وكالة مهر للأنباء، القسم الدولي: أصدرت محكمة العدل الدولية حكما أوليا بشأن شكوى جنوب أفريقيا ضد الكيان الصهيوني بتهمة ارتكاب جرائم "الإبادة الجماعية"، ويمكن تقييم هذا الحكم من عدة أبعاد.
بعد استمرار جرائم الكيان الصهيوني ضد أهالي غزة ووقوع جرائم إبادة جماعية في هذا القطاع، رفعت جنوب أفريقيا شكوى ضد هذا الكيان إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، وهناك عدة نقاط مهمة في الحكم الأولي الذي صدر يوم أمس الجمعة بتاريخ 26 يناير 2024.
أولاً؛ قبل صدور الحكم، منيت إسرائيل بأول هزيمة لها في المحكمة لأن المحكمة رفضت طلب إسرائيل برد شكوى جنوب أفريقيا، وأعلن رئيس المحكمة في جلسة صدور الحكم الأولي أن لدى هذه المحكمة صلاحية النظر في الشكوى وأن جنوب أفريقيا لها الحق في تقديم شكوى ضد إسرائيل في هذه المحكمة. كما أكدت المحكمة على أن تقارير جنوب أفريقيا كانت منطقية ومعقولة ويجب أخذها في عين الاعتبار ودراستها.
ثانياً؛ وفقًا لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1948، تعني الإبادة الجماعية أيا من الأفعال المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، ومن بين 17 قاضيًا في محكمة العدل الدولية، إعتقد 16 قاضيًا أنه يجب على إسرائيل أن توقف أعمال الإبادة الجماعية والتدمير في غزة.
ولذلك، فبالرغم من أن المحكمة أعلنت بأنها لن تصدر حالياً حكمًا بشأن ما إذا كانت جريمة الإبادة الجماعية قد حدثت أم لا، إلا أن وقوع الإبادة الجماعية كان أمراً واضحاً ومؤكداً لأعضاء هذه المحكمة، كما جاء في القرار الأولي الصادر أنّه "يحق للشعب الفلسطيني أن يكونوا في أمان من جريمة الإبادة الجماعية." وأشار خبراء في مجال القانون الدولي إلى أنّ تخصيص محكمة العدل الدولية 36 دقيقة من بداية نقاشها لشرح حق جنوب أفريقيا في مقاضاة إسرائيل، يظهر أن المحكمة لم تستبعد إمكانية وقوع إبادة جماعية في غزة.
وعلاوة على أنّ المحكمة لم تصدر أي قرار لصالح إسرائيل، طالبت هذا الكيان بتجنب كل ما يتعلق بالقتل والاعتداء والتدمير بحق سكان غزة وأن يرفع تقريراً إلى المحكمة في غضون شهر بشأن كل التدابير المؤقتة التي يجب أن يمتثل لها، كما أنّ أغلبية قضاة المحكمة صوتوا لصالح اتخاذ تدابير وقائية في قطاع غزة، وفي مقابلة مع قناة الجزيرة، وصف خبير قانوني قرارات محكمة لاهاي بأنها انتصار للشعب الفلسطيني، مشددًا في الوقت نفسه على ضرورة تنفيذ تدابير أكثر صرامة ضد كيان الاحتلال الصهيوني لمنعه من ارتكاب مزيد من جرائم الحرب في غزة.
ثالثًا؛ إنّ محكمة العدل الدولية هي الهيئة القضائية الرئيسية لمنظمة الأمم المتحدة، كما يُمكن اعتبار الجمعية العامة للأمم المتحدة ركناً قانونياً حيث يمتلك جميع أعضائها حق التصويت بالمساواة ولا وجود لحق النقض، أما مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فيُعتبر ركيزة سياسية حيث يمكن لحق النقض أن يعيق تنفيذ العدالة، والجدير بالذكر أنّ محكمة العدل الدولية تمثل الركيزة القضائية التي تصدر أحكامًا قضائية بعيداً عن "السياسة"، وتُعتبر قرارات المحكمة ملزمة ونهائية في ما يتعلق بالدول، وعلى هذا الأساس، أعلنت حكومة ألمانيا أنها ستحترم قرار محكمة العدل الدولية بخصوص إسرائيل بغض النظر عن محتواه، وأكدت وزارة الخارجية الفرنسية في بيان عن التزامها باحترام القوانين الدولية ودعمها لمحكمة العدل الدولية.
رابعًا؛ يُعتبر صدور هذا القرار نوعًا من الهزيمة والفشل لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الذي لم يصدر حتى الآن أي قرار لوقف جرائم الكيان الصهيوني ضد غزة. تجدر الإشارة إلى أنّه تمت إدانة إسرائيل عدة مرات في الجمعية العامة للأمم المتحدة بسبب الجرائم التي ترتكبها في غزة، لكن قرارات هذه الجمعية ليست ملزمة، وهذا في حين أن أحكام محكمة العدل الدولية ملزمة وتُعتبر نوعًا من النقد لأداء القوى الكبرى تجاه الوضع في غزة.
خامسًا؛ بفضل القرار الصادر، أصبحت الكرة الآن في ملعب إسرائيل، حيث تم منح هذا الكيان فرصة لمدة شهر لاتخاذ "التدابير اللازمة لتلبية الاحتياجات الإنسانية لسكان غزة فورًا"، بالإضافة إلى "اتخاذ التدابير اللازمة لمنع ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية ضد مجموعة بشرية"، إنّ استمرار الجرائم الصهيونية ضد غزة يمكن أن يؤدي إلى عواقب قانونية لهذا الكيان، فعلى الرغم من أن الصهيونيين يدّعون أنهم لم يتكبدوا أي هزيمة لعدم صدور قرار بوقف الحرب، إلا أن ردود فعل السلطات الصهيونية تدل على قبولهم للهزيمة في هذه المحكمة.
وفي هذا السياق، ورداً على قرار محكمة العدل الدولية، وصف بنيامين نتنياهو الاتهامات الموجهة لإسرائيل بشأن ارتكاب الإبادة الجماعية بأنها "مروعة وصادمة"، وقال: "إن استعداد المحكمة لمناقشة مزاعم الإبادة الجماعية ضد إسرائيل هو وصمة عار لن تمحى من جيل إلى جيل"، كما اتهم وزير الأمن القومي في الكيان الصهيوني، إيتمار بن غفير، محكمة العدل الدولية "بالمعاداة السامية"، وادعى أن قرارها يثبت أنها لا تسعى إلى تحقيق العدالة.
سادساً؛ يفرض قرار محكمة العدل الدولية التزامات قانونية دولية على إسرائيل، لكن لا توجد آلية تنفيذية لهذا الأمر، ولذلك فمن المحتمل أن تمتنع إسرائيل، بدعم من الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية، عن تنفيذ هذا الحكم، كما رفضت سابقاً تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2334 بدعم من الحكومة الأمريكية السابقة، والذي يتضمن وضع نهاية للمستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية.
وفي هذا السياق، وصف بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، قرار محكمة العدل الدولية للتعامل مع هذه القضية بأنه "مثير للإشمئزاز" وأعلن أن "إسرائيل ستواصل الحرب حتى تحقيق النصر الكامل". وفيما كانت ناليدي باندور، وزيرة خارجية جنوب أفريقيا التي كانت حاضرة في جلسة المحكمة، تجيب على سؤال صحفي حول ما إذا كانت إسرائيل ستلتزم بأوامر المحكمة، قالت إنها "لم تكن أبدًا متفائلة حقًا بشأن إسرائيل، لكنها تأمل أن تقدم القوى الصديقة لإسرائيل النصيحة لهذا النظام بالامتثال لقرارات المحكمة". وإذا امتنع الكيان الصهيوني عن تنفيد قرار المحكمة، فإنّ مصداقية النظام الدولي وخاصة مؤسساته القانونية، ستكون موضع شك.
سابعًا؛ بما أن القرار الأولي للمحكمة صدر والحرب لاتزال مستمرة ولا يوجد مايشير إلى نهايتها، فإنه يُعتبر خطوة مباركة ونقطة تحول. وفي رد فعلها على هذا القرار، أعربت حكومة جنوب أفريقيا عن ترحيبها بالإجراءات المؤقتة التي فرضتها محكمة العدل الدولية ضد الكيان الصهيوني، مشيرة إلى أنّ هذا القرار يعد انتصارًا قاطعًا لسيادة القانون ونقطة تحول مهمة في تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني. كما وصف "سامي أبو زهري"، أحد قادة حركة حماس، القرار الأولي الذي أصدرته محكمة العدل الدولية بأنه تطور مهم من شأنه أن يساهم في عزل الكيان الصهيوني وكشف جرائمه الذي يرتكبها في غزة.
ثامناً؛ كان قرار المحكمة بمثابة خطوة مهمة ومشرفة لجنوب أفريقيا التي كانت ذات يوم ضحية لنظام الفصل العنصري، وقد قامت جنوب أفريقيا برفع دعوى قضائية ضد إسرائيل لإنهاء واحدة من أعظم المآسي الإنسانية في القرن الحادي والعشرين.
وفي النتيجة، لو أصدرت محكمة العدل الدولية إلى جانب تدابيرها الوقائية، قراراً بوقف إطلاق النار في غزة، فكان ذلك أفضل قرار يمكن أن تصدره، ولكن على الرغم من ذلك، وفي النظام العالمي الذي يحمل اللوبي الصهيوني وزنًا كبيرًا وتفرض الولايات المتحدة سلطة كبيرة كداعمة رئيسية لكيان الاحتلال الصهيوني، يمكن اعتبار قرار محكمة العدل الدولية "انتصارًا كبيرًا" للفلسطينيين، و"هزيمة استراتيجية" لكيان الاحتلال، ونقطة تحول مهمة لصالح "العدالة".
/انتهى/
تعليقك