وكالة مهر للأنباء- القسم الدولي: في هذه الأسابيع القليلة التي مضت على تولي «دونالد ترامب» رئاسة الولايات المتحدة، يحتدم سوق المناقشات والتكهنات حول المفاوضات المحتملة بين طهران وواشنطن؛ المفاوضات التي بدأت بشكل غير مباشر رغم المعارضة، وأدت إلى "اتفاق العمل المشترك الشامل"، لكن ترامب انسحب منها من جانب واحد في ولايته الأولى رغم تعاون إيران البناء وفرض أشد العقوبات ضد إيران في شكل "الضغوط القصوى" على طهران.
وفي هذا الصدد، رأى المرشد الأعلى للثورة صباح الجمعة (19 بهمن) في تجمع قادة ومنتسبي القوة الجوية والدفاع الجوي للجيش، ضرورة الاستفادة من تجربة "سنتين من التفاوض وتقديم التنازلات دون تحقيق نتائج"، وأضاف: أمريكا خرقت نفس المعاهدة رغم عيوبها وانسحبت منها. ولذلك فإن التفاوض مع مثل هذه الحكومة أمر غير حكيم وغير ذكي وغير شريف ولا ينبغي التفاوض معه.
وبالإضافة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة، ومن خلال نظرة تاريخية إلى سجلات الالتزامات والاتفاقيات الأمريكية مع دول العالم الأخرى، يمكننا أن ندرك عدم جدوى هذه المحادثات، بل ومضرتها، والاتفاقيات الأميركية المنتهكة وغير المكتملة مع العراق هي مثال على تلك الحالات.
لماذا لم تكن أمريكا حليفاً موثوقاً للعراق؟
لقد تأثرت العلاقات بين الولايات المتحدة والعراق في العقود الأخيرة دائمًا بالتدخلات العسكرية، والاتفاقيات السياسية، والاتفاقيات الأمنية. فمن غزو العراق عام 2003 إلى انسحاب القوات الأمريكية والاتفاقيات العسكرية اللاحقة، نكثت واشنطن مرارا وتكرارا التزاماتها واستخدمت العراق كأداة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية. ولم تتسبب هذه السياسات في عدم الاستقرار في العراق فحسب، بل قللت إلى حد كبير من ثقة شعب ومسؤولي هذا البلد في أمريكا. وفي هذا المقال سنتناول أهم حالات انتهاك أمريكا لالتزاماتها تجاه العراق وعواقبها.
1. احتلال العراق ونكث الوعد بإرساء الاستقرار
لقد تم تنفيذ الهجوم الأمريكي على العراق في عام 2003 بدعوى أن هذا البلد يمتلك أسلحة دمار شامل وأنه لا بد من الإطاحة بنظام صدام من أجل الحفاظ على الأمن الدولي. لكن بعد احتلال العراق، أصبح من الواضح أن مثل هذه الأسلحة لم تكن موجودة، وكان الهجوم أكثر من أي شيء يتعلق بمصالح أمريكا الاستراتيجية في المنطقة.
وبعد الإطاحة بصدام، وعدت أميركا بإحلال الأمن والاستقرار في العراق وإعادة بناء بنيته التحتية. لكن أحد الإجراءات الأولى التي اتخذتها الولايات المتحدة كان الحل الكامل للجيش العراقي وقوات الأمن، مما جعل مئات الآلاف من الجنود عاطلين عن العمل. أدى هذا الإجراء إلى تجنيد العديد من هذه القوات في الجماعات المسلحة وسرعان ما انخرطت البلاد في الصرعات المسلحة.
بالإضافة إلى ذلك، شاركت أمريكا بشكل مباشر في العملية السياسية في العراق ووجهت صياغة الدستور الجديد بطريقة أدت إلى تفاقم الخلافات العرقية والدينية. وقد تسبب هذا في صراعات داخلية في العراق حتى يومنا هذا.
2. اتفاقية وضع القوات (SOFA) والانسحاب غير الكامل
وتم توقيع اتفاقية وضع القوات (SOFA) بين العراق وأمريكا عام 2008، وكان هدفها الأساسي تحديد الوضع القانوني للقوات الأمريكية في العراق وشروط تواجدها بعد الاحتلال الرسمي لهذا البلد. وجاء هذا الاتفاق ردا على الاحتجاجات الداخلية واسعة النطاق في العراق على الوجود العسكري الأمريكي والضغوط السياسية داخل البلاد. وفي هذا الاتفاق، التزمت الولايات المتحدة بسحب قواتها من العراق بحلول نهاية عام 2011. وقد اتخذ هذا القرار بعد سلسلة من المفاوضات بين حكومتي البلدين، وآنذاك كان الكثير من العراقيين يريدون الانسحاب الكامل للقوات الأجنبية. وكان اتفاق وضع القوات يعتبر في الأصل بمثابة نهاية للوجود العسكري الأمريكي في العراق وعودة البلاد إلى سيادتها الوطنية.
إلا أن انسحاب القوات الأمريكية من العراق كان غير كامل ومشروط بموجب هذا الاتفاق. ورغم انسحاب القوات الأمريكية المقاتلة رسميا من العراق بنهاية عام 2011، إلا أن القواعد العسكرية الأمريكية في البلاد ظلت نشطة. وسعت الحكومة العراقية إلى الانسحاب الكامل للقوات، لكن عمليا أبقت واشنطن على بعض قواتها في العراق لأسباب مختلفة، بما في ذلك مكافحة التهديدات الإرهابية والحفاظ على نفوذها في المنطقة. وعلى وجه الخصوص، استخدمت الولايات المتحدة قوات خاصة ومستشارين عسكريين ومجموعات غير رسمية لتنفيذ ما يسمى بعمليات مكافحة الإرهاب والعمليات الأمنية.
ولم يكن هذا الانسحاب غير الكامل انتهاكا واضحا لاتفاق وضع القوات فحسب، بل أدى أيضا إلى تغذية انعدام الثقة بين البلدين. وطالبت الحكومة العراقية مراراً وتكراراً بالانسحاب الكامل للقوات الأميركية واحترام سيادتها، إلا أن الولايات المتحدة لم تلتفت إلى هذه المطالب نظراً لمصالحها الاستراتيجية في المنطقة. وأدى التواجد غير الرسمي للقوات الأمريكية واستخدام القواعد العسكرية في عمليات مختلفة إلى استياء العراقيين وزيادة الفجوات في العلاقات بين البلدين.
ومن ناحية أخرى، أظهر هذا الإجراء أنه حتى مع توقيع الاتفاقيات الرسمية، فإن الولايات المتحدة ما زالت غير راغبة في تقليص وجودها في المنطقة، وفضلت الحفاظ على نفوذها باستخدام العراق كقاعدة لأهدافها الإقليمية. وأخيراً، أدت هذه السياسات غير المستقرة وانتهاك أمريكا لالتزاماتها بما يتماشى مع اتفاق وضع القوات، إلى وقوع العراق بشكل متزايد تحت تأثير الولايات المتحدة والقوى الإقليمية الأخرى وابتعاده عن أهدافه المتمثلة في الاستقلال السياسي والأمني.
3. انتهاك السيادة العراقية بالعمليات العسكرية واغتيال القادة
ومن أبرز حالات انتهاك السيادة العراقية من قبل الولايات المتحدة العمليات العسكرية دون استشارة وموافقة الحكومة العراقية. واستمرت هذه التدخلات العسكرية خاصة بعد الانسحاب الرسمي للقوات المقاتلة الأمريكية عام 2011، وانتهكت بشكل واضح سيادة العراق واستقلاله. ومن أهم الأمثلة على هذا الانتهاك للسيادة اغتيال كبار القادة العراقيين دون علم أو موافقة حكومة بغداد. وفي هذا الصدد، اغتيال الفريق الشهيد قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني وأبو مهدي المهندس نائب الحشد الشعبي في يناير 2020 بطائرات مسيرة. وكان الهجوم الأميركي قرب مطار بغداد من أبرز التصرفات المثيرة للجدل التي ألقت بظلالها الكاملة على سيادة العراق.
ولم تكن هذه العمليات انتهاكًا واضحًا للقوانين الدولية فحسب، بل أثرت أيضًا بشكل مباشر على العلاقات بين العراق والولايات المتحدة. وكان رد فعل الحكومة العراقية وشعبها قويا على هذا الهجوم، وتم إصدار قرار في البرلمان يطالب بالانسحاب الكامل للقوات الأجنبية، وخاصة الأمريكية، من العراق.
وقد تسببت هذه الحادثة في شعور العديد من العراقيين بأن سيادة بلادهم مهددة من قبل القوات الأجنبية ولا تحترم مبادئ حقوق السيادة، وتنفذ العمليات العسكرية على أراضي بلادهم. في هذا الوضع، كانت الحكومة العراقية في وضع صعب، لأن الشعب والسلطات العراقية كانت أيضًا ضد هذا الإجراء وأدركت أكثر فأكثر حقيقة أن سياسات واشنطن تهتم بمصالحها الخاصة أكثر من اهتمامها بالحفاظ على استقلال العراق وأمنه.
4. الضغوط الاقتصادية واستغلال النفوذ المالي
وبالإضافة إلى التدخلات العسكرية في العراق، تستخدم أميركا أيضاً أدواتها الاقتصادية والمالية على نطاق واسع للضغط على حكومة بغداد والسيطرة على السياسات الاقتصادية للبلاد. ومن أبرز الأمثلة على هذه الضغوط الاقتصادية العقوبات والتهديدات الاقتصادية ضد السلطات العراقية والمؤسسات المختلفة. ومن خلال التهديد بتجميد أصول العراق في البنوك الأمريكية ومنع وصول هذا البلد إلى النظام المالي العالمي، حاولت أمريكا إقناع الحكومة العراقية الضغط عليها وإجبارها على القبول بسياساتها. وتزايدت هذه الضغوط بشكل حاد، خاصة بعد اغتيال الشهيد سليماني وزيادة التوتر بين البلدين، وتسببت في معاناة العراق من مشاكل اقتصادية خطيرة.
5. الاستخدام الفعال للعراق في التوترات الإقليمية
أحد الجوانب المهمة لانتهاك الولايات المتحدة لسيادة العراق هو استخدام هذا البلد كأداة في التوترات الإقليمية. ونظراً لموقعه الاستراتيجي في قلب الشرق الأوسط، فقد تم استخدام العراق دائماً كأداة مهمة في السياسات الأمريكية في المنطقة. وبعد سقوط نظام صدام واحتلال العراق عام 2003، استخدمت أمريكا هذا البلد كقاعدة للتعامل مع تهديداتها الإقليمية وتعزيز مصالحها الجيوسياسية.
هذا الاستخدام الفعال للعراق في التوترات الإقليمية، وخاصة في علاقات الولايات المتحدة مع إيران وسوريا والجماعات المسلحة الإقليمية، جعل العراق مباشرا التورط في صراعات ومسابقات خارج المنطقة وسوف تتضرر سيادتها بشدة. كما أصبح العراق أداة لتعزيز النفوذ الأمريكي في المنطقة من الناحية الاقتصادية. ومن خلال استخدام العراق كسوق للسلع الأمريكية وكمركز تجاري في المنطقة، حاولت واشنطن زيادة نفوذها في الدول المجاورة.
خلاصة القول
منذ عام 2003، عندما احتلت الولايات المتحدة العراق، تظهر علاقاتهما أن واشنطن انتهكت التزاماتها بشكل متكرر واستخدمت البلاد كأداة لاستغلالها. وقد تم استخدامه لتعزيز مصالحها الاستراتيجية. سواء أثناء احتلال العراق وتقديم الوعود بإعادة الإعمار، أو أثناء انسحاب القوات أو أثناء الهجمات العسكرية والضغوط الاقتصادية، أظهرت أمريكا أنها لا تحترم سيادة وسيادة العراق؛ السياسات التي زادت من عدم الثقة تجاه أمريكا في العراق ووفرت الأساس لتوسيع علاقات العراق مع القوى الإقليمية والدولية الأخرى.
وفي نهاية المطاف، فإن مستقبل العلاقات العراقية الأميركية يعتمد على ما إذا كانت واشنطن مستعدة لاحترام السيادة الوطنية للعراق والامتناع عن التدخل في شؤونه الداخلية. أو تستمر في انتهاكها وتسبب المزيد من عدم الاستقرار في المنطقة.
والآن، وبالنظر إلى عقدين من الزمن من انتهاك أمريكا لوعودها في العلاقات مع العراق وتجاهل استقلال بغداد وسيادتها، يتبادر إلى الذهن السؤال: هل يمكن الوثوق بترامب؟ والجلوس على طاولة المفاوضات للحصول على الامتيازات؟