين الروس، الذين شكلوا رافداً كبيراً لمرشحي اليمين. وهو ما يشير إليه سامي ساموحا، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة حيفا، والذي يؤكد أن هناك عاملين دفعا المهاجرين الروس الجدد إلى تبني التوجهات اليمينية المتطرفة، هما رغبتهم في التميز من خلال تبني مواقف يمينية ومواقف عنصرية من العرب، من أجل التدليل على إخلاصهم لـ"الوطن" الجديد، والتعرض لتأثير النخب المتطرفة. ففي الوقت الذي أهمل اليسار الاهتمام بالمهاجرين الجدد، فإن اليمين حرص على احتضان النخب المثقفة لديهم، ومساعدتها على بناء منابر إعلامية خاصة بها. تجدر الإشارة هنا إلى ما لفت إليه ساموحا، وقوله إن "تبني المواقف المتطرفة هو ماركة مسجلة في إسرائيل بالنسبة إلى المهاجرين الجدد".

أمّا الشرقيون فيرون أن الأحزاب اليمينية هي الكفيلة بالدفاع عن حقوقهم ومصالحهم وإنصافهم ممّا يَعُدُّونه "الغبن الطائفي" اللاحق بهم.

يبقى المتدينون، الذين لا يحتاج المرء إلى أن يستفيض في شرح أسباب اندفاعهم نحو التوجهات المتطرفة. فهم، في شقيهم الصهيوني والأرثوذكسي، يخضعون لتأثير مرجعيات دينية متطرفة.

ثالثاً: يرى بعض الباحثين الإسرائيليين أن رواج مقولة انعدام الشريك الفلسطيني هو أحد أسباب التوجه نحو اليمين. المفارقة أن اليساريين أو العلمانيين، بحسب تقسيم رفلين، هم الذين روّجوا هذه الفكرة، وساهموا، من دون أن يقصدوا، في تراجع نفوذهم وحضورهم. فإيهود باراك، أحد أبرز زعماء حزب العمل، هو أول من أطلقها. في عام 2001، بعد انهيار مؤتمر كامب ديفيد، قال باراك مقولته الشهيرة، والتي انتشرت في الفضاء السياسي الإسرائيلي: "أُقِرّ وأعترف بأنه لا يوجد شريك فلسطيني في التسوية. لقد عرضنا على عرفات القمر، لكنه اختار أن يرد علينا بالإرهاب".

من المفارقات أيضاً أن وسائل الإعلام الإسرائيلية، التي كان تشرف عليها النخب ذات التوجهات اليسارية، هي التي تلقفت أقوال باراك وتبنتها وروجتها، فتسرّبت إلى وعي "الجمهور" الإسرائيلي حقائقَ مسلَّماً بها. وكان، من نتيجة هذا الأداء الإعلامي، تحمس "الجمهور" الإسرائيلي للإجراءات القمعية ضد الفلسطينيين. وسُجِّل ارتفاع أسهم اليمين الإسرائيلي خلال الحروب المتتالية التي شنتها "إسرائيل" على غزة، وبعدها.

هذه الحروب، وفق الباحث زئيف سيجل، فتحت شهية "المجتمع" الإسرائيلي، الذي تحطمت كرامته في حرب لبنان الثانية، لخيار القوة. يرى سيجل أن الإسرائيليين يعتقدون أن قادة اليمين "يمكنهم أن يتصرفوا في الحرب بصورة أكثر وحشية وقوة وحسماً من اليسار".

رابعاً: التعامل بوحشية وحسم ليس حكراً على من يسميه اليمين "الأغيار" من غير اليهود. يرى اليمينيون، وخصوصاً الحريديم، أن عدم اتّباع ما يرونه من قواعد الشريعة جريمة كبرى. تؤدي المدارس الدينية دوراً كبيراً في تعزيز هذا الاتجاه، من خلال غرسها في أذهان طلابها أن العنف الذي يمارسه الحاخامات يتم "تبعاً لكلمة الرب"، وتحثّ على معاملة اليهود غير المتدينين بطريقة أسوأ من تلك التي يعامَل بها غير اليهود.

ويشير عمانويل هيمان، في كتابه "في عقر ديار التطرف اليهودي"، إلى الجذور التاريخية لقتل اليهود لأبناء دينهم من المتهمين بالتعاون مع العدو. في هذا السياق، تم اغتيال رابين بعد أن روّج عشرات الحاخامات المبرّرات الدينية لقتله. أ

كّد هؤلاء أن قوانين توراتية، مثل "قانون المطارد" و"قانون الواشي"، اللذين كان يتم استخدامهما منذ الأزمنة التلمودية لقتل اليهود، ينطبقان على رابين وعدد من وزرائه. بالإضافة إلى تشريع القتل، تشهد "إسرائيل"، من فترة إلى أخرى، سجالات حادة بشأن قضايا تفصيلية، مثل قضية التبرع بالدم، وهل يجوز نقل دم إلى اليهودي المتديّن من غير يهودي أو من يهودي علماني. ويعتقد المتدينون أن نقل الدم "الملوث العلماني" قد يجعل اليهودي المؤمن يتصرف على نحو شرير.

خامساً: لا تقف هذه الكراهية عند حدود من يُسَمّون الهراطقة، أو غير الملتزمين الشريعةَ اليهودية. يصبح الشعور بالعداء أكثر شدة بين اليهود المتدينين أنفسهم. فالأشكينازي ينظر نظرة دونية إلى السفارديم، وكِلاهما متديّن يميني. يتجنب المتدينون من أصول غربية الاختلاط بالشرقيين، ويتحاشون تناول الطعام لديهم. ووصل العداء بين الجانبين إلى مستويات تفوق أي عداء قائم بين سائر المكونات اليهودية.

وهذا يعني تلقائياً أن توجه "المجتمع" الإسرائيلي إلى اليمين لن ينهي حالة الانقسام، ولن يعالج ظاهرة انعدام اليقين، بل سيزيد في الشروخ بين القبائل الأربع.

يبدو أن الأمور قد تذهب إلى ما هو أخطر؛ إلى ازدياد احتمال أن يأكل اليمين أبناءه، وينهار الهيكل على رؤوس الجميع في "إسرائيل". هذا الاحتمال القوي أصبح أقرب إلى الحقيقة المحتّمة، بعد طوفان الأقصى، وبالتزامن مع ازدياد "وهن الرابط الاجتماعي والوحدة في المجتمع الإسرائيلي"، كما حذّر الرئيس الإسرائيلي السابق ريفلين، في سياق حديثه عن القبائل الأربع.

/انتهى/