إن ثقة القذافي بأمريكا وتخليه عن برامجه التسليحية عام 2003 لم تضمن أمن ليبيا، بل كانت مقدمة لسقوطه وتحويل البلاد إلى ساحة حرب مدمرة.

وكالة مهر للأنباء- قسم الشؤون الدولية: في الأسابيع الأخيرة، ومع تولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة، تصاعدت النقاشات حول احتمال إجراء مفاوضات بين طهران وواشنطن؛ وهي مفاوضات بدأت سابقًا رغم الاعتراضات، وأسفرت عن التوصل إلى الاتفاق النووي الشامل ، إلا أن ترامب خلال ولايته الأولى انسحب منه بشكل أحادي رغم التزام إيران، وفرض أشد العقوبات عليها تحت سياسة الضغط الأقصى.

وفي هذا السياق، أكد قائد الثورة الاسلامية، خلال لقائه يوم الجمعة مع قادة وضباط القوة الجوية والدفاع الجوي للجيش، على أهمية استخلاص العبر من تجربة "عامين من التفاوض، تقديم التنازلات، والتراجع دون تحقيق أي نتيجة"، مضيفًا: "أمريكا انتهكت نفس الاتفاق الذي وقعته، وانسحبت منه. لذا، التفاوض مع مثل هذه الدولة أمر غير عقلاني، وغير حكيم، وغير أخلاقي، ولا ينبغي القيام به."

وبعيدًا عن الاتفاق النووي، يكشف استعراض سجل الالتزامات والاتفاقات الأمريكية مع الدول الأخرى عن عبثية هذه المفاوضات، بل وأضرارها الفادحة، كما يُظهر اتفاق ليبيا مع أمريكا مثالًا واضحًا على ذلك.

اتفاق 2003 بين أمريكا وليبيا: قرار مصيري وخيانة أمريكية

في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، سعى معمر القذافي، الزعيم الليبي آنذاك، إلى تحويل بلاده إلى قوة مستقلة من خلال تطوير برامجها النووية والكيميائية والصاروخية. وقد جعل الدعم الأمريكي للجماعات المسلحة والتدخلات السياسية من القذافي العدو الأول للغرب. ومع فرض عقوبات دولية قاسية في التسعينيات، وجدت ليبيا نفسها في عزلة خانقة، ما دفعها تدريجيًا نحو التفاوض مع القوى الغربية.

في عام 2003، قرر القذافي تغيير سياسات ليبيا بشكل جذري، فوافق على تفكيك برنامجه النووي وتقليص قدراته التسليحية، وهو قرار اعتُبر انتصارًا كبيرًا للغرب، وخاصة للولايات المتحدة. وقد رأت واشنطن في هذا الاتفاق نهاية مؤقتة للتهديدات النووية والعسكرية الليبية، ما دفعها إلى تخفيف العقوبات المفروضة على ليبيا.

كان القذافي يعتقد أن التقارب مع الغرب سيضمن له الحماية من أي تهديد مستقبلي، وسيمهد الطريق أمام ليبيا للعودة إلى المجتمع الدولي وتحقيق التنمية الاقتصادية. وبالفعل، أعلنت الولايات المتحدة حينها عن رفع العقوبات الاقتصادية تدريجيًا واستئناف العلاقات التجارية والدبلوماسية مع طرابلس، مما أوحى بأن ليبيا تتجه نحو عصر جديد من الانفتاح والتعاون الدولي.

لكن، ومع تغير الأوضاع الجيوسياسية وسوء تقدير الغرب لقدرة القذافي على البقاء في السلطة، بدأت أمريكا وحلفاؤها في التنصل من التزاماتهم. ومع تصاعد الأزمات السياسية، تخلى الغرب عن تعهداته، ليتحول الاتفاق الذي كان من المفترض أن يضمن استقرار ليبيا إلى مقدمة للفوضى والتدخل العسكري الذي أطاح بالقذافي وحوّل ليبيا إلى دولة ممزقة بالصراعات.

في عام 2011، تحركت الدول الغربية بقيادة حلف الناتو لتنفيذ تدخل عسكري مباشر، أدى في النهاية إلى الإطاحة بمعمر القذافي وإغراق ليبيا في حرب أهلية مدمرة. وقد قدمت الولايات المتحدة وحلفاؤها أنفسهم كمدافعين عن الحرية والديمقراطية، لكنهم استغلوا هذا الشعار للتدخل في الشؤون الداخلية الليبية، حيث بدأوا بتقديم دعم دبلوماسي وعسكري مكثف للمعارضة. نتيجةً لذلك، تحولت ليبيا من دولة مستقرة نسبيًا ذات حكومة مركزية إلى دولة مفككة، مزقتها النزاعات بين الفصائل المسلحة، ما أدى إلى انهيار البنية التحتية وانتشار الفوضى.

جاءت نهاية القذافي مأساوية نتيجةً لهذا الخداع الغربي. فبعد سقوط نظامه وانهيار مؤسسات الدولة، أصبحت ليبيا ساحة صراع بين الميليشيات والجماعات المسلحة. كان القذافي يظن أن التخلي عن برنامجه التسليحي والخضوع للرقابة الدولية سيحميه من أي تهديد غربي، لكنه وجد نفسه في النهاية معزولًا تمامًا، حيث لم تقدم له القوى الغربية أي دعم عندما تعرض لهجوم عسكري واسع النطاق. تم أسره وقتله بوحشية، في مشهد صادم اعتُبر إحدى أكبر الإخفاقات الدبلوماسية في القرن الحادي والعشرين.

في المحصلة، لم يسهم الاتفاق الذي وقّعته ليبيا مع الغرب سوى في تدمير الدولة الليبية، حيث تركت التدخلات الغربية البلاد في حالة من الفوضى، والصراعات المستمرة، والأزمات الاقتصادية والإنسانية التي لا تزال مستمرة حتى اليوم. لقد أصبح الإرث الحقيقي لهذا الاتفاق هو الفوضى والانهيار بدلاً من الأمن والاستقرار، مما يثبت مرة أخرى أن الوثوق بالغرب لم يكن سوى وهم قاتل.

ليبيا بعد القذافي: دولة تحولت إلى أنقاض

بعد الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، غرقت ليبيا في حالة من الفوضى، والحرب الأهلية، والتفكك السياسي. ومع انهيار الحكومة المركزية، برزت الميليشيات المسلحة والجماعات الإرهابية مثل داعش والقاعدة كلاعبين رئيسيين في المشهد السياسي والعسكري الليبي. فالدولة التي كانت في عهد القذافي إحدى أغنى دول إفريقيا، تحولت خلال أقل من عقد من الزمن إلى واحدة من أكثر الدول فوضوية وانعدامًا للأمن في العالم، وذلك نتيجة التدخل العسكري لحلف الناتو.

انقسمت ليبيا إلى جبهتين متصارعتين: حكومة الوفاق الوطني، المعترف بها من قبل الأمم المتحدة، والقوات التابعة للجنرال خليفة حفتر، المدعومة من مصر وروسيا والإمارات. هذا الصراع أدى إلى تدمير البنية التحتية، وتعطيل المنشآت النفطية، وإغراق البلاد في أزمة اقتصادية حادة. ووفقًا لتقارير الأمم المتحدة، قُتل أكثر من 20 ألف شخص منذ عام 2011، فيما تجاوز عدد النازحين مليون شخص.

اقتصاديًا، كانت ليبيا تنتج حوالي 1.6 مليون برميل نفط يوميًا قبل سقوط القذافي، لكن بعد الحرب الأهلية، انخفض الإنتاج بشكل كارثي، حيث وصل في بعض الفترات إلى أقل من 300 ألف برميل يوميًا. هذا الانخفاض الحاد في عائدات النفط أدى إلى أزمة اقتصادية خانقة، وارتفاع معدلات البطالة، وانهيار قيمة العملة الوطنية. كما أصبحت ليبيا بؤرة رئيسية لتهريب البشر والهجرة غير الشرعية، حيث تحولت إلى نقطة انطلاق رئيسية للاجئين الأفارقة نحو أوروبا، مما فاقم الأزمات الإنسانية داخل البلاد.

دروس من تجربة القذافي

إحدى أهم العبر المستخلصة من اتفاق ليبيا وأمريكا هي أن الثقة بوعود القوى الكبرى دون ضمانات أمنية يمكن أن تؤدي إلى عواقب كارثية. اعتقد القذافي أن التخلي عن برامجه التسليحية سيحمي ليبيا من أي هجوم عسكري ويوفر فرصة للتقارب مع الغرب، لكنه في الواقع جعل بلاده أكثر عرضة للتدخلات الخارجية، مما أدى في النهاية إلى الإطاحة السريعة بنظامه.

تجربة ليبيا تؤكد أن الدول التي تمتلك برامج عسكرية استراتيجية، إذا تخلت بسهولة عن أسلحتها الرادعة، فإنها تصبح أهدافًا سهلة للنفوذ الأجنبي وتغيير الأنظمة. فقد اضطر القذافي إلى التفاوض بسبب العقوبات الاقتصادية والضغوط الدولية، لكنه اكتشف لاحقًا أن التزامه لم يكن كافيًا لضمان أمن نظامه. الدرس المستفاد هنا هو أن أي دولة ترغب في الدخول في مفاوضات دولية يجب أن تحتفظ بأوراق قوتها، بحيث لا تصبح ضعيفة أمام تقلبات السياسة الدولية.

كذلك، يشكل سقوط ليبيا مثالًا على كيفية استخدام الغرب "نزع السلاح" كأداة استراتيجية لإضعاف الدول. فعندما تخلى القذافي عن برامجه الدفاعية، لم تعد واشنطن وحلفاؤها يرون مصلحة في احترام التزاماتهم تجاهه، وسرعان ما تخلوا عن دعمه بمجرد تغير الظروف السياسية. وهذا يوضح أن أي دولة تسعى لتخفيف التوترات الدولية عبر المفاوضات يجب أن تحافظ على حد أدنى من القوة الدفاعية والردعية، حتى لا تكون ضحية للغدر السياسي عند تغير الموازين.

اليوم، مصير ليبيا والقذافي يشكل تحذيرًا للدول الأخرى. فالدول التي تفكر في إبرام اتفاقات أمنية مع الغرب، خصوصًا تحت قيادة الولايات المتحدة، يجب أن تدرك أن الضمانات الدبلوماسية وحدها لا تكفي، وأن التخلي عن القوة الدفاعية والردعية قد يحول أي اتفاق إلى مجرد وسيلة للخداع والإضعاف. ولو كانت ليبيا قد احتفظت ببرامجها التسليحية، لربما كان لها اليوم مصير مختلف تمامًا.

/انتهى/