وكالة مهر للأنباء- قسم الشؤون الدولية: خلال الأسابيع القليلة التي تلت تولي "دونالد ترامب" رئاسة الولايات المتحدة، اشتعلت النقاشات والتكهنات حول المفاوضات المحتملة بين طهران وواشنطن؛ تلك المفاوضات التي بدأت سابقًا، رغم المعارضة، بشكل غير مباشر وأسفرت عن الاتفاق النووي، لكن ترامب، خلال فترة رئاسته الأولى، انسحب منها بشكل أحادي رغم التعاون البناء من جهة إيران، وفرض أشد العقوبات ضدها في إطار مايسمى "الضغط الأقصى".
في هذا السياق، اعتبر قائد الثورة الإسلامية، صباح يوم الجمعة 7 فبراير، خلال لقائه بقادة القوات الجوية والدفاع الجوي للجيش، أن الاستفادة من تجربة "سنتين من المفاوضات وتقديم التنازلات وعدم الوصول إلى نتيجة" أمر ضروري، مضيفًا: "أمريكا نقضت نفس المعاهدة رغم العيوب التي كانت بها وانسحبت منها. لذلك، فإن التفاوض مع دولة غير عاقلة وغير ذكية وغير شريفة هو أمر غير منطقي، ولا ينبغي التفاوض معها."
بالإضافة لذلك، من خلال النظر إلى التاريخ، يمكن إدراك عدم جدوى وحتى الأضرار الناتجة عن هذه المفاوضات، حيث تعتبر الاتفاقيات المتعددة التي نقضتها أمريكا مع فلسطين مثالًا على ذلك.
نكث العهود المتكرر والسياسات المتناقضة لأمريكا تجاه فلسطين
تُعتبر قضية فلسطين واحدة من أكثر الأزمات الدولية تعقيدًا، حيث كان للولايات المتحدة، كأحد اللاعبين الرئيسيين، دورًا مهمًا فيها.
على مدى عقود، ادعت أمريكا مرارًا لعب دور الوسيط، من خلال تقديم خطط السلام ودعم المفاوضات بين الكيان الصهيوني وفلسطين. ومع ذلك، تُظهر التاريخ أن واشنطن قد نقضت تعهداتها في عدة مناسبات، متبعةً سياسات أحادية الجانب تصب في مصلحة الكيان الصهيوني وتضر بالجانب الفلسطيني.
كما أن الجرائم الأخيرة التي ارتكبها الكيان الصهيوني في غزة تمت تحت مظلة الدعم الأمريكي، فقد شهد العالم على مدى العقود الماضية دعمًا واضحًا من أمريكا للجرائم التي يقوم بها هذا الكيان. فمنذ تأسيس الكيان الصهيوني في عام 1948، كانت أمريكا واحدة من أهم الداعمين لهذا الكيان في المجالات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية، مما غيّر فعليًا توازن القوى لصالح تل أبيب. في الوقت نفسه، تدعي أمريكا أنها تعمل كوسيط محايد لحل النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، لكن سياسات واشنطن في خرق تعهداتها دائمًا ما أثبتت عكس هذا الادعاء.
أ) خرق أمريكا للتوافق في كامب ديفيد 1978 وقضية فلسطين
يُعتبر توافق كامب ديفيد 1978 واحدًا من أهم الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالنزاع بين العرب والكيان الصهيوني، والذي تم بين مصر وهذا الكيان بوساطة أمريكية. تم توقيع هذا الاتفاق خلال رئاسة "جيمي كارتر" بين "أنور السادات" رئيس جمهورية مصر و"مناحم بيغين" رئيس وزراء الكيان الصهيوني، وكان يتكون من قسمين رئيسيين: أحدهما يتعلق بالسلام بين مصر والكيان الإسرائيلي، والآخر يتعلق بقضية فلسطين. على الرغم من أن القسم الأول أدى إلى تحقيق السلام بين مصر والكيان الصهيوني، إلا أن القسم الثاني المتعلق بحقوق الفلسطينيين لم يُنفذ أبدًا بسبب خرق تل أبيب وواشنطن للعهد.
فبحسب هذا الاتفاق، كان من المقرر منح الفلسطينيين الحكم الذاتي، وإجراء مفاوضات لتحديد الوضع النهائي للضفة الغربية وقطاع غزة خلال السنوات الخمس التالية. ومع ذلك، سرعان ما نقض الكيان الصهيوني هذه الالتزامات، واستمر في بناء المستوطنات واتباع سياسات توسعية غاصبة، مما جعل تنفيذ هذا الجزء من الاتفاق غير ممكن. كما أن أمريكا، على الرغم من وعودها، لم تمارس أي ضغط على الكيان الصهيوني لتنفيذ بنود الاتفاق. في الواقع، بعد السلام بين مصر والكيان الإسرائيلي، لم يعد لواشنطن اهتماماً بدعم حقوق الفلسطينيين، وتجاهلت فعليًا هذا الجزء من الاتفاق.
أدى هذا الخرق من قبل أمريكا إلى أن يخلص الفلسطينيون، وخاصة منظمة التحرير الفلسطينية، إلى أن واشنطن ليست وسيطًا محايدًا. ونتيجة لذلك، أصبحت هذه التجربة واحدة من العوامل التي زادت من عدم ثقة الفلسطينيين في المفاوضات المدعومة من أمريكا. أظهر فشل الجانب المتعلق بالفلسطينيين في اتفاق "كامب ديفيد" أنه بدون ضغط حقيقي على الكيان الصهيوني، لا يمكن الوصول إلى حل عادل لقضية فلسطين.
بالإضافة إلى الدعم الذي قدمته أمريكا تحت إدارة بايدن للكيان الصهيوني في حرب الإبادة في غزة واستشهاد أكثر من 47 ألف فلسطيني، يمكن اعتبار اقتراح "دونالد ترامب" رئيس الولايات المتحدة الجديد بترحيل الفلسطينيين من غزة إلى مصر والأردن استمراراً لخرق اتفاق كامب ديفيد من قبل الأمريكيين.
ب) اتفاق أوسلو (1993) وخرق أمريكا للعهد
تم توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية (المنظمة) والنظام الصهيوني تحت إشراف الولايات المتحدة، وكان من المفترض أن يؤدي إلى تشكيل دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967. وفقًا لهذا الاتفاق، كانت أمريكا ملتزمة بدعم تنفيذ بنوده. ومع ذلك، في الواقع، لم تمنع واشنطن توسيع المستوطنات الصهيونية، على الرغم من تعهدها بتسهيل عملية السلام.
كما قامت أمريكا بتقييد المساعدات المالية للسلطة الفلسطينية، في حين كان من المفترض أن تدعم التنمية الاقتصادية في المناطق الفلسطينية. بالإضافة إلى ما ذُكر، التزمت أمريكا الصمت تجاه انتهاكات الكيان الصهيوني، بما في ذلك اغتيال القادة الفلسطينيين والانتهاكات المتكررة للاتفاقيات الأمنية.
ج) تجاهل "خارطة طريق السلام" (2003)
في عام 2003، قدمت الولايات المتحدة، بالتعاون مع المجموعة الرباعية (التي تضم الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وروسيا، والأمم المتحدة)، "خارطة طريق السلام، التي كانت تهدف إلى تحقيق حل الدولتين. ومع ذلك، لم تلتزم أمريكا بتعهداتها، وسمحت للكيان الصهيوني برفع وتيرة الاستيطان، مما قضى فعليًا على إمكانية تحقيق حل الدولتين.
بالإضافة لذلك، فرضت أمريكا عقوبات صارمة على الحكومة الفلسطينية، خاصة بعد فوز حماس في انتخابات 2006، في حين كان من المفترض أن تدعم العملية الديمقراطية. كما أنها، بدلاً من أن تكون وسيطًا محايدًا، وقفت إلى جانب الكيان الصهيوني في دعم غير مشروط لتل أبيب، مما عرقل عملية السلام وأوصلها إلى طريق مسدود.
د) الخروج من الاتفاقيات الدولية في عهد ترامب
شهدت إدارة دونالد ترامب خلال ولايته الأولى أحد أبرز الأمثلة على خرق أمريكا للعهد. ومن أهم هذه الحالات:
1. نقل السفارة الأمريكية إلى القدس (2018): كان هذا الإجراء مخالفًا لقرارات الأمم المتحدة، وأظهر أن أمريكا لم تعد ملتزمة بحل الدولتين.
2. قطع المساعدات المالية لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا): أدى هذا الإجراء إلى ضغط اقتصادي شديد على الشعب الفلسطيني.
3. "صفقة القرن" وإلغاء حقوق الفلسطينيين: الخطة المعروفة بصفقة القرن التي قُدمت في عام 2020، حرمت الفلسطينيين فعليًا من حقهم في إقامة دولة مستقلة.
4. التهجير القسري للفلسطينيين: في الأسابيع الأولى من ولايته الثانية، اقترح ترامب أيضًا التهجير القسري للفلسطينيين من غزة إلى الأردن ومصر؛ وهو اقتراح واجه ردود فعل قوية من العالم، وعلى الرغم أنه أكثر شبهًا "بالجعجعة" منه إلى مشروع قابل للتنفيذ، لكنه يعكس استمرار خرق أمريكا للعهد.
نتائج الخيانات الأمريكية؛ من عدم الثقة بوعود البيت الأبيض إلى تعزيز المقاومة
يمكن تحليل عواقب نكث أمريكا للعهود تجاه فلسطين من عدة محاور رئيسية؛ فقد أدى الانتهاك المتكرر للتعهدات من قبل واشنطن إلى عدم قبول الفلسطينيين وحتى بعض الدول العربية لأمريكا كوسيط محايد. وقد دفع هذا الأمر العديد من الدول إلى البحث عن حلول بديلة، مثل جهود الصين وروسيا للدخول في عملية السلام.
من جهة أخرى، أدت السياسات المتناقضة لأمريكا إلى تعزيز جماعات المقاومة الفلسطينية مثل حماس والجهاد الإسلامي، حيث لم يعد لدى الشعب الفلسطيني أمل في عملية المفاوضات. ونتيجة لذلك، زادت الاشتباكات المسلحة وتوترت الأوضاع الأمنية في المنطقة، كما يتضح من عملية "طوفان الأقصى" ، مما أدى إلى إدخال الغرب والكيان الصهيوني في حالة من التوتر والصراع الكبير.
أيضًا، كانت إحدى النتائج المباشرة لهذا الخرق هي تضعيف موقع السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس. فقد فقدت هذه السلطة، التي كانت تؤكد على أهمية المفاوضات السلمية، مصداقيتها بين الشعب الفلسطيني بسبب عدم تحقيق وعود أمريكا.
بشكل عام، تُظهر تاريخ العلاقات بين أمريكا وفلسطين أن واشنطن قد نقضت تعهداتها مرارًا، وبدلاً من أن تلعب دور الوسيط المحايد، قامت بشكل علني بتأمين مصالح الكيان الصهيوني، مما أدى إلى زيادة عدم الاستقرار في المنطقة. في الظروف الحالية، فإن السبيل الوحيد لتحقيق سلام دائم هو إنهاء السياسات الثنائية لأمريكا واتباع نهج واقعي وعادل تجاه قضية فلسطين؛ وهو واقع يبدو تحقيقه بعيد المنال، خاصة في ظل أوهام ترامب بتهجير سكان غزة.
/انتهى/