وكالة مهر للأنبا - حسن شكر: قد قيل في الدّمعة على الحسين أنّها تطفئ غضب الرّب، وهذه مقولة صحيحة تثبتها زيارة الأربعين على مختلف الأصعدة تتعدّى ابعادها الدينية منها لتطال كافّة جوانب الحياة ، فأن ترى مجاميع الخلق تتدفق نحو قبلة العشق وهو منظر يشفي صدور المؤمنين و تظلّله الرّحمة الإلهية لما تكتنزه بواطن النّاس من حب دفين لابن بنت رسول الله. وكأنّي بحديث الحسين "إن كان دين محمّد لم يستقم إلّا بقتلي، فيا سيوف خذيني" يترجم عمليّا بمشاهد الألفة و التّعاضد و الرّحمة بين الناس تجتمع حول مشهده الشّريف.
من المجحف أن نذكر فوائد زيارة الأربعين ببعض من الحبر على أوراق العمر، ولعلّ كتابتها تحتاج قراطيس تصنعها أشجار الدنيا و مدادٍ قدره ماء بحار العالم وما تفي حقّها ، ومن باب "ما تنفقوا من خير فلأنفسكم" نستعرض بعض من بركات تلك الزّيارة المباركة.
أولاً- الوحدة من حيث المظهر : فالمُشاهد لتلك الملايين تتّدفق إلى مشهد ابن بنت رسول الله لابسين السواد يعي إستحالة تنظيم تلك الأعداد الهائلة و تهيئتهم قبل الانطلاق الى الزّيارة بتجهيزهم بالثّوب الأسود و يدرك أن ما يحصل حركة فوق الإدراك الطبيعي للبشر لكن يقوده حبّ القدوم إلى الحسين و تجديد العهد و الميثاق معه.
ثانيا- الوحدة من حيث الأعمار: و المقصود هنا أن توحّد هذه الزيارة أعمار الزائرين إلى عمر العشق، فنرى العجوز والطفل و الكهل و الشّاب ، فلا يثني الشّيخ الطاعن في السّن من المسير إلى الحسين، ولا صغر سن الأطفال من اجتياز الأميال و المسافات ولعلّها تكون الخطوة الأولى في تكوين الشّخصيّة السليمة للطفل، كذلك لا تثني هموم الدنيا الكهل من المسير و لا يصرف سعي الشباب إلى الإكتساب من الحياة من القدوم نحو الحسين و لا يضعف همّتهم.
ثالثا- من حيث اللون: لم تفرّق زيارة الحسين يوماً بين بشرة داكنة سوداء أو بيضاء أو صفراء ، ففيسفاء هذه الوجوه تمكّن النّاظر إليها من التماس العشق في عيون الزّائرين فالكلّ يهتف للحسين الذي استشهد معه عليّ الأكبر قمر بني هاشم ، وجون ذلك العبد الطاهر ذو البشرة السّوداء.
رابعا- من حيث اللغة: لم تقتصركلمات العشق للحسين على لغة بعينها، فالكل أتى ينشد الحسين بطيب الكلام من مختلف عيون اللغات و المنبع واحد هو قلوب طاهرة ملئتها ما أوجبه الباري من فريضة حب آل بيت الوحي و الرسالة.
خامسا- من حيث العرق: فحب الحسين جمع الناس من مختلف الأعراق جنبا إلى جنب كما فعلت رسالة محمد فجمعت الفارسيّ و العربيّ و الكرديّ و التركيّ و الإنجليزيّ و الهنديّ و الشعب الأصفر، و كأن الإسلام الذّي أتى به محمّد ارتفع بيرقا فوق قبة الحسين لتعكس صورة الدين الحنيف البعيد عن التّعصب و لتعكس صورة الدّين المحمدي الأصيل.
سادسا- من حيث الطبقات الإجتماعية: فمن يقصد الحسين ليس فقط الغنيّ ولا الفقير و لا الطبقة المتوسطّة، هو نسيج من هذه الطبقات لم يمنع ظرف أيّ منهم أن يمتنعوا من الحجّ إلى الحسين ، فلا الثّريّ منعته ثروته ولا الفقير منعه فقره ولا المتوسط منه سعيه في التكسّب.
سابعا- من حيث الأديان و المذاهب: لعلّ من المشاهد النادرة الّتي تجمع بين المسلم جنبا إلى جنب المسيحي و السّنّي إلى جانب الشّيعي هي تلك الّتي نراها في زيارة الأربعين ، و هذا انعكاس واضح لأهداف ثورة الإمام الحسين ، فهو قام للعدالة ضد الظلم ، و للإنسانية ضد الوحشية، فمن يشعر بتلك القيم الّتي قام من أجلها فهو حتما في ركاب هذه الزيارة على مخنلف مشاربه الدينية و الذهبية.
ثامنا- من حيث التوجهات السياسية: من المؤكد أن من يسير في هذه الزيارة المليونيّة ينتمون إلى مختلف التوجهات السياسية و الأحزاب المتعددة حالهم حال الطبيعة البشرية. لكن من إيجابيّات هذه الزيارة أنّها تعيدهم من مشاكل التكتلات في المنتديات السياسية و البرلمانات و المجالس الحزبية إلى خطوط سياسية عريضة وضعتها ثورة الإمام الحسين و هو طلب الخير و نفي الشّر في قوله التاريخي "إنّما خرجت لآمر بالمعروف و أنهى عن المنكر" ، من هنا يتوجب على مختلف التوجّهات السياسية إرجاع قراراتهم السياسية إلى هذا المبدأ فإن وافقه مشوا فيه و إن خالفه فعليهم معارضته.
تاسعاً- من حيث النظرة المستقبليّة: كما أنّ ثورة الإمام الحسين ثورة لم تدفن في الماضي ، كذلك هي زيارة الأربعين يُعاهد فيها الزائرون سيّد الشهداء بأن يحفظوا دمه وأن يتخلصوا من وعاء الجهل و الذنوب فيركبوا سفينة العلم و الطهارة و النور فتكون تلك الزيارة إلى مشهده و الوقوف عند قفصه الشريف مكان للتعاهد و النظرة الاستراتيجية للمستقبل وللزيارة المقبلة بأنّه لا تراجع عن مبدأ ثورتك يا حسين.
إذا ما جمعنا هذه النقاط في خلاصة نجد أن زيارة الأربعين هي مؤتمر سنوي يدعونا فيه الحسين بن علي إلى الوحدة ثم إلى الوحدة ثم إلى الوحدة ، فمن يقصد كربلاء لا شك أنّه ستلفحه نسائم الوحدة ولا ضيم أنّه سينهل من خيراتها في المستقبل. وكما الحاجة إلى قصد نبع الماء للإرتواء من العطش، فإن على الأمة المتعطشة إلى عذب الوحدة أن تغترف من نبع زيارة الأربعين ، فكربلاء معين لا ينضب.
تعليقك