وکالة مهر للأنباء _ الخامس من شباط من عام 1985 م الساعة تقترب من الثالثة عصرا ..كان الشاب حسن قصير قد اغتسل وتوضأ وصلى وراح ينتظر الاشارة. ها هو رتل الآليات العسكرية الاسرائيلية قد وصل الى مفترق المؤسسة قاصدا مركز التجمع الملاصق للمدرسة كان الجيب يسير في مقدمة القافلة وفيه أعلى الضباط رتبة، وكانت خلفه ناقلات الجند الممتلئة.
قاد حسن سيارة المرسيدس الخضراء وخرج من المدخل الجانبي لمدرسة جبل عامل المهنية ليدخل في وسط تلك القافلة. مشى أمتارا قليلة باتجاه المدخل الرئيسي للمؤسسة مبتسما وهو يتمتم قائلا: أشهد ان لا اله الا الله واشهد أن محمدا رسول الله وأشهد أن عليا ولي الله .
يضغط حسن على الزر فتتحول تلك الابتسامة الى كتلة نارية ملتهبة تصرع العشرات من الضباط والجنود المحتلين.
وُلد الشهيد حسن قصير في بلدة دير قانون النهر، في الثامن من شهر تشرين الثاني من العام 1965م، وسط عائلة معروفة بالتزامها الديني، ولهذا نشأ وترعرع في الكنف الطيب الطاهر.
تميّز بطفولته الهادئة، وبوعي سبق عمره، وبروح القيادة، وقدرته على تحمّل المسؤولية، فكان قائداً كشفياً منذ صغر سنه، وتميّز بأدائه الجيد للمهام التي كان يُكلّف بها.
التزم الشهيد مع بداية سن التكليف بتعاليم الاسلام، وكان غالباً ما يرتاد المسجد للصلاة وقراءة الدعاء. تلقّى علومه الأولى في مدرسة بلدته، دير قانون النهر، ابتداءً من العام 1971م، ومن ثم انتقل إلى مدرسة العباسية الرسمية لمتابعة دراسته المتوسطة، ليُكمل فيما بعد دراسته باختصاص هندسة الكهرباء في مهنية جبل عامل في البرج الشمالي، وكان متفوقاً في جميع مراحل دراسته.
شارك الشهيد في عدّة عمليات ضد العدو الصهيوني بسرية وكتمان. وتعرّض للاعتقال من قِبل هذا العدو الحاقد حيث تعرّض لتعذيب وحشي فأظهر صلابة شديدة بعدما أوقفوه على جدار، ورفعوا يديه، وراحوا ينهالون عليه بالضرب بواسطة العصى الغليظة، وأعقاب البنادق. لم يتأوه، ولم يسقط أرضاً، حتى تعب جنود العدو، فأمرهم أحد الضباط بنقله، ليقتادوه إلى سجن الحلوسية، وهو يرسم شارة النصر بيده. وبعد خروجه من المعتقل، عزم الشهيد حسن قصير على تلقين العدو الصهيوني درساً، عبر مواجهته ورفضه الرضوخ والذل.
استعدّ بصمت، وأعدّ العدّة، واقتحم بسيارته المفخخة بالمتفجرات (أربعمئة كيلوغرام)، قافلة للعدو الصهيوني بالقرب من مؤسسة جبل عامل، وذلك في الخامس من شهر شباط، من العام 1985م، منفذاً عملاً استشهادياً هزّ الكيان الصهيوني، على أكثر من صعيد، وأدّى إلى سقوط عشرات الجنود الصهاينة ما بين قتيل وجريح، وقد وصفه العدو الصهيوني بالشجاع المقدام، صاحب السبحة السوداء الطويلة.
تفاصيل العملية
نقلًا عن أحد قادة أفواج المقاومة اللبنانيّة-أمل ممّن خطّطوا للعمليّة فإنّ الشّهيد حسن قصير الّذي قام بتنفيذ العديد من العمليّات الجريئة والنّاجحة ضدّ قوّات العدوّ قد عزم على القيام بعمليّةٍ مميّزة توجع الاحتلال، وهو أوّل من استعمل جهاز اتّصال في منطقة صور لتنفيذ عمليّات المقاومة. وقد برزت روحه الاستشهاديّة منذ استشهاد رفيق دربه حسن مشيمش أثناء التّصدّي لهجوم جنود الاحتلال على المؤسّسة في 5 أيّار1983، واقتيد حسن قصير يومها إلى المعتقل .
ولم ينس حسن تطاول الضّابط المحقّق على العزّة الإلهية أثناء تحقيقه معه، فقال»إنّي سأثأر لربّي. يوم كنت في المعتقل، وكنت بين يدي المحقّق ذليلًا، كان يشتم ربّي من دون أن أدافع عن كلمة الله. أريد أن أنتقم لله، سبّوا لي ربّي، سأنتقم لربّي".
وفي وداع رفيقه يوسف حريري في أيلول 1983، ارتدى حسن كفنًا مكتوبًا عليه بالدّم»أهلًا بالشّهادة"، وقد اعتلى منبر تأبين يوسف بإسم إخوة الشّهيد ليجدّد عهد الانتماء والولاء لنهج الإيمان الحسينيّ بعبارة «جبل عامل ما أرادك جبّارٌ بسوء، إلّا وقصم الله ظهره نصفين".
"أريد أن أقوم بعمليّة استشهاديّة. هذا ما كان يردّده دائمًا كلّما التقى بالشّهيد محمّد سعد الّذي كان يبتسم لجرأة وحماسة حسن حتّى جاءت اللحظة الحاسمة، واتّخذ القرار بالبدء في تنفيذ العمليّة، وعندها عاش حسن أجمل أيّام عمره بعدما تبلّغ أنّ أمنيته ستتحقّق".
كان حسن يتفقّد مكان تجهيز السّيّارة، ويقول للمجاهدين:»ضاعفوا كمّيّة المتفجّرات، جسدي يتحمّل المزيد. أريد كمّيّةً أكبر». وفي إحدى الزيارات وصل حسن على درّاجة ناريّة إلى وادٍ قريب من إحدى قرى صور حيث كان من المفترض أن يلتقي بالشّهيد محمّد سعد، ويتسلّم منه السّيّارة. لم يجد السّيّارة، ولا محمّد سعد، وقيل له محمّد غير موجود، والسيّارة لم تجهز بعد. عندها انفجر حسن باكيًا وغاضبًا، فسمع صوت محمّد سعد يناديه من مكان قريب، فركض إليه وقبّله بحرارة، وأخذه إلى مكان السّيّارة خارج بلدة طورا، فاستبشر حسن مبتسمًا، وقال:»وأخيرًا قرب الموعد». فاغرورقت عينا محمّد سعد بالدّموع.
وفي الأسبوع الأخير الّذي سبق تنفيذ العمليّة، أخبر حسن والده بأنّه ذاهبٌ إلى الدّكوانة في بيروت لإحضار طلبات للمهنيّة، وتوارى حسن مودّعًا عائلته، وملازمًا محمّد سعد. وضعت السّيّارة في مرآبٍ قريب من المؤسّسة. وكان ثمة من يراقب الطّريق، ويتواصل مع حسن الّذي لم يغادر سيّارته،ولمّا شعر بأنّ إمكانيّة التّنفيذ متاحة، أدار محرّك السّيّارة وتلقّى إشارة الإنطلاق، فانقضّ على القافلة راسمًا ابتسامةً أخيرة ملؤها الثّقة بالانتصار على أصداء آيات القرآن الكريم تتهادى من مسجّل السّيّارة قبل انفجارها. وظلّ اسم الاستشهادي مجهولًا إلى صباح اليوم التّالي، فبينما كان الأخ نبيه برّي وزير المقاومة والجنوب آنذاك يلقي كلمة حركة أمل في مهرجان سينما "كونكورد" احتفالًا بمرور سنة على انتصار انتفاضة "6 شباط"، رفع ورقة صغيرة من جيبه كتب عليها اسم الشّهيد، ولقبه وصورته، وقطع الأخ الرّئيس خطابه ليعلن:"هذا ما وعدتك به يا إسرائيل، "عامل" أسد من أسود حركة أمل، وأخ لبلال فحص هو منفّذ عمليّة البرج الشّمالي".
عائلة الإستشهادي حسن قصير
أمّا والد الشّهيد حسن قصير، ووالدته فقد بحثوا عنه في مستشفيات صور قبل معرفتهما بالعمليّة ظنًا منهم بأنّه قد يكون أصيب في اقتحام المؤسّسة، فقال لهم رفاقه بأنّ حسن خرج من المؤسّسة قبل حصارها. بعد فكّ الحصار عن المؤسّسة، ذهبت الحاجّة أم عماد لتبحث مجدّدًا عن حسن، فسألت الإدارة ورفاقه، ولكن حسن لم يكن موجودًا، ولم يؤكّد أحد ذهابه إلى بيروت.
وعندما سمعت والدة حسن إعلان الرّئيس نبيه برّي عن العمليّة، وأنّ "عامل" قد نفّذها، قالت:"فلتحي البطن الّتي أنجبت هذا الشّهيد. الله يصبّر أمّه". ولم تتأكّد العائلة من استشهاد حسن إلّا بعد أن جاءها أحد الأقارب حاملًا جريدة السّفير الّتي نشرت صورة حسن ووصيته وتفاصيل العمليّة.
يقول الرّئيس نبيه برّي بعد استقباله والد الإستشهادي حسن قصير في منزله في بربور:"لا أستطيع أن أنسى أبدًا تلك الدّمعة الّتي انسابت من عينيه على خدّه لتلتقي مع ابتسامة رسمها على شفتيه. بحيث كان يبكي ويضحك في آنٍ معًا، فخلته أمامي طبيعة ماطرة وأزهارًا تتفتّح".
يقول والد الشّهيد حسن قصير "الحاج أبو عماد" رحمه الله: "في الأشهر الأخيرة لم يعش حسن بيننا في المنزل هنا. كان يأتي لزيارتنا فقط، أو لقضاء إجازاته. كان ينام في المؤسّسة، وهو حسب إفاداته المدرسيّة الأوّل دائمًا على مدى السّنوات الثّلاث الأخيرة. وعندما أراد الإنتساب إلى المهنيّة رفضت، ابتسم وقال:»أنت تريدني ضابطًا في الجيش، وأنا أقول لك هذه المهنة ليست لي". ولم يتفوّه لنا بكلمة واحدة عمّا تعرّض له على أيدي الإسرائيليين في المعتقل.
كان حسن متديّنًا، وظلّ طبيعيًا يتصرّف كعادته حتى اليوم الأخير الّذي رأيته فيه، وهو يوم جمعة. كان يقود درّاجة ناريّة، ومعه أحد رفاقه. ترجّل صوبي بينما كنت في المحلّ، وأخبرني عن مشوار بيروت بحجّة إحضار أوراق من الدّكوانة. فقلت له إنّ عبور حاجز باتر صعب في هذه الظّروف، فأجابني بأنّه يحمل إخراج قيد باسم مستعار، وسوف يعبر عن طريق جسر الأوّلي. حاولت أن أقدّم له مبلغًا من المال، لكنّه ضحك وقال إنّه ليس بحاجةٍ إلى المال، فهو يحمل منه ما يزيد عن حاجته، قلت له يبدو أنّ المؤسّسة تقدّم لكم في هذه الأيّام مرتّبًا. ضحك، وأثناء خروجه حاول مداعبتي، فأمسك بشالٍ من الصّوف كنت ألفّه على رقبتي، وضعه على رأسي ثمّ أعاده إليّ".
وقد صار حسن قصير في عيون محمّد سعد مدرسة في الوطنيّة والإيمان. فخاطبه:» يا أخي كنت تلميذًا، فإذا بك أستاذًا لأستاذك، فهنيئًا لك الجنّة». وفي ذكراه الأولى قال الأخ الرئيس نبيه برّي: "في عرس الشّهيد حسن قصير يكفينا أن يُكْتَبَ عنّا في المستقبل لتعرف الأجيال القادمة معنى الفداء، وكيف تُصَان الأوطان".
كانت وستبقى ديرقانون النهر بلدة العلماء والشهداء أحمد،.حسن ، عبد المنعم... وما بدلوا تبديلا.
تعليقك