٠٨‏/١١‏/٢٠٢١، ٨:٤٨ م

في ذكراه السابعة؛

جورج جرداق.. رحل لكن اثره باقي

جورج جرداق.. رحل لكن اثره باقي

رحل الاديب جورج جرداق في مثل هذا اليوم قبل سبع سنوات بعد ان عثر على الانسانية في قلب عليّ بن ابي طالب (ع)، ومكث هناك يحاول صياغةَ خلجاته واحاسيسه على شكل قصيدة ونص ادبي.

وكالة مهر للأنباء - عباس خامه يار*: جورج جرداق، استحقّ منا كل تقدير في حياته، ويستحقّ اليوم اكثر، لما تركه من ارثٍ أدبيٍّ تاريخيٍّ يزخر بالعشق والمحبة والاخلاص، فهو كان الباحث عن الانسانية خارج حدود الدين والمذهب والطائفة.

ومرت عدة سنوات، وغالباً ما يُنسى الراحلون كما لو انهم لم يكونوا بيننا يومًا، هي صيغة الحياة وصيرورتها التي تقتضي تخطّي الامس، لاستقبال الغد.

لكنّ الانسان يقارعُ حلقة الفناء التي تلفّه في النهاية، من خلال باكورة عطاءاتٍ وآثارٍ يتركها في نفوس اللاحقين. فلا يُنسى، ولا ترحل ذكراه.

جورج جرداق استحقّ منا كل تقدير في حياته، ويستحقّ اليوم اكثر لما تركه من ارثٍ ادبيٍّ تاريخيٍّ يزخر بالعشق والمحبة والاخلاص، فهو كان الباحث عن الانسانية خارج حدود الدين والمذهب والطائفة

لقد عثر جورج على الانسانية في قلبِ عليّ بن ابي طالب (ع). ومكثَ هناك يحاول صياغةَ خلجاته واحاسيسه على شكل قصيدةٍ ونصٍّ أدبيّ.

هو جورج جرداق الاديب اللبناني المسيحي، الكاتب، الشاعر، الكاتب المسرحي، والمبدع المعروف الذي قضى في بيروت في غروب عاشوراء من العام 2014 عن عمرٍ يناهز 83 عامًا.

عرفه الايرانيون وشيعة العالم قاطبةً ومسلموه ومسيحيوه، لقد استحقّ عن حقّ لقب "عاشق الإمام علي (ع)"، كان لكتابه الذي ألّفه في 5 أجزاء "الامام علي صوت العدالة الإنسانية"، أثره العلمي والأدبي الخالد. وقد طبع منذ أكثر من نصف قرن، وبيع منه حتى اليوم أكثر من مليوني طبعة في سائر أنحاء العالم.

"علي وحقوق الإنسان"، "بين عليّ والثورة الفرنسية"، "عليّ وسقراط"، "علي وزمانه"، "علي والقومية العربية"، وأخيرًا ملحق هذه المجموعة باسم "روائع نهج البلاغة"، هي عناوين المجلدات الخمسة لهذا الكتاب المميز والفريد للمبدع الموالي لشخصية مولى الموحّدين وسيد المتقين علي بن ابي طالب (ع)؛ هذه الشخصية الفوق الانسانية المتعالية.

في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وضمن مهمتي الثقافية في لبنان، كانت لي معه زياراتٌ وفعاليات، كان الكتاب ومكتبته الشخصية يشغلان الحيّز الاكبر من تفكيره، كان يعيش وحيدًا، وكان الكتاب أنيسه الوحيد ورفيقه الذي يحتل كل أركان البيت والمكتب وحياته كلها، إذ كان من الصعب إيجاد مكانٍ للجلوس في غرفته، لذا فإنّ على الزائر ان يزيح الكتب من هنا وهناك ليفسح مجالًا، ولو ضيقًا، للجلوس في صحبة هذا المفكر الكبير.

في منتصف التسعينيات، ارتضى اخيراً السفر إلى ايران لكي يلتقي الإيرانيين الذين كانوا يعرفونه منذ سنواتٍ طويلة، الا انه وافق على هذه الدعوة على مضض، اذ انه حتى ذلك الحين، لم يكن قد سافر بالطائرة ابدًا، وكانت لديه مخاوف من السفر بهذه الوسيلة الجوية.

ولهذا السبب، فإنه فضّل اقتراحنا الآخر بالسفر عبر البر، وهكذا دخل البلاد بعد طيّ مسافة طويلة من لبنان إلى ايران، وبعد عبور مدن مختلفة، من بيروت وحلب وعدة مدن تركية، ليتمكن اخيرا من ان يكون حاضرا بين محبيه في مدينة قم الايرانية.

لقد كان لتلك الرحلة اثرٌ عاطفي كبير في نفسه، وكان مذهولا امام هذا العدد من المحبّين. وبعد ايامٍ من اللقاءات والحوارات مع علمائنا ومفكرينا، عاد إلى بلاده، قاطعًا تلك المسافة الطويلة نفسها بكلّ ما فيها من المخاطرة، حاملاً معه خواطر جميلةً لا توصف، الا ان ضيفنا واجه مشكلةً من نوعٍ آخر كذلك في هذه الرحلة، فهو لم يُقبل على تذوق وجبتنا المفضّلة، نحن الايرانيين، اعني "شلو کباب" ابدًا!

لقد كان نباتياً، ولطالما طرح هذا السؤال على الآخرين قائلًا: "ما ذنب الحيوانات لتكون لنا نحن الناس قربانًا واضحية؟" (طبعًا لم يكن قد شهد بعد في ذلك الحين ظاهرة ذبح البشر المريعة)، لقد كانت رؤيته هذه نتيجة إحساسه اللطيف وعاطفته الإنسانية.

مرةً اخرى، شاءت الاقدار ان يزور ايران، ملبياً دعوة السيد البابطين، الاديب الكويتي ورئيس مؤسسة البابطين للابداعات الادبية، بقصد المشاركة في مؤتمر شعر سعدي الشيرازي الدولي الكبير. وهناك، كان جرداق نجم الاحتفال، وقد نلت شرف لقائه ومرافقته في طهران وشيراز، كانت المرة الاولى التي يزور فيها مرقد الشاعرین العملاقین الشيخ الاجلّ سعدي ولسان الغيب حافظ الشيرازي، اذ وقف مبهورًا امام حضرتيهما.

لم تنفك مكتبته الخاصة تشغل تفكيره وحديثه طوال الطريق، حتى انني سمعت انّها بقيت همّه الاكبر حتى آخر لحظات حياته! قبل وفاته بشهرٍ واحد، اعلنت مؤسسة البابطين للابداعات الأدبية عن فوزه بجائزة الخلق والابداع في الشعر والادب، وقيمتها 50 ألف دولار، لكن الاطباء كانوا قد منعوه من السفر.

ان يصبح كاتبٌ وشاعرٌ وفنانٌ مسيحيٌ عاشقًا للامام علي (ع) بهذه الطريقة، فذلك يذكّرنا قبل ايّ شيءٍ بحقيقةٍ ساطعة، ان عليًا (ع) بجاذبيته المتفردة هو مظهر وحدة الاديان ومحورها.

وكما يقول جرداق: "يا ايّها العالم، ماذا سيحدث لو جمعت كلّ قواك وقدراتك، واعطيت الناس في كلّ زمان عليًّا بعقله وقلبه ولسانه وذي الفقاره؟!”

اجل! ان حبّ علي هو حبٌّ للخير كله.. وللجمال كله! فكيف لا يقعُ بحبّه باحثٌ عن نور الانسانية في ظلمات الزمان!

سلامٌ على روحِ جورج جرداق./انتهى/

(*) المستشار الثقافي الايراني لدى لبنان

رمز الخبر 1919586

سمات

تعليقك

You are replying to: .
  • captcha