انتشر الحديث بكثافة عن موضوع الوحدة المجتمعية وتقارب الأديان في المنطقة العربية والإسلامية، حرصاً على نسيج المجتمع الفسيفسائي الفريد في تنوعه الديني والمذهبي، لكن وبعد ست سنوات من بداية ما يسمى بالربيع العربي لم تتطور طريقة التفكير عند مجتمعاتنا، بل على العكس زاد التقوقع والتحجر عند جزء، في مقابل ازدياد الانفلات من الضوابط والقيود عند جزء آخر، وبقيت فئة قليلة واعية في مقابل فئة كثيرة غير واعية للخطر المحدق بالمنطقة، وهذا التقصير يعود لتقصير المؤسسات الإعلامية والتربوية والثقافية والدينية في فهم وتفهيم معنى مصطلح الوحدة المجتمعية الذي طرح خوفاً من خطر التقسيم.
وفي حوار أجرته وكالة مهر للأنباء مع الدكتور أحمد أديب أحمد وهو مدرس في كلية الاقتصاد بجامعة تشرين، ومن الباحثين الدينيين لدى الطائفة العلوية، وله العديد من المؤلفات منها: (نور الهداية لأهل الولاية، نبض لصفصاف الفضاء، نهر العسل، الاقتصاد السياحي قيد التجهيز...)، أكد الدكتور أحمد أنه لابد من توضيح مفهوم الوحدة المجتمعية حتى يستطيع الناس أن يتقنوا ممارستها، فالوحدة المجتمعية لا تعني ذوبان الجزء في الكل، ولا ذوبان الجزء الأصغر في الجزء الأكبر، ولا أن نقول ما لا نؤمن به مجاملةً ورياءً مدعين كذباً أننا لا نفرق بين المذاهب والطوائف، علماً أن أبناء كل طائفة أو مذهب لهم الحق في الحياة بحرية وكرامة في الوطن الجامع للكل، دون الاستغناء عن الخصوصية الفكرية والعقائدية لكل طائفة أو مذهب.
وأضاف الدكتور أحمد قائلاً: يكذب من يقول: "لم نكن نتحدث سابقاً بمصطلحات مسلم ومسيحي، أو سني وشيعي وعلوي ودرزي وإسماعيلي، أو أرثوذكسي وكاثوليكي، أو...."، لأن هذا كان قائماً أصلاً في مجتمعاتنا، لكنه كان مغيباً إعلامياً في بعض الدول كمن يكذب على نفسه، وغير متاح للحديث في المؤسسات الرسمية، مما ولَّد في المجتمع قنابل موقوتة انفجرت مع بداية مشهد الخريف العربي من خلال ما شاهدناه من القتل والتمثيل بالجثث والإرهاب تحت راية الإسلام في سورية والعراق واليمن وليبيا ومصر، والإسلام بريء من هؤلاء المجرمين سواء كانوا من الجيش الحر أو جيش الإسلام أو جبهة النصرة أو داعش أو الوهابيين أو الإخوان المسلمين.
وأوضح: نتذكر جميعاً كيف حرض أدعياء الدين المتعصبون في بعض جوامع حمص وبانياس التي كانت مقرات إرهاب على قتل العلويين بتهمة الكفر التي ألصقها بهم ابن تيمية، وكيف حرض شيوخ الفتنة في بعض جوامع درعا على قتل جيرانهم الدروز في السويداء وسبي نسائهم، وليس بالخافي علينا دعوات مسيحيي حلب والقامشلي للهجرة إلى أوروبا، ونتذكر ما حدث في الرقة والموصل وجبل سنجار، ونتذكر دعوات شيوخ الوهابيين والإخوان المسلمين كالقرضاوي والعريفي والعرعور ومشاهد الذبح والمجازر الجماعية ونبش قبور الصحابة الأجلاء والهجوم على مقامات أهل البيت والنداءات الطائفية الداعية إلى القتل والتهجير، ومع أننا مقتنعون أن محراك الشر والفتنة هو الصهيونية العالمية إلا أنه لابد أن نقول: لو تمت توعية أبناء المجتمعات المنغلقة وتعليمهم بأن من ينادون بقتلهم هم إخوانهم في الوطن لما حصل ما قد حصل بهذه الكثافة وهذا المشهد الظلامي.
وتساءل الباحث الديني: هل استطاعت المؤسسات الرسمية في بلادنا ترسيخ الوحدة المجتمعية عندما قيدت الحريات الدينية واتهمت بالطائفية كل من يتحدث عن مرحلة الإخوان المسلمين وعن الفكر الوهابي التكفيري المتطرف؟ وهل استطاعت حماية شريحة اجتماعية كبيرة من الانجرار وراء دعوات الفتنة في سورية ومصر وتونس عندما سعت إلى تغييب ذكر مرحلة صراع الإخوان مع الرئيس جمال عبد الناصر، وتغييب ذكر حرب الثمانينيات في سورية لينسى الجيل الجديد- حسب زعم هذه المؤسسات- ما جرى ويكون مغيباً كي لا يمتلئ قلبه حقداً وعصبية؟ فكانت النتيجة ترسيخ الأحقاد والعصبيات الدفينة لدى شريحة متعصبة ومتقوقعة، وجهل شريحة أخرى بمبادئ وتعاليم الإخوان والوهابيين التلمودية، مع أنه كان ينبغي على المؤسسات الرسمية أن تلتزم بتعاليم الحكماء التي لابد من تطبيقها بحذافيرها، وأبرزهم القائد الخالد العظيم حافظ الأسد الذي قال في توجيهه لرجال الدين في الثمانينيات: "يجب ألا ننساهم أبداً، يجب أن نذكر أطفالنا بهم، وأن نذكِّر بهم أيضاً جيلنا باستمرار، لنعيش جميعاً آباءً وأبناءً وأطفالاً حقيقة هذه العصابة، لؤم هذه العصابة، عمالة هذه العصابة، ويجب أن تتذكر الأجيال جيلاً بعد جيل ما فعلته من قتل وغدر في هذا البلد تلك العصابة عصابة الإخوان المسلمين".
وتحدث الدكتور أحمد عن الحل قائلاً: يجب أن نحقق المفهوم الحقيقي للوحدة المجتمعية بما يتناسب مع تعاليم الدين السماوي لا الأحكام الوضعية لأهل القياس والاجتهاد، هذا المفهوم الذي يقوم على حق كل شخص بأن ينتمي لطائفته أو مذهبه وأن يعتز بذلك دون خجل أو حياء، وأن يضمن احترام الآخرين له حين يقابلهم باحترامه لهم، وأن لا يسعى أي مذهب لتغييب المذهب الآخر ومحاربته، بل على العكس أرى أن التنوع هو حالة طبيعية، والاختلاف بين المذاهب والطوائف حالة راقية طالما لم تتحول إلى تكفير وتحقير، فليست الأكثرية بالضرورة تمثيلاً حقيقياً للحق لقوله تعالى: "بل جاءهم بالحقّ وأكثرهم للحقّ كارهون"، ولا يعني أن تكون الأقلية صامتة ومغيبة ومغمورة وعرضة للإشاعات والروايات الملفقة والكاذبة من قبل المنحرفين والمغرضين، وهو ما أباح للعثمانيين أن يمارسوا مجازرهم وإبادتهم لأعداد كبيرة من العلويين والأرمن، واليوم تتولى داعش المهمة لتضيف إليهم الدروز والإسماعيليين والأيزيديين!!
وأضاف الباحث السوري: فليقل كل شخص ما عنده بحرية واعتدال وليظهر مناقبه وليبدي محاسنه وليمارس عبادته بحرية لأنه ابن هذا الوطن ومن حقه أن يكون موجوداً ومحترماً ومعترفاً به، ولنبتعد عن النظرية الاندماجية التي تقول: "يجب أن يتحول الجميع ليكونوا مثلي" كما هي نظرة الإفتاء الديني في عموم دول المنطقة، كما يجب أن نبتعد عن النظرية الإقصائية التي هي سياسة نشر الدعوة عند الإخوان المسلمين والوهابيين وجبهة النصرة وداعش، لأن الفكر الإقصائي أو الفكر الاندماجي فكر خطير أساسه صهيوني، وانعكاساته على المجتمع تتمثل بزيادة الأحقاد والضغائن والشعور بالظلم وازدياد مظاهر الكذب والنفاق، فتبدو على الوجوه ابتسامة كاذبة، وفي القلوب براكين ستثور في اللحظة التي يتاح لها أن تنفجر، والنتيجة خراب المجتمع ودمار الوطن.
ودعا المؤسسات الدينية وعلى رأسها وزارات الأوقاف ومديرياتها إلى الانفتاح وعدم التقوقع والإقصاء، بل السماح لكل أطياف المجتمع بالتعبير عن أنفسهم ومعتقداتهم بكل حرية./انتهى/
اجرى الحوار: محمد مظهري
تعليقك