وكالة مهر للأنباء_ القسم العربي: حظيت الفلسفة منذ نشأتها باهتمام أولي العزم من العلماء والمجتهدين، الباحثين عن فهم ذاتهم وعلاقتهم بالخالق والخَلق، الساعين إلى ارتقاء مجتمعاتهم، وأطلق الهتمون بالفلسفة عليها مفاهيم عديدة، فمنهم من قال: "أن الفلسفة هي حب الحكمة". ومنهم من قال: "هي التأمل العقلي في الوجود المطلق". وأخرون قالوا: "هي القدرة على التغيير من خلال اختراع أفكار ومفاهيم جديدة تختلف عن الواقع المرير". وقال الكندي عنها: هي علم الأشياء على حقائقها. بينما قال ابن سينا عن الفلسفة: هي السعي والجهد لجعل العالم العياني على صورة العالم الذهني.
وكما كان لعلماء المسلمين على مر العصور الفضل في وضع أُسس كثيرٍ من العلوم، فأيضاً قدمت الحضارة الإسلامية الكثير من الفلاسفة الذين أثروا بكتاباتهم مكتبة البشرية، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر "الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، الكندي، ابن حزم، ابن خلدون، ابن سينا، ابن عربي، الجاحظ، الفارابي، ابن رشد، أبو حامد الغزالي، ومحمد إقبال" وغيرهم من العلماء أولي الفضل على البشرية قاطبة.
وكان للفلسفة الإسلاميّة تأثير كبير في أوروبا المسيحيّة، بحيث أدّت ترجمة النصوص الفلسفيّة العربيّة إلى اللاتينيّة «إلى حدوث تحوّل في جميع التخصّصات الفلسفيّة تقريبًا في العالم اللاتيني في العصور الوسطى»، مع تأثير قويّ بشكل خاصّ للفلاسفة المسلمين المتخصّصين بالفلسفة الطبيعية وعلم النفس والميتافيزيقيا.
وعليه ولأهمية هذا العلم تفتح لكم وكالة مهر للأنباء نافذة علمية مع الباحث والفيلسوف "قصي السعدي" المهتم بهذا العلم والذي يؤكد أنه من شروط النهضة، تبني فلسفة صحيحة معاصرة، والذي أكد غيرَ مرّة، أن المستقبل القريب للحضارة الإسلامية وأنه آن الأوان لتعيد مجدها التليد.
إليكم نص المقابلة:
*_ عُرِّفت الفلسفة بتعاريف كثيرة هل بالإمكان أن تعطينا لمحة عن بعضها, وهل قمت بوضع تعريفاً أو مفهوماً عنها وهل يمكن أن تعرف الفلسفة بتعريف جامع مانع ؟
ج-من الخطأ القول إن للفلسفة تعاريف، الأجدى أن نطلق عليها مفاهيم، لأن التعريف هو وصف للشيء المادي، أما المفهوم هو الصورة الذهنية للأشياء أو للأفكار اللامادية، أما بالنسبة لتعاريف الفلسفة والتي هي في الحقيقة مفاهيم فهي كثيرة , فمثلاً : يقال :
- الفلسفة هي حب الحكمة وهي مؤلفة من كلمتين فيلوس وسوفيا ففيلوس تعني حب أو صداقة أو محبة أما سوفيا تعني الحكمة ويقال إنهما كلمتان لاتينيتان حسب ادعاء الغرب، وهنا اسمح لي أن أعيد الحق إلى أصحابه فكلمة سوفيا هي كلمة "سنسيكريتية" الأصل وتعني حكمة وليست كما يدعي الغرب المتغطرس.
ويقال عن الفلسفة هي التأمل العقلي في الوجود المطلق، وقيل عنها هي القدرة على التغيير من خلال اختراع أفكار ومفاهيم جديدة تختلف عن الواقع المرير، وقال عنها عبد الرحمن بدوي: البحث عن الحقيقة إلا أنه خرج عن المضمون عندما عرف الحقيقة بأنها مطابقة الفكر للواقع، مع العلم ليس كل ما هو حقيقي هو واقعي وليس كل ما هو واقعي هو حقيقي، فما تزال مسألة الحقيقة بالنسبة لنظرية المعرفة وفلسفة العلوم تعدّ الإشكالية الكبرى بالنسبة لها، وقال الكندي : هي علم الأشياء على حقائقها، بينما قال ابن سينا: السعي والجهد لجعل العالم العياني على صورة العالم الذهني، وقال ابن رشد عنها: هي معرفة الصانع من خلال معرفة المصنوعات، كما نجدها في علم الكلام يقول عنها الإيجي في كتابه ( مواقف ) : علم لإثبات العقيدة الدينية من خلال جمع الحجج.
إلا أنني أرى الفلسفة خلاف ذلك، فكل المفاهيم السابقة تقريباً تنم وتصف المنطق، وبعضاً منها يلامس طرفاً من مفهوم الفلسفة، مما رأيت نفسي مدفوعاً لأضع لها مفهوماً جامعاً مانعاً وواضحاً، فقلت : ( هي وضع تصورات ومفاهيم عن الله والطبيعة والإنسان والربط بينهم، يُعتقد أنها الحقيقة أو تلامس الحقيقة أو قد تكون هي الحقيقة بعينها ). لذا نرى أن الفلسفة هي منهج حياة متكامل، والفلاسفة وحدهم من يؤسسون هذا المنهج لأممهم.
*_ لطالما قلت إن الفلسفة هي منهج حياة متكامل فهل برأيك أن كل من أُطلق عليهم فلاسفة هم حقاً فلاسفة أم لك رأياً آخر ؟
ج-بالطبع ليسوا كلهم فلاسفة في مفهومنا الحالي لكنهم في عصرهم سبقوا أبناء جلدتهم وكانت الحياة ليس كما هي الآن من حيث الموجودات أو من حيث الأفكار والوعي، لذا سموا بالفلاسفة، لكننا لو أسقطنا مفهوم الفلسفة حسب عصرنا الحالي وحسب مفهومي لقلنا إن معظمهم هم رجالات منطق فقط، والمنطق ليس فلسفة كما يظن الكثير من الناس، إلا أن الفلسفة تتكئ على المنطق. إن كل من عاش قبل الميلاد هم ليسوا بفلاسفة لو استثنينا بلاد الصين والهند وبلاد فارس , لكن من وضع بذور الفلسفة في باقي أصقاع العالم هو السيد المسيح، صحيح إن السيد المسيح هو رسول من رسل الخالق لكن معظم عباراته فيها الكثير من بذور الفلسفة، ودوما كل شيء يبدأ صغير ثم يكبر ويتطور وهو أهم قانون في هذه الحياة فلا يوجد أي شيء يأتي كبيراً كما هو عليه بشكل فجائي وهذه سنة كونية، ومن بعض أقوال السيد المسيح التي تنم عن الفلسفة ( لا تعبدوا ربان الله والمال لأنك إن خدمت أحدهم ستغضب الآخر -أنتم ملح الأرض ولكن إذا فسد الملح فبماذا يملح ؟ لا يصلح لشيء إلا لأن يطرح خارجاً ويداس من الناس - ليس بالخبز وحده يحيا الانسان - لا تجعلون خمراً جديدة في زقاق عتيقة ) . لكن أفلوطين الذي عاش في القرن الثالث ميلادي يعدّ من مؤسسي الفلسفة اللامادية طبعاً ناهيك عن رجال اللاهوت الذين عاشوا زمن الأساطير، وأفلوطين هذا هو مصري الجنسية وليس روماني كما يدعي الغرب المتغطرس، ثم لحق به القديس أوغسطين في القرن الخامس وسبقه فرفوريوس تلميذ أفلوطين والذي كتب عن أستاذه كتاب التاسوعات لأفلوطين، لكن الفلسفة ترعرعت في عهد الحضارة الإسلامية على يد الكندي وابن سينا والفارابي وابن رشد وابن باجة وغيرهم الكثير، ثم أخذ الغرب عن هؤلاء الفلاسفة الجهابذة فنهضت أوروبا على أكتافهم بينما نحن كفرنا وزندقناهم وزندقنا كل من كان يشتغل بالعلوم أيضاً فدخلت الحضارة الإسلامية عصر الظلمات ولا تزال تعيشها، ولن نخرج إلى النور إلا باتباع فلسفة يضعها لنا فلاسفة عصرنا من أبناء أمتنا، ونأمل أن يرى هؤلاء الفلاسفة النور .
*_ ذكرت حضرتك أن الفلاسفة تضع مناهج حياة، فلو صنفنا تلك المناهج بمدارس أي لو وضعنا المناهج المتشابهة مع بعضها البعض وأطلقنا عليها اسم مدرسة، فكم مدرسة ظهرت إلى الآن منذ فجر التاريخ برأيك ؟
ج-بداية دعني أذكر المصطلح الذي وضعته والذي يجمع بين الله والطبيعة والإنسان وهو الأقانيم الثلاث، فالله هو الإقنيم الأول والطبيعة هي الإقنيم الثاني، والإنسان هو الإقنيم الثالث، هذا أولاً ومن جهة أخرى لو دققنا بالمفهوم الذي وضعته عن مفهوم الفلسفة لوجدنا أنه يجب ان يظهر لدينا ثلاث مدارس، الأولى تعتقد أنها وصلت إلى الحقيقة وأنها تمتلكها إلا أنها امتلكت الوهم، والثانية لامست الحقيقة، والثالثة وصلت إلى الحقيقة بعينها.
إن المدرسة الأولى التي تعتمد الفلسفة اللامادية ومؤسسيها هم رجالات اللاهوت وقد أسسوا فلسفتهم ومدرستهم منذ فجر التاريخ أي منذ ظهور الأساطير شفوياً قبل كتابتها تحريرياً واستمرت آلاف السنين وهي لا تزال مستمرة ومتجذرة في المجتمعات المتخلفة لأنها اعتمدت على الوهم وظنت أنها تمتلك الحقيقة فهي وضعت مفاهيم وتصورات خاطئة عن الإقنيم الأول ( الله ) وأهملت الإقنيمين الثاني والثالث، فالإقنيم الثاني مسؤول عنه الإقنيم الأول ولا يحق للإقنيم الثالث العبث به بل عليه فقط عبادة الآلهة من خلال الطقوس وخدمة الآلهة من خلال تأمين الحاجات اليومية، لذا لم تظهر علوم في تلك العصور الغابرة. بينما المدرسة الثانية والتي تعتمد الفلسفة المادية جاءت برأيي كردة فعل على المدرسة اللامادية اللاهوتية وليست كفعل فأخصت الإقنيم الأول ووضعت مكانه الطبيعة واعتمدت القوة لكنها جاءت بنصف الحقيقة لأنها نظرت إلى الطبيعة والإنسان نظرة واقعية فأنتجت بذلك العلوم وطورت كذلك العلوم التي أخذتها من الحضارة الإسلامية ورواد هذه المدرسة وللأمانة هم الغربيين.
*_ هل لنا أن نتعرف على فلسفتك وإلى أين من هاتين المدرستين تنتمي فلسفتك ؟
ج-في الحقيقة إن فلسفتي لا تنتمي لأي من هاتين المدرستين، فبعد دراستي لهما وجدت ما تحدثت عنه في السؤال السابق فبدأت بتأسيس مدرسة جديدة تعتمد على فلسفة جديدة أقوم حالياً بكتابتها، وقد أصدرت بعضاً من كتبي حولها. دعني أقول لك إن السقف المعرفي الذي أمتلكه حالياً هو أعلى من السقف المعرفي الذي امتلكه السلف بسبب تطور العلوم وغيره، لذا وجدت أنه من واجبي أن أبحث عن الحقيقة، فبدأت بوضع مفاهيم وتصورات عن الأقانيم الثلاث دون إقصاء أي إقنيم حقه، حيث بدأت منذ أكثر خمس وثلاثين سنة بدراسة العديد من العلوم الطبيعية والإنسانية والاطلاع عليها فكانت هي الركيزة الأساسية لأوضح علاقة الدين بالعلم وعلاقة العلم بالدين، وبعبارة أخرى علاقة الإيمان بالعلم وعلاقة العلم بالإيمان. وهنا لا بد لي من ذكر مسألة هامة وهي أن هذه الفلسفة التي أعمل على تأسيس أركانها ليست ببعيدة عن فلسفة الأنبياء التي لا نقول عنها إنها فشلت بل نقول عنها إنها أُهملت بسبب غريزة البشر وعدم وعيهم لما جاءت به الأنبياء، فالأنبياء لم تأتي لتقول أن هناك إله واحد وأن أقيموا له الطقوس واذبحوا له القرابين بل جاءت بمنهج حياة متكامل ولكن على مراحل حسب السنة الكونية التي تحدثنا عنها وهي تطور الأشياء .
*_ بعد اصدار كتابك فلسفة الدماغ الذي نال ضجة كبيرة في الأوساط الفلسفية والمعرفية والثقافية، هل لك أن تطلعنا على أعمالك الفلسفية الحالية ؟
ج-أصدرت كتابي فلسفة الدماغ عام / 2016 / م وقلت حينها لبعض أصدقائي سوف أخط بعد خمس سنوات موسوعة تكشف ما أبغيه بين سطور كتبي هذا، وبدأت أعد العدة ووضعت مخطط تلك الموسوعة وأطلقت عليها اسم ( سلسلة لغة العلم والفلسفة الإنسانية ) وبالفعل بعد خمس سنوات أي في عام / 2021 / م أصدرت كتابي الأول من الموسوعة تحت عنوان ( قصة الخلق وماهية الروح ) تحدثت فيها عن خلق الكون من خمس وجهات نظر الأولى من وجهة نظر التوراة والثانية من وجهة نظر مفسري الكتاب الحكيم _القرآن_ والثالثة من وجهة نظر العلماء الغربيين من خلال دراستي لعلم الكونيات والرابعة من وجهة نظري أما الوجهة الخامسة كنت متردد عن كتابتها في هذا الجزء فقد كنت أرغب ان أضعها في الجزء الثالث من الموسوعة لكني رأيت نفسي مدفوعاً لكتابتها، وتحدثت عن خلق البشر كذلك من الوجهات النظر الخمس وفردت فصلاً كاملاً عن الروح وماهيتها وأعتقد جازماً لم يسبقني على تفسير الروح بشكلها العلمي أحد من قبلي . ومنذ بضعة أيام انتهيت من تأليف الجزء الثاني من الموسوعة تحت عنوان ( المنعطف الأول ) وأقصد به آدم، وحالياً أخط الجزء الثالث تحت عنوان ( المنعطف الثاني ) وأقصد فيه الكتاب الحكيم _القرآن_ وأتمنى من الله أن يعطيني قلة من العمر لأكمل موسوعتي هذه والتي ستكون عبارة عن خمسة أجزاء ذكرنا ثلاثة منها أما الرابع سيكون عنوانه ( حقيقة تاريخ العلم ) وفيه سأعيد الحق إلى أصحابه , وسيكون الجزء الخامس والأخير ( أسس النهضة ).
/انتهى/