٢٢‏/٠٩‏/٢٠١٥، ١:١٥ م

تفكيك الحراك المطلبي في لبنان

 تفكيك الحراك المطلبي في لبنان

هادي قبيسي*- الثقافة التي ألمحنا إلى بعض جوانبها تؤشر إلى وجود مشكلة فعلية، فمن جهة يتم تشكيل صورة ونموذج فوضوي عبثي لحركة يطلب منها الوصول إلى حل للفوضى القائمة في النظام اللبناني، ومن ناحية أخرى ثمة تساهل في إضفاء صبغة ثقافية محددة بما يقصي شرائح رئيسية ووازنة عن تأييد الحراك ناهيك عن المشاركة فيه.

تقييم أي ظاهرة سياسية طارئة لا يمكن أن يحمل قيمة موضوعية إلا عندما تؤخذ من زوايا نظر متعددة تطال مجموعة عناوين تحليلية تتناسب والمشهد القائم. يشتغل تسييس الظاهرة والموقف منها على إعطائها أحادية اللون، إما لون طهراني مثالي وإما يعمل على شيطنتها بالكامل، أو يشتغل بانتقائية اختزالية ليوجه وعي المتلقي نحو الغايات التي يريد، مغفلاً كل ما يهفت سرديته المصممة على قياسه الخاص. 
الظواهر هي الأخرى تتفاوت في انضباطيتها ووضوحها لتصل إلى حدود الفوضوية والتشابك، وعند فقدان الإطار الصلب وزيادة نسبة الفوضى تدخل العوامل المؤثرة الخارجية والداخلية لتأخذ حصتها في الميدان وتتناول ثماره. 
أقترح مقاربة رباعية لتفكيك ظاهرة الحراك المطلبي القائمة حالياً كشغل إضافي يوضع على ميزان لبنان المثقل بحرائق الإقليم. تتقوم هذه المقاربة بـ: الإطار، الدينامية، الزمان، العوامل. هي محاولة للوصول إلى مشهد متكامل، وأيضاً للخروج بفائدة منهجية وإن كانت متواضعة، قد تفيدنا في مقاربة قضايا أخرى. 


الإطار 
تتقوم البنية هنا بثلاث: القوة، العلاقات، الثقافة. ما هي القوة التي يشكلها الحراك القائم، وتقاس بالقدرة على الاتصال، خبرة القيادة، المال، المصداقية. هذا أول مدخل لنا، ففي قدرة الاتصال نلاحظ التركيز الإعلامي لدى وسائل إعلامية محددة تستثمر إعلامياً وسياسياً وتوصل مشهد الحراك إلى الخبر الأول والتغطية المتواصلة. أما خبرة القيادة فمتفاوتة بحيث أدت للفوضى والصراعات الداخلية وتشتت الجهد ولم تصل إلى حد بلورة قيادة واضحة ولو بالحدود الدنيا، رغم توفر بعض الناشطين على تجارب سابقة وعلاقات دولية إعلامية وسياسية فاعلة. بخصوص التمويل توفرت مبالغ عبر دعم سياسي من جهات مختلفة بطرق غير مباشرة على شكل تبرعات غطت مصاريف ترويج وإعلام لبعض الجهات المنظمة دون غيرها، أضر بعض الأسماء في المستوى القيادي بمصداقية الحراك مضافاً إلى الشكوك حول خلفيات التمويل، إلا أن الشعارات المطلبية ووجود شخصيات ذات مصداقية ساهم في رتق الفجوات الناشئة، واستفادت الأطراف المشتبه بها وبخلفياتها المالية والسياسية من هذا التنوع وفوضى القيادة لتحفظ حضورها ووجودها بمساعدة من الإعلام المستثمر، فيما خسر الحراك ككل مشاركة شعبية واسعة من فئات ظلت قلقة ومتوجسة. 
العنوان الثاني في الإطار هو العلاقات، فارتباط الناشطين الفاعلين بتيارات ومنظمات وجهات دولية هو جزء من الإطار الذي يحدد التموضع السياسي لهذا الحراك. إلا أن التعددية والفوضى والتقلب الحاصل في برنامج العمل يمنع تحديد هذا التموضع بدقة، فهو مساحة تشبه إلى حد كبير السوق الشعبي التقليدي في القرى، حيث يبيع كلٌّ ما يريد، وهنا تنفتح الظاهرة على احتمالات التوظيف غير المباشر والاستدراج في قادم الأيام تبعاً لموازين القوى داخل الدوائر المنظمة، وارتباطاً بنوايا الباعة الدوليين الجوالين وما يريدون عرضه في الساحة. 
العنوان الثالث والأخير في نطاق الإطار هو الثقافة. ما هي الأفكار التي يروج لها المتحركون؟ وما هي الرموز التي يكررونها؟ وما هي حُمالة الخطابة السياسي الذي يقدمونه؟ الحمولة الأساسية هي القضايا المعيشية، فقد تم قطع الاتصال مع البيئة الإقليمية كلياً، وتمحور الانشغال في الدائرة الضيقة، رغم أننا في زمن العولمة التي تدرب كثير من الناشطين "المدنيين" على تبنيها في المفاهيم والسلوك، كأرضية تامة لنشاط منظمات المجتمع المدني ذات التمويل الخارجي، ورغم وصول الوضع المعيشي الداخلي إلى الاختناق إلا أن التصويب اقتصر على الأسباب الوسيطة مغفلاً الأسباب الجذرية والقوى والعوامل الكبرى المؤثرة في تركيب البنى الاقتصادية والاجتماعية: فلا الدور الإقليمي في فرض الحريرية السياسية وتعديل نظم المحاصصة تم تناوله، ولا الدور الأمريكي في منع دخول المشاريع التنموية الخاصة بتأهيل البنية التحتية حيز التنفيذ وصل إلى مكانه الصحيح في الخطاب. هذا هو السقف المتاح والمسموح به للحراك "المدني" الذي لا يحق له رفع رأسه إلى مستوى قضايا الأمن القومي التي تحدد تفاصيل المعاش والحياة في الأساس. يبقى هذا الخطاب متعاملاً مع النتائج عاجزاً عن مقاربة الأسباب، وهو يقدم مساحة للحركة لا للحل الفعلي، رغم صعوبة تحققه، إلا أن إغفال الأسباب الحقيقية يطرح السؤال حول تصالح "المتحركين" معها، ما يجعل حراكهم مجرد سكة لتحصيل موقع سياسي وإشباع طموح فردي لا أكثر. 
الرموز المستخدمة تجمع بين الغضب، الفوضى، اللاعنف، البذاءة، الليبرالية، في مركب دلالي متناقض لا يستطيع توفير قوة دفع للخطاب المطلبي، فلا هو يحمل لون القوة والتغيير بالإكراه ولا هو يعمل صبغة المناقبية أو المصداقية الأخلاقية، على أن البذاءة تستخدم حتى الآن كشكل من اشكال التعبير عن الذات من ناحية وكوسيلة لاستدراج النظام إلى ممارسة العنف، والأهم هو فتح الفضاء الأخلاقي من خلال تهشيم الحدود المنطقية والأخلاقية تحت ذريعة كلن يعني كلن، وسواها من شعارات مبتذلة، وقد تم الباس الحراك والمشاركين فيه، على تنوعهم، هذه الصبغة قسراً من خلال اللافتات ووسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الذي يفتش عن كل ما هو ملفت وغريب. 
الثقافة التي ألمحنا إلى بعض جوانبها تؤشر إلى وجود مشكلة فعلية، فمن جهة يتم تشكيل صورة ونموذج فوضوي عبثي لحركة يطلب منها الوصول إلى حل للفوضى القائمة في النظام، فلماذا الإصرار على هذه الصورة التي تساهم في تفريغ المحتوى أكثر من التعبئة والزخم؟ وهل هذه هي إحدى أدوات ضبط الحراك ورسم السقف المحدد له؟ ومن ناحية أخرى ثمة تساهل في إضفاء صبغة ثقافية محددة بما يقصي شرائح رئيسية ووازنة عن تأييد الحراك ناهيك عن المشاركة فيه. 


الدينامية 
تتقوم الدينامية بعناوين ثلاثة كذلك: التأثير، النتائج غير المقصودة، المخاطر. بعد اللمحة العاجلة للإطار نمضي لتقييم فعاليته، فما هو التأثير الحالي والمتوقع لهذا الحراك؟ نظراً لأهدافه المعلنة، إلى الآن ووفق الأسقف المفروضة ذاتياً نتيجة ضعف الزخم أو محلياً من القوى السياسية أو خارجياً من القوى الإقليمية والدولية ينشط الحراك في دائرة تحتاج لنفس طويل للعبور إلى نتائج واقعية، فبالوسائل اللاعنفية والشعارات البذيئة ومشاهد الكرنفال تحقق كسر هالة النظام دون أن تمارس حالة احتجاجية فعلية تجبر القوى الرأسمالية على الخضوع، بل إنها تساهم في تفريغ الضغط النفسي اكثر من مراكمة زخمه. 
العنوان الثاني في الدينامية هو النتائج غير المقصودة، والتي ينبغي النظر إليها كجزء من المشهد الواقعي، ومنها إيجابي وسلبي، فمن الإيجابيات كشف بعض رؤوس الليبرالية عن وجهها القبيح للدفاع عن مكتسباتها وثرواتها المقدسة، أما في السلبي فهو المزيد من الإحباط لدى شرائح واسعة كانت تتمنى وصول الاحتجاج إلى مستوى يصنع التغيير الفعلي وهذا يؤدي إلى مزيد من المساكنة بين الفقراء وأمراء برامج الإفقار في قادم الأيام. 
النقطة الثالثة والأخيرة هي تحليل وتقييم المخاطر. في السياسة نقرأ احتمال تفريغ البلاد مما تبقى فيها من انتظام عام، دون تقديم بديل واقعي وبالتالي فتح الباب أمام التدخل الخارجي لفرض الحلول، كذلك احتمال جر الرأي العام وفئات شبابية فاعلة نحو إهمال القضايا المركزية ومصادر الخطر الكبرى على لبنان لصالح القضايا المطلبية اليومية. أما على المستوى الأمني فانعدام القيادة الواضحة والموحدة وهيولانية الإطار تبقيان المجال مفتوحاً أمام احتمالات الصيد في الماء العكر الآن أو في لحظة مؤاتية أو في حال حصول تقلبات محلية أو إقليمية، خصوصاً وأن الاستفزاز اللفظي والخطابي والميداني انتقائي في كثير من الأحيان بحيث يستدرج ردود فعل عنفية تشكك في خلفية الحراك. 
أما ثقافة اسقاط المقدسات بالتدريج فهي لا تنتج سوى الفوضى والمآسي. ولا شيء يجمع بين استهداف نظام سياسي فاسد ورموزه المتهمين بالفساد وبين الشغل على تهشيم المقدسات الأخلاقية والدينية الواحدة بعد الأخرى، والتي تنبئ بالتحول إلى مخاطر أمنية في حال وصلت للمس بعناوين عالية الحساسية. والأهم في هذا السياق هو الترويج لمشروع الدعم والتمويل الأمريكي وكسر الحواجز تجاه الدعم الأمريكي، وقد جرت محاولات خجولة حتى الآن في هذا الاتجاه، لم تلق التجاوب المطلوب، إلا أن اللحظات القادمة ستظهر مدى الإصرار لدى فئات في الجهات المنظمة وحتى لدى قوى في النظام على تقديم أمريكا كجهة تدعم الحراك والمطالب. 


الزمان 
التوقيت، المدة، الزخم، البرنامج هي العناوين المشكلة للباب الثالث في المقاربة الرباعية للظاهرة، ففي التوقيت من حيث ابتداء أزمة النفايات ثمة أسئلة حول أسباب جمود النظام عن تفادي المبادرة للحلول رغم المعرفة المسبقة بحتمية الوصول إلى الأزمة، فهل كان ثمة أحد يريد فتح المسرح لعملية جديدة؟ هذا في التفصيل. أما في المشهد العام فثمة قوة أساسية في لبنان تقدم يومياً مجموعة من الشهداء دفاعاً عن الجميع فيما ينشغل الساسة في المحاصصات ومراكمة رأس المال وتنشغل القوى الإقليمية والدولية في استغلال الاختناق الداخلي لفرض رئيس تابع لها. أما في المدة فامكانية استمرار الحراك حتى تحقق الأهداف المرفوعة أمامه عقبات متنوعة محلية وإقليمية، فالإصلاح كان ممكناً في السابق حتى دون محاسبة السارقين والمستغلين وإن بحدود، فقد أتيحت فرص لإصلاح الكهرباء وبناء مشاريع مياه وإصلاح بنى تحتية مختلفة بمبادرة إيرانية أو صينية وكذلك التمويل الخليجي كان يضخ في البلاد بالفائض الهائل المتوفر لكن في مجالات سياسية بحتة، إلا أن البرامج الأمريكية المكرسة لمحاصرة المقاومة في الداخل كفك كماشة يعضد الجهد الصهيوني والتكفيري في دائرة إطباق الحصار منعت هذه الإصلاحات وستمنعها في المستقبل. 
الزخم من ناحية أخرى يحتاج إلى تحقيق إنجازات فعلية ولا يتراكم في حضن التعبير العابث، ولذلك فإن الزخم سيتراجع إلا في حال تغير الميدان أو البيئة، فقد يشعل استفزاز ما حالة اضطراب مصحوبة بتدفق فئات جديدة للمشاركة أو تقرر جهة ما استيعاب الحراك من خلال اغراقه بزخم جماهيري منتمٍ أو منتفع، ورغم أن الطابع المسالم حتى الآن قد قلل من هواجس القوى والشرائح المشككة على اختلاف دوافعها وخلفياتها وأجراس انذارها، إلا أنه يفقد الحراك بشكل طبيعي جزءاً هاماً من التأثير. 
البرنامج هو النقطة الأخيرة في عنصر الزمان، ففي المستقبل القريب استحقاقات متنوعة ومناسبات سياسية وجماهيرية ودستورية يمكن ان تمارس تأثيرات متفاوتة ومتنوعة على الظاهرة التي نقاربها، وتنبغي قراءة الإحتمالات المختلفة بهذا الشأن. 


العوامل 
تنقسم إلى محلية واقليمية ودولية. الحراك أشغل القوى المحلية خصوصاً تلك التي يشكل النظام مجالها الحيوي المركزي. أما القوى الإقليمية فهي منشغلة بالحرائق المختلفة ومتنازعة تنتظر أي تقلبات أو ابتداعات أمريكية قد تركب موجتها لتسجل نقاطاً في المنافسة القائمة. أما القوى الدولية وأمريكا بالتحديد فلا تزال قادرة على إعطاء بعض الوقت للبنان علها تخفف الضغط على حلفائها السلفيين التكفيريين في سوريا، وربما تلجأ إلى الصيد في ماء الحراك العكر لفتح ثغرة أمنية داخلية بعد إطباق المقاومة على الحدود بشكل كبير، وهي تملك الخبرة والقدرة على إحداث الفوضى وافتعالها بأشكالها ومستوياتها المختلفة، ولذلك فإن القيام بأي حراك تغييري حقيقي ينبغي أن يكون لأمريكا حصة أساسية في شعاراته الهجومية، أما ارتباط بعض الناشطين بالسفارة بأشكال مباشرة أو غير مباشرة فهي سقطة لا تجبر، دون أن تنجر هذه الصفة على جمهور المعترضين على النظام اللبناني المتفسخ والفاسد.

* باحث وصحافي لبناني
 

رمز الخبر 1857797

سمات

تعليقك

You are replying to: .
  • captcha