١٦‏/٠٢‏/٢٠٢١، ٧:٥٨ م

أم الشهداء.. بشهادة سيد المقاومة

أم الشهداء.. بشهادة سيد المقاومة

لطالما نبحث عن مثال حي للمرأة المجاهدة التي تمثل فاطمة وزینب وتفسر ملحمة عاشوراء في عصرنا هذا فالشهیدة ام یاسر هي امرأة بروح فاطمیة خلَّدت تاریخا في مقاومة المرأة المعاصرة واصبحت نموذجا بکل المعاني و المقاییس یُحتذی ومسیرة تستحق الاقتداء بها.

وکالة مهر للأنباء _ ليلة السادس من شباط 1992م، نام السيد عباس "أبو ياسر" في بيته في النبي شيت، بينما جافى النوم عيون زوجته السيدة سهام الموسوي "أم ياسر"، وفي الفترة القصيرة التي غفت فيها، رأت في منامها السيد عباس "أبا ياسر"، وهو يجلس بجانبها في سيارة تسير ضمن قافلة على طريق الجنوب، وإذا بامرأة يهودية تمد يدها من النافذة، فتقطع عقداً من اللؤلؤ يلف عنقها، فتصحو وقد أقلقها الحلم.
وفي صباح اليوم التالي، بدأ الركب يستعد للمسير، حيث رغبت السيدة أم ياسر في مرافقة السيد عباس، فرفض، فأخبرته بالمنام، وأنها كانت إلى جانبه.
ثم ألم يصطحب الإمام الحسين (ع) أفراد أسرته معه إلى كربلاء؟

وهكذا كان، رافقته السيدة أم ياسر وابنه حسين في رحلة الشهادة إلى جبشيت.
وفي جبشيت، ومن على منبر شيخ الشهداء وشيخ الأسرى، خطب السيد عباس خطبة الوداع، خطب بكلام الأنبياء والأوصياء والوصية الأساس حفظ المقاومة، ودع السيد عباس أهل بيت الشيخ راغب حرب، سائلاً ولده: هل توصي شيئاً لأبيك؟ ومضى السيد في طريق العودة، عندما كمنت له مروحية صهيونية، استهدفت موكبه بصواريخ موجهة الكترونياً عن بعد.
من كلمات السيد عباس الموسوي: "أُقدّم روحي وجسدي، والخجل يعتصرني محتاراً كيف أعيد الأمانة ملوثة".
حضر عوائل المستضعفين للمطالبة بحقوقهم في ظلّ الأوضاع المعيشيّة المتردّية، سار الجموع مسافة طويلة شاقّة تحت المطر، وصلوا القاعة بانتظار كلمة المسؤولة الثقافيّة، التي توقّعوا أن تحضر بسيّارة خاصّة، وتجلس في صدر القاعة، لكنّها خرجت من بينهم بعباءتها المبلّلة بالمطر، والتي ما زالت تقطر ماءً وألماً وهي تتخطّى الصفوف لتعتلي المنبر، وتقول: "لو أنّ أمّي فاطمة عليها السلام رأتكم اليوم، لبكت لحالكم".
يومها علموا أنّها سيّدة مختلفة، سيّدة بروحٍ فاطميّة.. هي السيّدة سهام الموسويّ، أمّ ياسر، زوجة الشهيد السيّد عبّاس الموسويّ، التي سنتعرّف إليها من ذكريات بعض أفراد عائلتها.

•"ابنة الزهراء"
هناك كانت البداية، بالقرب من أمير الكلام الإمام عليّ عليه السلام في النجف الأشرف، حين تزوّجها السيّد عبّاس الموسويّ وهي ابنة الخمسة عشر ربيعاً، اصطحبها وأخته لتؤنس إحداهما الأخرى في غربة.. ولتمضيا أيّاماً من الأُنس، والعلم، والعبادة. تلك الأيّام هي التي صنعت منها هامةً عملاقةً في الفكر والعِلم والعملِ لاحقاً.
تتلمذت السيّدة أمّ ياسر على يد زوجها السيّد عبّاس الموسويّ. هذا العلم الذي قُذف في قلبها حوّلها إلى امرأةٍ راشدة تحوي وعي الكون بين ضلوعها، وراحت تعكسه حبّاً واهتماماً واحتراماً لكلّ من حولها خاصّة لزوجها السيّد، حتّى أنّ أخته باتت تشعر بها أماً حنوناً أكثر منها صديقة.
كان همُّ السيّد أن تكون زوجته "حبيبة القلب أو ابنة الزهراء" كما كان يناديها، معلَّمة متفقّهة، وخدومة تفيد مجتمعها ودينها أينما حلّت. وبما أنّها زوجة سيّدٍ، فكان من البديهيّ أن تُعرض عليها مسائل فقهيّة وأمور ابتلاء. لذا، كان يتوجّب عليها أن تتحصّن جيّداً لكي تتمكّن من إفادة الأخوات بتوضيح بعض الأحكام لهنّ، بل وتعليمهنّ.

•وعاء العلم والمعرفة
خرجت السيّدة أمّ ياسر مع السيّد الشهيد من العراق خلسةً بعد أن طُلب السيّد عبّاس بحجّة أنّه يشكِّل خطراً على الأمن البعثيّ، في زمن الطاغية صدّام. عادت إلى لبنان وكانت نموذجاً يُحتذى به خُلُقاً ومنطقاً، وشكّلت كلُّ خطوةٍ من خطواتها درساً ورسالةً تؤدّيها. لم توفّر فرصةً تزرع فيها الوعي والتديّن في نفوس المحيطين بها من نساء وفتيات، إلّا واغتنمتها بروحها الطيّبة وأسلوبها السلس. فكانت محبّبة لدى الجميع، أليفة الطباع، حسنة المعشر، ما جذب القلوب إليها. فكم من عملٍ أقلعت عنه النسوة أسوةً وتأثّراً بها من التزامٍ متقنٍ بالحجاب وباللّباس الشرعيّ إلى ترك سماع الأغنيات المحرّمة، إلى الانضمام إلى حوزة السيّدة الزهراء عليها السلام التي أنشئت في بعلبك ببركة جهود الشهيدة ودأبها المستمرّ.

•تسبيحة الزهراء عليها السلام ترنيمتها
للناحية العباديّة حيّزٌ عظيمٌ في حياة السيّدة الشهيدة. تخبرنا السيّدة بتول ابنتها: "كانت تهتمّ بأداء الصلاة في أوّل وقتها، الخشوع العجيب، تسبيحة السيّدة الزهراء عليها السلام التي كانت بوّابة عبورها نحو الجنان، وترنيمتها عقب كلّ استضافة بين يدي الله، تلاوتها للقرآن وصوتها العذب الذي يأسر النفوس، تحفيزها على قراءة القرآن وتشجيع من حولها على ذلك خاصّة في شهر رمضان، وترغيبهم بالثواب الجزيل، بأنّ كلّ آية تعدل ختم القرآن في غير شهر من الشهور. كانت تحثّنا بأنّ من يقرأ القرآن يزهر نوره، ويسطع كما النجوم لأهل السماء. وأنّ القرآن هو حديث الله معنا وكتابه المقدّس، وعلينا أن نحفظه ونقدّره".
تتابع السيّدة بتول: "كانت تنظّم برنامجاً عباديّاً خاصّاً في ذلك الشهر تُشركنا به، من مستحبّات السحر وصلاة الفجر الواجبة، إلى إحياء ليالي القدر والمشاركة في إحياء يوم القدس". أمّا عن يوم الجمعة وليلته، فتقول السيّدة بتول متذكّرةً تلك الأوقات: "كانت تبدأ ليلتها بالصلاة ودعاء كميل، ولا تترك صلاة الليل، وبعد صلاة الفجر، دعاء الندبة، وبعد صلاة الظهر صِلة الرحم والذهاب إلى بلدة النبي شيت عليه السلام لزيارة الأقارب".
أهمّ مواطن العبادة الصبر، وقد تجلّى بوضوح عند السيّدة أمّ ياسر من خلال تحمّل الوضع الماديّ الصعب، وغياب السيّد الشهيد عبّاس مع المسؤوليّات العظيمة الملقاة على عاتقه، ومرض ابنها محمّد، كان ذلك أشهى من العسل رغم مرارته.

•الروح الفاطميّة والزينبيّة
أجمعت أخوات السيّد عبّاس (رضوان الله عليه) وابنتاه بتول وسميّة، أنّ لها علاقة مميّزة بالسيّدة الزهراء عليها السلام: "الاقتداء بالسيّدة الزهراء عليها السلام مسؤوليّة تقع على عاتقنا جميعاً"، قناعة كانت السيّدة أمّ ياسر تؤمن بها قولاً وعملاً. فكانت حياة السيّدة الزهراء عليها السلام العالِمة المعلِّمة، المواسية، المضحّية، العاملة، المجاهدة، الصابرة، العابدة، ماثلة كمنهج أمام "أمّ ياسر"، فباتت أنموذجاً يضجّ بالروح الفاطميّة.
كما إنّ للسيّدة زينب عليها السلام مكانة عظيمة في قلب الشهيدة، كانت تزورها كلّما سنحت لها الفرصة، وغالباً ما كانت الزيارة ضمن برنامج عملٍ خلال مؤتمرٍ، أو ندوةٍ، أو حتّى مشاركتها في احتفال تحضره لخدمة الناس، أو تكريماً لجهودٍ قد بذلتها لمواساة المحتاجين، أو لاستنهاض الهمم، وبثِّ العزيمة في النفوس.
كذلك الأمر في زيارتها للمراقد الشريفة للائمّة عليهم السلام، فقد أعيتها المشاعر المسكونة بالحنين حين سألها السيّد عبّاس عن شعورها عند رؤيتها للمقامات، فأجابت: "إنّ الموقف يعقد لسان التفكير، فيكتفي المرء بمناجاة الدموع".
ولمكانة إمام الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف في روحها حكاية أخرى، فقد كانت تتصرّف وكأنّه فرد من أفراد عائلتها، يعيش بينهم، واسمه ملازم لشفتيها. كانت تلجأ إليه في طلباتها، وتنتظر هداياه، تقول بتول: "كانت تعدنا بهداياه، فيقينها يتحدّث بذلك قبل لسانها، ودائماً كان الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف يلبّيها".

•بابها مفتوح لضيف الله
كان بيتها نزلاً لعوائل الشهداء، وكذلك لعوائل الأسرى والمحرومين والمستضعفين. كانت تستدين المال كي تكرم ضيوفها، خاصّة من يأتي من مسافات بعيدة كالجنوب وبيروت، فتفتح لهم قلبها قبل أبواب المنزل لأيّامٍ طويلة، قد تبلغ شهراً أو أكثر.. تنظّم لهم برنامجاً للترويح عن النفس، خاصّة لزوجات الشهداء، فتقوم باحتضانهنَّ ومداواة جروحهنّ، ولو بابتسامة أو كلمة إن تعذّرت المساعدة الماديّة.. مقام السيّدة خولة عليها السلام ومسجد رأس الإمام الحسين عليه السلام ومرجة رأس العين ونهر جنتا.. كانت تلك الأماكن مقصداً تصحب إليها حبيبات القلب والعزيزات كي تخفّف من وطأة الألم عن أرواحهنّ، وشعارها الدائم الحديث الشريف: "أحبّ الناس إلى الله أكثرهم خدمةً لعياله".

•أوّلى البشائر
كان دعاء السيّدة أمّ ياسر الدائم أن تستشهد مع زوجها السيّد عبّاس، وأن يختلط دمهما معاً.. فكانت البشارة الأولى أثناء لقائها الإمام الخمينيّ قدس سره في حسينيّة جمران. كانت تجلس في صف النساء على الشرفة المقابلة، وأضمرت في نفسها طلب الشهادة، فلاحظت أنّ الإمام قدس سره نظر إليها وابتسم، ثمّ تابع حديثه. وبشارة أخرى تلقّتها منه أيضاً، في لقاء خاصّ بحضور السيّد عبّاس (رضوان الله عليه) وطفلهما "حسين"، حين ربّت الإمام قدس سره على رأسه ودمعت عيناه وقال عنه: "مظلوم حسين".

•مهر الشهادة
تضاربت ذكريات الأهل حول: هل كان محسوماً أن ترافق السيّدة زوجها السيّد عبّاس إلى الجنوب للمشاركة في الذكرى السنويّة لاستشهاد الشيخ راغب حرب في بلدة جبشيت أم لا، لكنّها في النهاية ذهبت لتواسي عائلته، وعائلة الشيخ عبد الكريم عبيد، حينما كان أسيراً في سجون الاحتلال. ولم يكن محسوماً أن ترافقه وصغيرهما حسين في السيارة نفسها؛ إلّا أنّ نداء الشهادة ناداها. وأثناء العودة قصفتهم طائرات العدوّ الإسرائيليّ، فكانت دماؤهم مهراً للشهادة.
تحقیق حنان الموسوي
/انتهی/
رمز الخبر 1911942

سمات

تعليقك

You are replying to: .
  • captcha