وكالة مهر للأنباء_ وردة سعد: لقد أضحى تاريخ السابع والعشرين من أيلول تاريخًا قاسيًا ومؤلمًا على قلوب كل الأحرار وكل الشرفاء في كل أصقاع العالم، لم يكن يومًا عاديًا، يوم انخسف القمر وانكسفت الشمس. استُشهد شهيدنا الأقدس والأسـمى السيد حسن نصر الله وثلة من القادة الأوفياء، وعلى رأسهم الأخ الصدوق لسماحة شهيدنا الأسـمى ورفيق دربه لعقود، القائد الجهادي الكبير الحاج علي كركي (أبا الفضل).
هذه الشخصية التي لطالما سعى العدو إلى اغتيالها، نظرًا لما قدمته من إنجازات وبطولات وعمليات نوعية ضد العدو الصهيوني.
حول هذه الشخصية، أجرت مراسلتنا، الأستاذة وردة سعد، مع ابن القائد الجهادي الكبير "علي الكركي _أبا الفضل_ "، محمد مهدي علي كركي، وجاء نص الحوار على النحو التالي:
كان يعرف الحاج أبو الفضل؛ إلى جانب كونه قائدًا جهاديًا كبيرًا ومؤسسًا للعمل المقاوم، بعاطفته الكبيرة تجاه عائلته وتجاه والديه، سيما والدته رحمها الله، وهو الذي قضى الليل والنهار في المستشفى مع والدته قبل أن تفارق الحياة. كيف استطاع الحاج أبو الفضل أن يجمع بين القيادة وأن يكون بارًا بوالديه وأبًا رؤوفًا؟
كان يعرف عن الوالد الشهيد بره الكبير بوالديه، رغم انشغاله الدائم بالعمل المقاوم وكِبَر مسؤولياته، فكان شديد الحرص على زيارتهم والسؤال عنهم، ولو بالاتصال الهاتفي إن لم يقدر على الزيارة بشكل يومي. ولطالما سمعت منه مقولة: إن الإنسان مهما علا شأنه، حين يكون بحضرة والديه يجب أن يكون مؤدبًا ويحني رأسه، فقد كان يعتبر أن برهما يكون بتخصيص الأوقات لهما، لا أن عندما تنتهي من كل شيء تسأل عنهما.
وقد ذكرنا سابقًا أنه عندما مرضت والدته، كان كثير التواجد وكان كثير التعب، فيأتي بالوسادة التي وضعها الممرّض تحت قدمي والدته، ويضع أخرى مكانها، ويقول: أنام على قطعة من الجنة، ويتوسد بجانبها على الأريكة يتمتم لها بالدعاء.
ولقد كان والدي حنونًا مع عائلته، فبالرغم من شدة بأسه على الأعداء وصلابته في مواجهة الأحداث والمصائب، فقد كان كالجبل لا يجزع ولا يتأثر، بل يعطي من حوله قوة وثباتًا، وكم نقلوا لنا من قصص أيام الحروب التي كان هو قائدها المباشر، نظرًا لموقعه العسكري، كلها تصب في أن كثيرًا ممن كادوا أن يتزعزع ثباتهم، كلمهم وثبّتهم وأحيا هممهم...
إلا أنه، في الجانب الآخر، كان يذوب عاطفة على أولاده وعائلته، فإذا أنجبت إحدى ابنتيه، كانتا ترجوانه أن لا يأتي للاطمئنان عليها، ولكن تحت عتمة الليل وبطريقة أمنية كان يأتي ويؤذن للمولود ويطمئن على الوالدة.
وفي إحدى ليالي الشتاء الباردة، كان يريد الذهاب إلى الجنوب، وقبلها سوف يمر للقاء متفق عليه مع السيد ذو الفقار، فأعطته أمي قبعة لأخي، التي كان يضعها عند ذهابه إلى المدرسة، فأخذها وذهب إلى موعده، وحين انتهى من موعده سأله السيد: إلى أين الآن؟ فأجابه: سوف أعيد القبعة لولدي لأنه سوف يرتديها في الصباح الباكر، الذي يكون عادة باردًا. وظل السيد ذو الفقار يروي لنا هذه الحادثة ويعقب: "إنه الحنون". لقد كان الحاج الشهيد يعتبر أنه يجب أن يبذل جهدًا، ولو على حساب تعبه، كي يهتم بوالديه وعائلته.
الكل كان يعرف متانة العلاقة التي جمعته برفيق درب المقاومة ولعقود، الشهيد الكبير الحاج عماد مغنية. ماذا تخبرنا عن هذه العلاقة؟ وكيف أن الاثنين كانا يُعدّان ويُهيئان العدّة لعملية الاستشهادي الكبير فاتح عهد الاستشهاديين أحمد قصير، والذي أصبح يوم استشهاده يوم الشهيد في 11-11؟
الشباب المبكر، الذي لا يتجاوز السبعة عشر عامًا، كان يشهد على اللقاء الأول الذي جمع الرجلين، الحاج علي كركي والحاج عماد مغنية. وكان الرجلان من طينة واحدة: الطيبة، والجدية، والعمل الدؤوب. فكان الحاج الوالد يكن حبًا كبيرًا للحاج عماد، ويصفه بالدكتور العبقري، ممازحًا وجادًا، فجهادهما كان قبل أي عمل منظم.
أما بالنسبة لعملية الشهيد أحمد قصير، فقد كان العمل مشتركًا بينهما. وهذه العملية زلزلت كيان المحتل، فهناك كثير من التفاصيل المعبرة التي تلمس فيها يد الله وتوفيقاته. فعلى سبيل المثال، روى الوالد بعد وقت طويل من حدوث العملية، أن في بناية عزمي التي فجرها الشهيد أحمد قصير، كان يوجد عدد من المجاهدين الأسرى في أحد الطوابق. وقبل الانفجار بوقت قصير، أمطرت السماء ولم يكن موعد أمطار، لذلك نزل جنود العدو إلى الطابق، ووضعوا الأسرى على السطح. بعدها بوقت قصير، حدث الانفجار، فسقط المبنى طابقًا تلو طابق، ووصل معظم الأسرى إلى الأرض سالمين وهربوا. وكانت الكارثة على العدو من حيث عدد القتلى، وكتبت إحدى الصحف العالمية أن رئيس الموساد كان من ضمن القتلى.
وهي من أشد العمليات الاستشهادية فتكًا وتأصيلًا، إذ سموها "بيوم شهيد حزب الله".
كان الحاج أبو الفضل شديد الارتباط بآل البيت عليهم السلام، عدا عن أعماله الإنسانية اللامتناهية على حبهم (ع). ما سر هذه العلاقة؟ وهل كان يتمنى أن يصل إلى مرتبة الشهادة؟
كان الوالد الشهيد شديد التعلق بأهل البيت، وكان دائم الذكر لهم، يحاول على مدى عمره أن يرتبط بهم في كل شاردة وواردة من حياته، فالإنفاق والذكر والحب والخصال الحميدة، كانوا هم الميزان والمرجع لها، حتى أحيانًا ولو على حساب رأيه أو مشاعره.
هي مرات قليلة التي تمنّى الحاج الوالد فيها الشهادة أمامنا، لأنه كان يراعي مشاعرنا، خاصة الإناث من أولاده. لكننا علمنا من بعض الأشخاص الأتقياء، الذين يعلم أنهم أصحاب أوراد وكثيرو العبادة، أنه طلب منهم الدعاء له بالشهادة، ولأنه كان يتوقعها في وقت مبكر من العمر، إلا أنها جاءته كما تمنى، ولكن في الستين من عمره، وبرفقة "الحبيب"، كما كان يحلو له أن يسميه، وقت الصلاة التي لم يكن مكتوبًا لهما أن يصليّاها.
وأخيرًا، وليس آخرًا، صديق روحه، وزميل الشباب، ورفيق السلاح والجهاد، سماحة الأمين العام شهيدنا الأقدس سماحة السيد حسن نصر الله، أي علاقة كانت تجمعهما إلى حد أن نالا الشهادة سويًا؟

كان الشهيد الوالد يكن حبًا شديدًا لسماحة السيد حسن، وكان يحلو له أن يسميه "السيد الحبيب"، كما رأينا في بعض كتاباته، وكما سمعنا منه أيضًا.
وكان للحاج لقاء دوري مع سماحة السيد متعلق بالعمل الجهادي، وكانت أمي تروي أنه يعود سعيدًا، فالجلسة مع السيد - كما كان يروي الحاج - لا تقتصر على العمل وهمومه، لأن السيد يملك الكاريزما والنكتة وبعض الأحاديث العامة عن العائلة. وكان الوالد يأخذ برأيه في انتقاء أسماء أولاده، وحتى رأيه في الاختصاصات العلمية لبعض أبنائه.
وروى الحاج أنه قبل حرب 7 أكتوبر بشهر واحد، رأى في منامه صاحب الزمان، وله شعر طويل، وبجانبه سماحة السيد حسن، وله شعر طويل إلى الكتفين، وهو معهم. فأشار صاحب الزمان أن: "اتبعوني"، فمشى خطوات، ثم نزل نفقًا، وسكت الوالد.
فسألته أمي: "ثم ماذا حصل؟"
ابتسم والدي... ولم يجبها.
/انتهى/
تعليقك