وكالة مهر للأنباء_ رانيا كامل يونس: في 22 تشرين الثاني من كل عام، يُفترض أن يكون لبنان على موعد مع ذكرى استقلاله: علمٌ يُرفع، نشيدٌ يُعزف، وخطبٌ عن السيادة والكرامة الوطنية. لكن هذا العام، قرٌر العدو الصهيوني أن يحتفل على طريقته، لا عبر رسائل تهنئة دبلوماسية، بل عبر رسائل نارية، بصواريخ تُطلَق من السماء، ومسيراتٍ تحوِّل الطرقات إلى مصائد موت، وتستبدل ألوان العلم اللبناني بلون الدم.
ولم يكتفِ هذه المرّة بجبهة الجنوب والبقاع، بل مدّ «احتفاله» الدموي إلى قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث استهدف منطقة سكنية مكتظة في حارة حريك، وأسفرت الغارة عن سقوط خمسة شهداء و٢٨ جريحًا، في مشهدٍ يختصر كيف يمكن لثوانٍ معدودة أن تحوّل حيًّا مكتظًا بالحياة إلى ساحة إسعافٍ جماعي وصراخ وفوضى وركضٍ خلف أسماء المفقودين.
سماء لبنان المفتوحة… على الغارة
من الجنوب إلى البقاع، مرورًا بالضاحية الجنوبية للعاصمة، بدا هذا البلد الصغير وكأنه ساحة تدريبٍ موسّعة للطيران الحربي "الإسرائيلي". الغارات لم تعد حدثًا استثنائيًا، بل إيقاعًا يوميًا يكتب تفاصيله هدير الطائرات في السماء، وانفجارات تُسمَع في القرى والأحياء قبل أن تُفهَم أسبابها.
في القرى الجنوبية، لم يعد الناس يرفعون رؤوسهم ليتأكدوا إن كانت الطائرة «معادية» أم لا؛ فالسماء نفسها تحوّلت إلى طرفٍ في الحرب. وأصبح صوت المسيّرة مرادفًا لرسالة واحدة: من تختاره إسرائيل هدفًا لن يعود إلى بيته.
وفي الضاحية، حيث يُفترَض أن تختلط أصوات الباعة وضحكات الأطفال بضجيج المدينة، صار دويّ الانفجار جزءًا من المشهد، يذكّر السكان بأن الموت يمكن أن يطرق الباب في أي لحظة، ومن أي فجوة في السماء.
طرقات مدنية… لكن على لائحة الاستهداف
في البقاع كما في الجنوب، لم تعد الطرقات مجرد مسارٍ للوصول إلى العمل أو المدرسة أو الحقل. باتت المسافة بين البيت والقرية المجاورة رحلة محفوفة باحتمالات الموت. سيارات مدنية استُهدِفت عن سابق تصميم، ومسيراتٌ راقبت بدقة لوحات السيارات وحركة الركاب، ثم ضغطت زرّ الإعدام عن بُعد.
لم يكن هؤلاء ركّاب آلياتٍ عسكرية، ولا قادة جيوش، ولا حتى في موكبٍ أمني؛ كانوا أبناء هذا «الاستقلال» الموعود: موظف عائد إلى منزله، شاب في طريقه لزيارة صديق، أب يقلّ أولاده من المدرسة، أو شابة تُحضِّر لحفل تخرج لم يكتمل.
وفي الضاحية الجنوبية، لم يكن الشهداء الخمسة ولا الجرحى الثمانية والعشرون في ساحة معركة، بل في قلب حيٍّ مدني، بين منازل ومتاجر وسيارات مركونة على جوانب الطرقات، قبل أن يتحوّل المكان في لحظات إلى مسرح إسعافات ودم وذهول.
الاغتيال أمام عيون الأهل
أقسى ما في الأمر ليس قرار القتل فقط، بل طريقة تنفيذه. ففي أكثر من حالة، تحوّلت لحظة لقاء عائلي إلى مشهد اغتيال مباشر أمام ناظري الأم والأب.
أمّ تراقب من شرفة منزلها سيارة ابنها تدخل الحارة، تستعد لتفتح له الباب وتحمّله أسئلة اليوم الروتينية:
هل تناولت طعامك؟ كيف كانت الجامعة؟
لكن المسيّرة كانت أسرع من أسئلتها. لحظة واحدة تفصل بين ضحكةٍ من بعيد وانفجارٍ يلتهم المشهد كله. تتحوّل لهفة الانتظار إلى صرخة مكتومة، وإلى جسدٍ مقطّع تُجمع أشلاؤه من على الإسفلت.
أبٌ ينتظر ابنه على الرصيف نفسه الذي علّمه فيه ركوب الدراجة. يراقب سيارته تقترب، يفكّر في حديثٍ مؤجّل عن المستقبل، عن وظيفةٍ أو زواجٍ أو سفر. لكن المستقبل نفسه يُمحى بضربة صاروخ موجّه، ليبقى الأب في مواجهة فراغٍ لا يُحتمل: كرسي فارغ، وسرير لم يعد لصاحبه، وهاتفٌ لا جدوى من اتصاله بعد اليوم.
وفي الضاحية الجنوبية، حيث تختلط العائلات بعضها ببعض في أحياء متلاصقة، لا تبقى المأساة حكرًا على بيتٍ واحد. الشهداء الخمسة يتحوّلون في دقائق إلى وجع حيٍّ كامل، والجرحى الثمانية والعشرون إلى مرآة إضافية لثمنٍ يدفعه هذا المجتمع كلما قررت "إسرائيل" أن تعيد رسم خارطة الألم في يومٍ يُفترض أن يكون يوم استقلال.
أيّ رسالة تريد إسرائيل توجيهها؟
هذا النمط من الاستهداف، الذي يلاحق المدنيين في سياراتهم وعلى الطرقات، ويضرب أحياءً سكنية مكتظة كما حدث في الضاحية الجنوبية، ليس مجرد «خطأ في التقدير» أو «أضرار جانبية»؛ إنه جزء من سياسة واضحة: تحويل الحياة اليومية إلى منطقة اشتباك، وكسر شعور الناس بالحد الأدنى من الأمان.
"إسرائيل" هنا لا تستهدف جسد الشخص الموجود داخل السيارة أو المبنى فحسب، بل تستهدف مفهوم «الاطمئنان». تريد أن تقول للناس: لا أمان في بيتكم، ولا في طريقكم إليه، ولا في حضن عائلتكم، لا في قرية حدودية ولا في حيٍّ شعبي في العاصمة.
حين تُغتال الضحية أمام أمها وأبيها، أو حين يُستهدَف حيٌّ مكتظ أمام أعين جيرانه وسكانه، فالمقصود ليس إسكات فرد، بل زراعة جرحٍ دائم في ذاكرة عائلة وقرية ومدينة وبلد بأكمله.
استقلالٌ تحت القصف
في هذا السياق، يصبح عيد الاستقلال مناسبة معكوسة.
الدولة التي يفترض أن تحتفل باستقلال قرارها تعيش تحت وطأة خروقات يومية لسيادتها الجوية والبرية: مطاراتها تحت المراقبة، سماؤها مفتوحة، حدودها مسرح لاعتداءات متكررة، وعاصمتها نفسها تتلقى الرسائل النارية.
كيف يمكن أن نتحدث عن «استقلال» فيما يتنقّل طيران الاحتلال فوق المدن والقرى بلا رادع؟
كيف يمكن لخطاب رسمي عن السيادة أن يقنع مواطنًا رأى ابنه يُستهدف بسيارة مدنية على طريقٍ داخلي في الجنوب أو البقاع، أو شاهد حيّه في الضاحية يتحوّل في لحظات إلى ساحة قصف، أو سمع اسم قريته يتكرر في نشرات الأخبار كـ«منطقة مستهدفة» بدل أن تكون مجرد نقطة على خريطة وطنية؟
الجنوب والبقاع والضاحية: خطّ النار وخطّ الكرامة
الجنوب ليس مجرد جغرافيا حدودية، والبقاع ليس عمقًا زراعيًا للبلد فقط، والضاحية الجنوبية ليست مجرد «حيٍّ» ملتصق بالعاصمة. هذه المناطق الثلاث تحوّلت عبر التاريخ إلى خطّ دفاعٍ عن لبنان، وإلى مرآةٍ لثمن الكرامة.
عندما تُقصف قرية جنوبية، أو تُستهدف سيارة في البقاع، أو تُضرب بناية في الضاحية الجنوبية، فإن الرسالة أبعد من مجرد إحداث «توازن ردع» أو تسجيل نقطة في سجل الحرب. الرسالة الحقيقية تقول:
هل ما زلتم متمسكين بموقفكم؟
هل ما زلتم تؤمنون بأن لكم حقًا في هذه الأرض، وفي هذه الهوية، وفي هذه الذاكرة الجماعية التي لم تفلح كل الحروب في محوها؟
احتفال "إسرائيل"… وحقيقة لبنان
حين قرّرت "إسرائيل" أن «تحتفل» باستقلال لبنان على طريقتها، كانت تعلن شيئًا غير مكتوب:
هي لا تعترف بهذا الاستقلال أصلًا.
تتعامل مع البلد كما لو كان فضاءً مباحًا لغاراتها واستطلاعاتها وتصفية حساباتها، من أقصى الجنوب إلى أقصى البقاع، مرورًا بالضاحية والعاصمة نفسها.
لكن ما تغفل عنه، أو تتجاهله، هو أن هذا البلد الذي يشيّع اليوم أبناءه تحت القصف، هو نفسه الذي اعتاد أن ينهض من تحت الركام. الأم التي تبكي ابنها في جنازة اليوم قد تربي حفيدًا يحمل اسمه ويكمل حكاية انتمائه. الأب الذي يقف مذهولًا أمام مشهد الاغتيال قد يتحوّل إلى شاهدٍ يروي للأجيال القادمة أن الاستقلال ليس تاريخًا في كتاب، بل ثمنًا يُدفَع في كل بيت.
وبين قصفٍ وراية
ربما لا تملك الدولة اللبنانية رفاهية تنظيم احتفالٍ كامل وهادئ بالاستقلال في ظل استمرار الغارات والاعتداءات. لكن الشعب، في الجنوب والبقاع والضاحية، يملك ما هو أعمق من الاحتفالات: ذاكرة لا تُمحى.
احتفلت إسرائيل باستقلال لبنان بالقصف والدم،
أما لبنان فاحتفل – رغم الجراح – ببقاء رايته مرفوعة فوق البيوت المهدّمة، وبإصرار أمهاته وآبائه على أن أسماء أبنائهم لن تتحوّل إلى أرقام في تقارير عسكرية، بل إلى فصولٍ جديدة في حكاية بلدٍ تعلّم أن يعيش بين الموتين… ولا يتنازل عن حقه في الحياة.
ملاحظة: الأفكار الواردة تعبر عن رأي الكاتبة المحترمة
/ انتهى/
تعليقك