١٤‏/٠٥‏/٢٠٢١، ٢:٥٩ م

"سيف القدس" يبتر أصابع "حارس الحدود"

"سيف القدس" يبتر أصابع "حارس الحدود"

أيةُ حدودٍ يعنيها المسؤولون السياسيون والعسكريون الصهاينة في التسمية التي أطلقوها على العملية الوحشية والعدوان الهمجي الذي يستهدف الوجود الفلسطيني بجميع مظاهره، ليس في قطاع غزة فحسب، بل على كامل الجغرافيا الفلسطينية المحتلة والمحاصرة وخارجها.

وكالة مهر للأنباء، حسن أحمد حسن (باحث سوري متخصص بالجيوبولتيك والدراسات الاستراتيجية) تمهيد: أيةُ حدودٍ يعنيها المسؤولون السياسيون والعسكريون الصهاينة في التسمية التي أطلقوها على العملية الوحشية والعدوان الهمجي الذي يستهدف الوجود الفلسطيني بجميع مظاهره، ليس في قطاع غزة فحسب، بل على كامل الجغرافيا الفلسطينية المحتلة والمحاصرة وخارجها، وتحت أي مدلول يمكن فهم مصطلح الحدود ضمن التسمية المذكورة؟ فالحدود "الإسرائيلية" وفق المنظّرين الأوائل للحركة الصهيونية ممن حكموا "تل أبيب" هي حيث (يضع الجندي الإسرائيلي قدمه، ويطأ الأرض بحذائه العسكري)، ومثل هذه الحدود المطاطة من الصعوبة التنبؤ بالمساحة التي قد تشملها، وهي تتطلب أعداداً كبيرة من الجنود لحراستها، وهذا يفسر الطابع العسكري للكيان الغاصب منذ نشأته، وبجميع فئاته، فما يقولون عنه "إسرائيل" لا يمكن بالمنطق العلمي أن يكون دولة،فهي جيش أنشئ له دولة، وهي العضو الوحيد في المنظمة الدولية الذي وُلِد بقرار أممي، وليس بالحتمية الجغرافية القائمة، ولا بالسيرورة التاريخية القائمة على تلك الجغرافيا التي تحكم ذاك الوجود، وطالما أن ذلك كذلك فمن الطبيعي أن يكون عمل "حارس الحدود" المطلوب مفهوماً فضفاضاً يبيح لهم العربدة حيث يستطيعون الوصول، وهذا يحمل الكثير من الأخطار والتهديدات للأمن الوطني والقومي الخاص بجميع الدول والوحدات السياسية القريبة جغرافياً ـ على أقل تقدير ـ من الكيان الإسرائيلي، وواهمٌ من يظن أن جميع تلك الدولة خانعة أو تقبل الخضوع والتبعية، الأمر الذي جعل الصراع العربي الصهيوني يمر بمراحل متعددة ومتباينة الصور والتبلور، والتي كان آخرها تسونامي التطبيع على أمل أن يوفر ذلك مزيداً من الأمن والنفوذ والسيطرة والهيمنة لكيان الاحتلال القائم أصلاً على العدوان واحتلال أراضي الآخرين بالقوة.
حسابات حقول الطواغيت وزبانيتهم لم تتطابق مع بيادر محور المقاومة، فقد أثبتت الأحداث بتطوراتها وتداعياتها أن مناجل المقاومين تجني بمهنية عالية السنابل، وتترك سوقها واقفة تغري "حراسهم" باجتثاثها من الجذور وتكديسها في البيادر التي تتناقض حساباتها بالضرورة والحتمية ـ وليس بالصدفة والاحتمالية ـ مع ما هو متوقع منها، فقمح السنابل غدا في مخازن المقاومة، وما تبقى ـ على الرغم من حجمه الكبير ـ لا يمكن أن ينتج إلا التبن الذي يصلح علفاً للحيوانات لا أكثر، وهذا التوصيف أقرب ما يصلح لفهم تسابق الأنظمة الحاكمة في عدد من دول المنطقة للارتماء في الحضن الصهيوني الذي أعجبته كثرتهم، لكنها لم تغنِ عنهم هول المفاجآت في كل جولة من جولات الصراع المزمن منذ عقود.
لقد جاءت التسمية المعتمدة من المقاومة الفلسطينية موفقة ودقيقة الدلالة، حيث أطلقوا اسم "سيف القدس" على عملية التصدي الحازم والشجاع لاعتداءات الصهاينة على حرم المسجد الأقصى والمصلين، وعلى الفلسطينيين في باب العمود والشيخ جراح، ومن البدهي أن السيف المشرع لحماية القدس لن يدع حارس الظلام والأوهام يعيث فساداً، فمع ازدياد العربدة والعدوانية المتوحشة أطلقت المقاومة تحذيراتها مؤكدة أنها لن تسمح لحكام تل أبيب ومن معهم الاستفراد بالمقدسيين، فلم يأبه نتنياهو المأزوم داخلياً والساعي بأي شكل لتغطية فضائحه وإخفاقه في تشكيل حكومة، وصدرت التعليمات برفع منسوب الهمجية والعدوانية فجاء الرد مزلزلاً، ومن الواضح أن جيش الاحتلال الصهيوني الذي ظن قادته أنه قادر على وأد الإرادة الفلسطينية المقاومة لم يكن قريباً من الهالة الهوليودية التي أحاطوه بها، فكانت النتيجة الموضوعية أن تستل القدس سيفها للدفاع عن الهوية والوجود حاضراً ومستقبلاً، وبدأت جولة جديدة من المواجهة المفتوحة أسفرت حتى الآن عن بتر أصابع ذاك الحارس المتخبط والمرعوب، وهو يتلقى الضربات القاسية من حيث يدري ولا يدري، والقادم أعظم، ويخطئ من يظن أو يتوهم أن بتر الأصابع هو الرد على الجرائم المتكررة اليومية لقطعان المستوطنين وقوات الاحتلال الإسرائيلي البغض، ومشتبهٌ جداً من يحسب أن محور المقاومة ينتقم من العدوانية الصهيو ـ أمريكية التي لا تقف عند حد، فكل ما حدث حتى الآن أقل بكثير من الانتقام، ويكاد يكون محصوراً في منع الوحش المسعور من افتراس الأبرياء، أي أنه تقييدٌ مدروسٌ لقدرة أولئك القتلة على توجيه فوهات البنادق باتجاه صدور ورؤوس أبناء القدس وبقية المدن والبلدات الفلسطينية، ومنع متزعمي الكيان الإسرائيلي من استخدام أحدث ما أنتجته مصانع الأسلحة وأدوات القتل والفتك والإبادة لفرض إرادتهم على أبناء المنطقة ومصادرة حقوقهم تمهيداً لرسم حدود جديدة وفق ما يحلو لجنرالات تل أبيب طالما أن الحدود تكون حيث يصل الجندي الصهيوني، فكان لزاماً على المقاومة التحرك، وهذا ما حدث، فَبُتِرَت الأصابع كخطوة أولى ستتلوها خطوات إن لم يحتكم أصحاب الرؤوس الحامية إلى لغة المنطق والواقع الذي يؤكد أن زمن العربدة والاجتياحات قد ولى وإلى غير رجعة، فمع ازدياد القمع والأخطار انفجر الصاعق المحكوم بمجموعة من الضوابط وقواعد الاشتباك التي لم تعد صالحة للاستمرار على ماهيتها في عصر تعيش فيه المنطقة تحولات كبرى، وهذه التحولات وغيرها ستفضي بالضرورة إلى التسليم بسقوط الأحادية القطبية، وعلى جميع الساعين لتحسين أوراقهم وتصنيفهم المساهمة في تهيئة البيئة الاستراتيجية المطلوبة للإعلان عن ولادة نظام عالمي جديد، ومن يتخلف سيبقى جزءا من النظام المتهالك والبائد.
اللوحة الجديدة المتشكلة:
على الرغم من أنه لم يمضِ إلا يومان فقط على الجولة الجديدة من اشتباك لا يمكن حصره بالقدس ولا بغزة ولا بفلسطين فقط، بل يمتد ليأخذ أبعاداً إقليمية ودولية، وقد يكون وضع الأوراق مجتمعة على طاولة التشريح كفيل بفرز المدخلات، وهذا يساعد كثيراً علة تحديد المخرجات المتوقعة بنسبة عالية من الدقة إذا اعتمدت عملية تشريح المنهج العلمي لا الانفعالي، ولا الانجرار خلف الأمنيات والعواطف الآنية التي قد تؤدي دوراً سلبيا، وهنا يمكن تسجيل مجموعة من النقاط المهمة، ومنها:
ـ السقوف العالية للعدوانية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في حي العمود والشيخ جراح، وقد تكامل ذلك مع عربدة غير مسبوقة ضد الأقصى والمصلين، انطلاقاً من حقيقتين قائمتين لا يمكن نكرانهما:
1 ـ الاطمئنان إلى أن التنسيق الأمني بين أجهزة السلطة الفلسطينية في رام الله وبين استخبارات الكيان الإسرائيلي كفيل بمنع الفلسطينيين من تنفيذ ما يزعج سلطات الاحتلال، والمشاركة في الملاحقة والاعتقال الفوري ضد كل من يفكر بكسر هذا التعاون الذي لم يرتج رغم كل الاعتداءات الإسرائيلية اليومية على المواطنين الفلسطينيين في الضفة الغربية.
2 ـ التباهي بحملة تطبيع مجاني للعديد من الدول العربية مع تل أبيب، ولا فرق بين ما تم الإعلان عنه، وبين ما هو منفذ عملياً لكنه غير معلن، ويبدو أن هذا الواقع خلَّف حالة من الارتياح لدى حكومة نتنياهو، واليقين بعجز أي طرف كان عن خرق قواعد الاشتباك، أو تشكيل أخطار وتهديدات جدية لما يسمونه الأمن القومي الإسرائيلي، وهنا يمكن توضيح نقطتين مرتبطتين بالأمر أيضاً وهما:
أ ـ تطبيق قواعد الاشتباك المفروضة بحزم لا يعني البناء على أمكانية إرغام الفلسطينيين على التزام الصمت عند خرقها من الكيان الغاصب، وبخاصة إذا تكرر ذاك الخرق، وأخذ منحى تصاعدياً متسارعاً في ظل صمت مريب لغالبية القوى الفاعلة على المستويين الإقليمي والعالمي.
ب ـ تزاحم المطبعين العرب على بوابات تل أبيب أدى إلى نتيجتين متناقضتين، حيث ظهرت سلطات الاحتلال الإسرائيلي أكثر قوة وعنجهية وغطرسة أدت بشكل طبيعي إلى النقطة الثانية، وهي زيادة الغضب والاحتقان الفلسطيني، وهذا يتطلب وجود بيئة حتمية للتنفيس، ومؤشرات الواقع القائم حتى الآن تؤكد أن كل صفقات التطبيع المعلنة والمخفية لم تفلح في تعزيز أمن الكيان الاحتلالي بل على العكس أدت إلى انفجار الاحتقان الفلسطيني بصورة لم تكن تخطر على بال حكومة نتنياهو وكل من يسير في فلكها المأفون الآسن.
ـ واقع داخلي مأزوم فالفضائح المسلكية تلاحق نتنياهو، والانتخابات المبكرة للمرة الرابعة لم تفلح في رأب الصدع داخل بنية "المجتمع الإسرائيلي"، ونتنياهو يعجز عن تشكيل حكومة، فيذهب التكليف إلى زعيم المعارضة.
ـ تآكل هيبة الكيان الإسرائيلي عسكرياً، وتوجيه عدة صفعات مؤلمة: / ضرب سفينة إسرائيلية مقابل الشواطئ الإماراتية ـ استهداف خلية للموساد تعمل في شمال العراق ـ اشتعال النار في مصفاة حيفا ـ انفجار في معمل للصناعات الحربية ـ الصاروخ السوري الذي قطع مسافة /231/ كم فوق الأراضي المحتلة، وكاد يجاور مفاعل ديمونة النووي.... الخ.
ـ ثبات إيران على مواقفها، وإرغام أمريكا على التراجع، وعقد جولات في فيينا لعودة واشنطن إلى الاتفاق النووي، وهذا يعني رفع جميع العقوبات المفروضة على إيران وبشكل مسبق، والتأكد من رفعها، أي أن إيران ما تزال صاحبة اليد العليا.
على طاولة التشريح:
استناداً إلى كل ما ذكر سابقاً وبعيداً عن الأمنيات الذاتية فإن النظرة الموضوعية لما أفرزته المواجهة الميدانية الجديدة على الساحة الفلسطيني يؤكد ما يلي:
ـ قدرة المقدسيين على الصمود والمواجهة في المسجد الأقصى وحي الشيخ جراح، وإرغام قوات الاحتلال والمستوطنين على التراجع والانسحاب المؤقت، وصدور قرار المحكمة القاضي بتأجيل تنفيذ مصادرة بيوت الفلسطينيين في الشيخ جراح.
ـ دخول المقاومة الفلسطينية في غزة بؤرة الصراع في القدس، وهذا يعني الفشل في فصل خطوط التماس والمواجهة.
ـ تهديد المقاومة الفلسطينية بقصف العمق الإسرائيلي ما لم تتراجع سلطات الاحتلال عن تصعيدها العدواني في القدس، وتنفيذ التهديد في الوقت المحدد، ووصول صواريخ المقاومة إلى "تل أبيب " وضواحيها، وإنزال خسائر بشرية غير مسبوقة في صفوف قوات الاحتلال.
ـ انطلاق صواريخ المقاومة باتجاه العديد من المدن الفلسطينية المحتلة ، وإرغام مئات آلاف المستوطنين على الإقامة في الملاجئ، وتحول كل جغرافيا الداخل الآمن إلى أهداف مكشوفة تحت نيران المقاومة، أي سقوط نظرية أمان البطن الرخو الإسرائيلي.
ـ إخفاق ذريع في عمل منظومات الاعتراض الصاروخية/ مقلاع داؤود ـ حيتس ـ القبة الفولاذية ـ الباتريوت/، وفرض معادلة الردع الناري المتبادل حتى الآن، ولو بشكل نسبي.
ـ اتساع ساحات المواجهة لتشمل جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها أراضي 48، وأداء مذهل من أهاليها إلى درجة التصدي المباشر لقوات الاحتلال وشرطته، وإحراق سيارات إسرائيلية في أكثر من بلدة ومدينة، وتحول عرب 48 إلى عامل جديد ونوعي وفاعل، وهذا يبنى عليه الكثير.
ـ إغلاق مطار بن غوريون وتحويل الطيران القادم إلى اليونان وقبرص، وإصابة الملاحة الجوية بشلل كبير، وهذا أيضاً تطور نوعي كبير.
ـ ازدياد الهمجية العسكرية الإسرائيلية وتكثيف عمليات القصف بشتى أنواعه، واستهداف الأبنية السكنية، وارتفاع عدد الشهداء والجرحى ، فضلا عن التدمير الكبير في البنى التحتية لتعطيل دورة عجلة الحياة، وكل ذلك لم يقلل من وتيرة القصف المقاوم يومياً بمئات الصواريخ للعمق الإسرائيلي.
ـ ازدياد حدة الأصوات المنددة بالهمجية الصهيونية وتحرك مسيرات شعبية مناهضة للعدوان الصهيوني في العديد من العواصم والمدن الكبرى عالمياً بما في ذلك داخل بريطانيا وأمريكا.
ـ الضعف المخزي في الموقف الرسمي العربي، وما صدر عن جامعة الدول العربية لا يرقى إلى أدنى درجات الواجب والمسؤولية العربية والإسلامية والأخلاقية، وهذا غير مستبعد، فمن السذاجة انتظار أفضل من ذلك من أنظمة تابعة ومرهونة للمشيئة الصهيو ـ أمريكية.
ـ روح التحدي والإرادة الصلبة التي أبداها الفلسطينيون تحمل بصمة الشهيد القائد قاسم سليماني، وتؤكد أن نهج المقاومة هو الأرسخ و الأبقى والأكثر تجذراً وفاعلية، بغض النظر عن قلة الوفاء التي صبغت أداء بعض الفصائل تجاه بعض أقطاب محور المقاومة طيلة سنوات الحرب المفروضة على الدولة السورية.

خاتمة:
قراءة النتائج والتداعيات المذكورة آنفاً تحتاج إلى بحث موسع لا يمكن لمقالة تحليلية مكثفة أن تفيه حقه، ولذا سأكتفي بالإشارة إلى بعض النقاط المهمة، ومنها:
1- إخفاق عسكري وأمني واستخباراتي كبير وكفيل بزعزعة أهم عوامل قوة الكيان الإسرائيلي، فإذا كان المسؤولون الإسرائيليون يتوقعون دحرجة الأمور للوصول إلى ما وصلت إليه فلماذا أخفقوا في منع حدوث ذلك، وإذا كانوا يجهلون ذلك أو لم يتوقعوه، فالدلائل السلبية مضاعفة.
2- هشاشة نوعية في نية الداخل الإسرائيلي، وعلى شتى الصعد والمستويات، وهذا ما يمكن دراسته بكثير من المسؤولية، والبناء على نتائج الدراسة.
3- الامتناع عن الرد على الهمجية والعدوانية الصهيونية اليوم أو غداً سيحول كل النتائج الإيجابية المترتبة على هذا الفصل الجديد من المواجهة في مهب الريح، وهذا ما يجب التركيز عليه مهما اشتدت الضغوط، وكبرت التضحيات، فما تحقق كبير جداً، وهو يؤسس لمرحلة لاحقة محكومة بقواعد اشتباك جديدة.
ملخص ما حدث حتى الآن يتمحور على نجاح "سيف القدس" في بتر أصابع "حارس الحدود"، وقد يمتد البتر ليشمل كامل الأطراف، ولا يستبعد أن يشكل مسرح العمليات القادم بيئة جديدة تمتد فيها ألسنة اللهب إلى خارج الجغرافيا الفلسطينية إذا أصرَّ نتنياهو ومن معه من أصحاب الرؤوس الحامية على الهروب إلى الأمام، فقد يكون الأمام مملوءاً بالحفر العميقة الكفيلة بطي الصفحة المتعلقة بهذه الغدة السرطانية دفعة واحدة وإلى الأبد.

/انتهى/

رمز الخبر 1914457

سمات

تعليقك

You are replying to: .
  • captcha