وكالة مهر للأنباء- قسم الشؤون الدولية: في حين تمكنت الثورة الاسلامية من حماية نفسها من الثورة المضادة التي كان من الممكن أن تعصف بها، فشلت الثورة المصرية في تحقيق نفس النجاح. في هذه المقالة، سنستعرض العوامل التي ساهمت في فشل الثورة المصرية، مقارنةً بنجاح الثورة الاسلامية في التغلب على التحديات الداخلية والخارجية. وسنكشف كيف أن غياب الرؤية الواضحة والفراغ القيادي، بالإضافة إلى التنافس السياسي والظروف الخارجية، كانت من بين أبرز العوامل التي أدت إلى تعثر الثورة المصرية، بينما استطاع النظام الإيراني الجديد تجنب نفس هذه الأزمات، ونجح في ترسيخ نفسه رغم الصعوبات.
سفينة بلا ربّان...
عند مقارنة الثورة المصرية، بل والثورات العربية عمومًا، بالثورة الإيرانية، يبرز فارق جوهري يتمثل في غياب القيادة الواضحة للحركة الاجتماعية في الحالة المصرية، سواء قبل اندلاع الثورات أو بعدها. ففي الوقت الذي افتقدت فيه الثورات العربية إلى شخصية موحدة تقود الجماهير، كانت الثورة الإيرانية ضد نظام الشاه تتمحور حول شخصية آية الله الخميني(ره)، الذي لم يكن مجرد زعيم سياسي، بل أيضًا أعلى مرجعية دينية في المذهب الشيعي، مما منح حراكه طابعًا دينيًا وسياسيًا في آنٍ واحد.
لعب الإمام الخميني دورًا محوريًا في تعبئة الجماهير قبل الثورة بسنوات، وأحد أبرز محطات هذا الدور كان خطابه في 3 يونيو 1963، الذي ألقاه بمناسبة يوم عاشوراء، حيث هاجم الشاه والولايات المتحدة والكيان الصهيوني علنًا. وما إن انتهى خطابه حتى خرج نحو 100 ألف متظاهر يهتفون "الموت للديكتاتور"، متجهين نحو قصر الشاه، في تصعيد غير مسبوق.
ردّ نظام الشاه سريعًا عبر جهاز السافاك (الشرطة السرية)، فاعتقل الإمام الخميني، لكن هذا الاعتقال أشعل احتجاجات واسعة عُرفت لاحقًا بـ"انتفاضة 15 خرداد"، حيث اندلعت مظاهرات عارمة في مختلف المدن الإيرانية، كادت أن تتحول إلى ثورة مبكرة. وكان الهتاف الأبرز للمتظاهرين آنذاك: "الموت أو الخميني"، مما يعكس مدى ارتباط الثورة بقيادته. ومع تصاعد الاحتجاجات، اضطر الشاه في النهاية إلى إطلاق سراحه ومنحه مكانة مرجعية دينية، في خطوة تهدف إلى احتواء الغضب الشعبي.
بالمقابل شهدت الثورة المصرية منذ انطلاقتها فراغًا واضحًا في القيادة، إذ افتقرت إلى شخصية معارضة بارزة قادرة على توجيه الحراك الشعبي أو حشد الجماهير في الشوارع. فعلى الرغم من عقودٍ من القمع والفقر والديكتاتورية التي عانى منها الشعب المصري، لم تفرز المعارضة شخصية موحدة تتصدر المشهد الثوري، ما جعل الثورة تأخذ طابعًا شعبيًا شبابيًا خالصًا، مدفوعًا بقوة وسائل التواصل الاجتماعي، وتحديدًا صفحات "فيسبوك"، التي لعبت دور المحرك الرئيسي للحراك.
وفي هذا السياق، جاء انتخاب محمد مرسي كأول رئيس مدني لمصر بعد فوزه بنسبة 51.73% في أول انتخابات نزيهة تشهدها البلاد، لكنه لم يكن قائدًا للثورة بقدر ما كان أحد مخرجاتها. ففوزه بهذه النسبة الضئيلة عكس بوضوح عدم امتلاكه قاعدة شعبية واسعة قادرة على تعبئة الشارع وقيادته، ما جعل المشهد السياسي المصري أكثر تعقيدًا وتغيرًا في الفترة اللاحقة.
هذه المفارقة توضح كيف أن الثورة الاسلامية كانت مسيّرة بقيادة واضحة منذ البداية، بينما افتقرت الثورة المصرية إلى زعيم يجمع الجماهير ويوجه مسار الأحداث، وهو ما أدى لاحقًا إلى تعقيدات في إدارة المرحلة الانتقالية بعد سقوط النظام.
سفينة بلا بوصلة..
إحدى الفروقات الجوهرية بين الثورة الاسلامية والثورة المصرية كانت في البُعد الأيديولوجي، وهو ما انعكس بشكل مباشر على نجاح الأولى في تأسيس نظام جديد، وفشل الثانية في تحقيق استقرار سياسي بعد سقوط النظام.
كانت الثورة الاسلامية عام 1979 ذات هوية أيديولوجية واضحة، حيث قامت في الأساس على أفكار الإسلام السياسي، وتحديدًا نظرية "ولاية الفقيه" التي طرحها الإمام الخميني. وعلى الرغم من مشاركة قوى أخرى، مثل اليساريين والليبراليين، في الاحتجاجات ضد الشاه، إلا أن الإسلاميين بقيادة الإمام الخميني كانوا الفاعل الأساسي في توجيه الثورة والسيطرة على المشهد السياسي بعد انتصارها.
قبل سقوط الشاه، كانت هناك رؤية واضحة لما يجب أن يكون عليه النظام الجديد: إقامة جمهورية إسلامية تقوم على ولاية الفقيه، بحيث يكون للمرجع الديني الأعلى سلطة سياسية إلى جانب سلطته الدينية. وبمجرد سقوط الشاه، تم الإعلان عن استفتاء شعبي في أبريل 1979، حيث صوّتت الأغلبية لصالح قيام الجمهورية الإسلامية، مما أعطى الثورة مسارًا منظمًا نحو بناء الدولة الجديدة دون فراغ سياسي.
على النقيض، افتقرت الثورة المصرية عام 2011 إلى رؤية فكرية موحدة حول شكل الدولة بعد إسقاط حسني مبارك، مما جعل المرحلة الانتقالية تتسم بالفوضى والصراعات السياسية. حتى أن عالم الاجتماع السياسي "آصف بيات" أطلق على الثورات العربية مصطلح"refeluation"، أي "الثورة الإصلاحية". فالثورة المصرية بدأت كاحتجاجات شبابية ضد الفساد والاستبداد، لكنها لم تحمل مشروعًا فكريًا أو أيديولوجيًا واضحًا لما يجب أن يكون عليه النظام البديل. فلم يكن هناك زعيم أو حزب يقود الثورة برؤية موحدة، بل كانت حركة عفوية، اجتمعت فيها قوى سياسية متعددة ومتناقضة، من ليبراليين إلى إسلاميين إلى يساريين، دون توافق على هدف موحد بعد إسقاط النظام.
وزاد من تعقيد المشهد أن جماعة الإخوان المسلمين، وهي أكبر قوة إسلامية منظمة في مصر، لم تنضم إلى الاحتجاجات منذ اليوم الأول، بل تأخرت في الدخول إليها، وهو ما أضعف رصيدها عند الشباب وأثار حولها شبهات بالتواطؤ مع النظام القديم أو على الأقل التردد في مواجهته بشكل حاسم. هذا التأخر جعل البعض ينظر إلى الإخوان باعتبارهم مستفيدين من الثورة أكثر من كونهم مشاركين رئيسيين في إشعالها، مما أدى لاحقًا إلى أزمة شرعية سياسية عندما فاز مرشحهم محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية. فبسبب هذا التردد الأولي، لم يُنظر إليهم كقادة طبيعيين للثورة، بل كطرف سياسي دخل على المشهد في وقت متأخر، ثم حاول الاستحواذ على السلطة دون توافق وطني شامل.مما عزز الانقسامات وسهّل على قوى الدولة العميقة استعادة السيطرة على البلاد لاحقًا.
بين التغيير الجذري والإصلاح السطحي
إحدى الفروقات الحاسمة الأخرى بين الثورة الاسلامية عام 1979 والثورة المصرية عام 2011 تكمن في مدى التغيير الذي طرأ على مؤسسات الدولة بعد سقوط النظام. فبينما أحدثت الثورة الاسلامية تحوّلًا جذريًا في هياكل الحكم والجيش والاقتصاد والأمن، اكتفت الثورة المصرية بتغيير الرئيس، بينما بقيت مؤسسات الدولة العميقة على حالها، وهو ما أدى لاحقًا إلى فشلها في تحقيق أهدافها.
عند انتصار الثورة الاسلامية وسقوط نظام الشاه، لم يكن التغيير مجرد استبدال رأس السلطة، بل أعيد تشكيل الدولة بشكل كامل. تم تفكيك الجيش القديم وإنشاء جيش جديد مع مؤسسة موازية جديدة هي حرس الثورة الإسلامية، مهمتها الأصلية الحفاظ على الثورة. كما جرى حل جهاز "السافاك"، الجهاز الأمني للنظام السابق، واستبداله بأجهزة جديدة . حتى في المجال الاقتصادي، تمت مصادرة وتأميم العديد من الشركات والمؤسسات التي كانت تحت سيطرة نخب مرتبطة بالشاه، مما أعاد توزيع موازين القوى الاقتصادية وفق الرؤية الجديدة للدولة الإسلامية. ولم يكن النظام السياسي بمنأى عن هذا التغيير الجذري، فقد تم إلغاء أي أثر للمؤسسات الملكية، وأعيدت صياغة الدولة وفق نظرية "ولاية الفقيه"، مما أعطى للنظام الجديد شرعية دينية وسياسية مستمرة.
في المقابل، لم تحقق الثورة المصرية تغييرًا حقيقيًا في بنية الدولة، بل اكتفت بإسقاط حسني مبارك كشخص، فيما استمرت المؤسسات العسكرية والأمنية والاقتصادية بنفس تركيبتها القديمة. الجيش، الذي كان جزءًا من نظام مبارك، لم يتم تفكيكه أو إعادة هيكلته، بل أصبح هو الجهة التي تدير المرحلة الانتقالية، مما سمح له لاحقًا بالعودة إلى الحكم وإزاحة أي قوى سياسية جديدة. أما الأجهزة الأمنية، التي كانت أداة القمع الرئيسية قبل الثورة، لم تشهد أي تغيير جذري، بل عادت تدريجيًا لممارسة نفس السياسات القمعية بعد فترة وجيزة. على الصعيد الاقتصادي، لم تُمس شبكة المصالح المرتبطة برجال الأعمال والطبقة الحاكمة السابقة، فبقيت الأوضاع كما كانت، مما أفقد الثورة قدرتها على تحقيق العدالة الاجتماعية التي طالب بها المحتجون. أما على المستوى السياسي، فقد ظلت الأحزاب والقوى المرتبطة بالنظام السابق فاعلة في المشهد، مما جعل أي تغيير ديمقراطي هشًا وغير محصّن ضد الثورة المضادة.
غياب التغيير الجذري في مؤسسات الدولة المصرية جعل من المستحيل تنفيذ أي مشروع حقيقي للتحول الديمقراطي، حيث ظل النفوذ القديم قائمًا في مراكز السلطة، ونجح في استعادة السيطرة تدريجيًا، حتى عاد النظام العسكري إلى الحكم بصيغة جديدة. في المقابل، مكّن تفكيك الدولة القديمة في إيران النظام الجديد من ترسيخ نفسه ومنع أي محاولات لإعادة إنتاج النظام السابق، مما جعل الثورة الإيرانية واحدة من الثورات القليلة التي تمكنت من تجاوز خطر الثورة المضادة وبناء نظام سياسي مختلف بالكامل عن النظام الذي أسقطته.
الحرب مع العراق، ربَّ ضارةٍ نافعة...
رغم أن الحرب العراقية الإيرانية شكّلت تهديدًا وجوديًا لإيران وثورتها الفتية، إلا أنها في الوقت ذاته منحت النظام الجديد فرصة غير متوقعة لتعزيز تماسكه الداخلي وإحياء الشعور الوطني، في مشهد يُشبه إلى حد كبير ما حدث مع فرنسا بعد ثورتها عام 1789، حين واجهت تهديدًا خارجيًا أدى إلى توحيد صفوفها الداخلية. فبدلًا من أن تؤدي الحرب إلى إضعاف إيران أو تفجير التناقضات الداخلية التي كانت لا تزال قائمة بعد الإطاحة بالشاه، ساهمت في خلق حالة من الوحدة الوطنية تحت راية الدفاع عن البلاد، وهو ما جنب المجتمع الإيراني الانقسامات التي غالبًا ما تعقب الثورات.
منذ اندلاع الحرب في عام 1980، تحوّل الصراع مع العراق إلى قضية وطنية جامعة، حيث أصبحت الثورة، التي كانت لا تزال محل جدل بين بعض الأطياف السياسية، جزءًا من الهوية القومية في مواجهة عدو خارجي. فالحرب لم تعد مجرد مواجهة بين دولتين، بل تحولت إلى صراع من أجل البقاء، وهو ما دفع حتى المعارضين أو المترددين تجاه النظام الجديد إلى الاصطفاف خلف القيادة الجديدة. وبمرور الوقت، أصبح الدفاع عن إيران لا ينفصل عن الدفاع عن الثورة، مما عزز شرعية النظام السياسي الذي نشأ بعد عام 1979، وأعطاه قوة استثنائية لمواجهة أي اضطرابات داخلية محتملة.
على العكس، في الحالة المصرية، لم يكن هناك تهديد خارجي يعزز الشعور الوطني بعد سقوط حسني مبارك. بقي المجتمع المصري مفتوحًا على تناقضاته الداخلية، وانقسمت القوى السياسية سريعًا بين من يرى الثورة فرصة لإعادة تشكيل النظام ومن يسعى للحفاظ على الهياكل التقليدية للدولة. ومع غياب خطر خارجي يوحّد الصفوف، تصاعدت الخلافات الداخلية، وتحولت الساحة السياسية إلى صراع بين القوى الثورية والنظام القديم، وبين الإسلاميين والعلمانيين، مما جعل المرحلة الانتقالية فوضوية وهشة.
إيران، التي كانت مهددة وجوديًا في سنواتها الأولى، خرجت من الحرب أكثر تماسكًا، وأكثر قدرة على فرض نظامها الجديد دون مقاومة داخلية كبيرة. أما مصر، التي لم تواجه تهديدًا مماثلًا، فقد دخلت في صراعات سياسية أضعفت الثورة، ومهدت الطريق أمام عودة الدولة العميقة بقوة، لينتهي الأمر بإجهاض المشروع الثوري بأكمله.
عنصرالمفاجأة
عنصر المفاجأة كان أحد العوامل البارزة التي لعبت دورًا حاسمًا في نجاح الثورة الاسلامية وفشل الثورة المصرية. ففي الوقت الذي كانت فيه الاستخبارات الأمريكية تتوقع في تقرير لها عام 1978 بقاء الشاه في السلطة لعشر سنوات أخرى، جاء سقوط النظام بشكل مفاجئ وسريع، حتى أنَّ الرئيس الأمريكي آنذاك، "جيمي كارتر"، وصف إيران قبل الثورة بعام واحد فقط بـ "جزيرة الإستقرار" في المنطقة. لقد سقط نظام الشاه في وقت كانت فيه معظم التوقعات تشير إلى استمراريته، وهو ما جعل الثورة الإيرانية تتسم بمفاجأتها الكبرى بالنسبة للعالم الغربي.
على عكس ذلك، كانت الثورة المصرية قد شهدت سياقًا مختلفًا. عندما انفجرت الاحتجاجات في مصر، لم تكن مفاجأة مثلما كانت في إيران. فقد كانت الثورة التونسية في يناير 2011 بمثابة نقطة انطلاق ومؤشر للقوى الغربية على أن المنطقة قد تشهد تغييرات عميقة، مما جعل الغرب أكثر استعدادًا للتعامل مع المتغيرات في مصر. وفي ظل هذا المناخ، كان تدخل القوى الدولية في الثورة المصرية محتملاً وأقل تعقيدًا مقارنةً بثورة إيران، التي كانت مفاجئة وغير متوقعة.
وفي الوقت الذي حقق محمد مرسي فوزًا في أول انتخابات ديمقراطية بعد الثورة المصرية، ظهرت نقطة حاسمة في العلاقة بين مصر والغرب. ففي خطوة كانت محط جدل داخلي، أرسل مرسي رسالة مودة إلى رئيس الكيان الصهيوني آنذاك "شمعون بيريز" مخاطبً إياه "عزيزي وصديقي العظيم"، وهو ما أثار حفيظة كثير من المصريين مما ساهم في انخفاض شعبية مرسي الهشّة أصلاً بشكل مضاعف، ولكن يبدو أن هذه الرسالة لم تكن كافية لطمئنة الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني. فبينما كانت إسرائيل تحرص على الحفاظ على علاقاتها الاستراتيجية مع مصر، كانت هناك مخاوف متزايدة من أن وصول قوى إسلامية قريبة فكريًا من حماس إلى الحكم في مصر يمكن أن يشكل تهديدًا على حدودها الجنوبية.
خلاصة القول
تقدم المقارنة بين الثورة الاسلامية والثورة المصرية رؤى مهمة حول ما يجعل الثورة تحقق النجاح المستدام وما يؤدي إلى فشلها. رغم التشابه في الشكل، فقد اختلف مصير الثورتين بشكل جذري. بينما نجحت الثورة الاسلامية في بناء دولة جديدة تحت قيادة واضحة وأيديولوجية موحدة، وأثبتت قدرتها على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، فشلت الثورة المصرية في تحقيق أهدافها بسبب غياب الرؤية الموحدة، الفراغ القيادي، والصراعات السياسية التي ظهرت بعد الإطاحة بمبارك. كما أن القوى الخارجية، مثل الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، لعبت دورًا في التأثير على مسار الثورة المصرية بشكل لم يحدث في إيران. إن ما يمكن استخلاصه من هاتين التجربتين هو أن نجاح أي ثورة لا يعتمد فقط على إسقاط النظام القائم، بل على القدرة على بناء مؤسسات جديدة، توحيد القوى الثورية، وحماية التغيير من التدخلات الداخلية والخارجية.
/انتهى/
ياسر المصري، صحفي في وكالة مهر للأنباء
تعليقك