٢١‏/٠٥‏/٢٠٢٥، ٩:٥٨ ص

الأزمة الدبلوماسية الجزائرية- الفرنسية: إرهاصات حرب باردة أم عاصفة في فنجان؟

الأزمة الدبلوماسية الجزائرية- الفرنسية: إرهاصات حرب باردة أم عاصفة في فنجان؟

تعيش العلاقات الجزائرية-الفرنسية واحدة من أشد فصول التوتر منذ الاستقلال. التقرير التالي يستعرض أبرز محطات الأزمة الحالية، وانعكاساتها على العلاقات الثنائية، ويطرح تساؤلات حول مستقبل هذه العلاقة في ظل واقع سياسي داخلي متغير في باريس والجزائر معاً.

وكالة مهر للأنباء، قسم الشؤون الدولية: منذ استقلال الجزائر عن فرنسا عام 1962، لم تهدأ التوترات التي تطبع العلاقة بين البلدين. هي علاقة تتأرجح بين التقارب والتنافر، تُشبه موجات مدّ وجزر. إذ لا تزال ذاكرة الاستعمار الفرنسي، بكل ما حملته من قمع واضطهاد، حاضرة بقوة في الوجدان الجزائري، ما رسّخ صورة فرنسا كعدو تاريخي ارتبط اسمه بالظلم والاستغلال.

وكما هو الحال في تجارب استعمارية كثيرة، أعاد الاستعمار الفرنسي تشكيل البنية الاجتماعية والاقتصادية للجزائر، ليس بهدف التنمية، بل لضمان تفوّق المستعمِر وإبقاء المستعمَر في دائرة التبعية.

من جانب آخر، ورغم مرور أكثر من ستة عقود على الاستقلال، الذي دُفع ثمنه غاليًا بأرواح أكثر من مليون شهيد، فإن فرنسا ما زالت تُعد من أبرز الشركاء الاقتصاديين للجزائر. فقد أرست اتفاقيات "إيفيان" أسس هذه العلاقة، ضامنة لفرنسا استمرار مصالحها في مجالات حيوية كاستخراج النفط والغاز، مقابل اعترافها بالاستقلال وتعهدها بدعم اقتصادي للجزائر الفتية.

لكن هذه العلاقة المعقدة دخلت في الأشهر الأخيرة منعطفًا حادًا. فمنذ عام 2024، بدأت ملامح أزمة دبلوماسية تتشكل، مع تصاعد الخلافات وصولًا إلى تبادل الطرد الدبلوماسي، وتقييد منح التأشيرات. واليوم، بينما يُكتب هذا التقرير، يبدو أن البلدين يقتربان أكثر من أي وقت مضى من شبه قطيعة سياسية.

في هذا السياق، يسعى هذا التقرير إلى تفكيك خيوط الأزمة الحالية، واستعراض أسبابها العميقة، وتبيان تداعياتها المحتملة على مستقبل العلاقة بين باريس والجزائر.

نقمة الذاكرة… جراح لم تندمل

من أبرز القضايا التي لا تزال تؤجج الخلاف بين الجزائر وفرنسا، تظل "الذاكرة الاستعمارية" محور توتر دائم. فالجزائر لم تتوقف عن المطالبة باعتذار رسمي من باريس عن حقبة الاستعمار الفرنسي الممتدة من 1830 إلى 1962، بما تخللتها من مذابح جماعية وانتهاكات واسعة ارتكبها الجيش الفرنسي. غير أن فرنسا ترفض حتى اليوم تقديم مثل هذا الاعتذار، متمسكة بما تعتبره "قراءة متعددة للتاريخ".

الأزمة الدبلوماسية الجزائرية- الفرنسية: إرهاصات حرب باردة أم عاصفة في فنجان؟

وقد تصاعد هذا التوتر مجددًا في مارس 2025، حين منعت القناة الفرنسية عرض الفيلم الوثائقي السويسري "الجزائر: وحدات الأسلحة الخاصة"، والذي يسلّط الضوء على استخدام الجيش الفرنسي أسلحة كيميائية ضد المدنيين الجزائريين. أثار القرار جدلاً واسعًا في الأوساط الإعلامية والحقوقية، ووجّهت أصابع الاتهام إلى فرنسا بـ"انتقائية حرية التعبير"، ما عمّق الشكوك الجزائرية إزاء السياسات الفرنسية.

وتُضاف إلى ذلك شكاوى الجزائر المتكررة من المعاملة التمييزية التي يتعرض لها رعاياها في المطارات الفرنسية، حيث تقول إنهم يخضعون لتفتيش وتدقيق يفوق المعتاد، في ممارسات تُصنّفها الجزائر ضمن "العنصرية المؤسساتية".

كما امتدت الخلافات بين البلدين إلى ملف الهجرة، إذ قررت فرنسا عام 2021 تقليص عدد التأشيرات الممنوحة للجزائريين، احتجاجًا على رفض الجزائر استقبال المهاجرين غير النظاميين. لكن ذروة الأزمة لم تكن حينها، بل جاءت في عام 2024، عندما تصاعد الخلاف بشكل غير مسبوق بسبب تطورات سياسية جديدة.

الصحراء الغربية.. وقضية "بوخرص"

لطالما دعمت الجزائر حق تقرير المصير في الصحراء الغربية ووقفت إلى جانب جبهة البوليساريو. في المقابل، ظل الموقف الفرنسي غامضًا إلى حد كبير. لكن في عام 2024، خرج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن هذا الغموض بإعلان دعمه لمقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، وهو موقف يتناقض مع قرارات الأمم المتحدة. التصريح، الذي ورد في رسالة رسمية إلى الملك المغربي، فجّر غضب الجزائر، التي رأت في ذلك انحيازًا صارخًا، واستدعت سفيرها من باريس. وذهبت تحليلات، كتصريحات "ليزلي فارين" مديرة معهد الدراسات الدولية في باريس لقناة الجزيرة، إلى أنه من الممكن أن ضغوطًا إسرائيلية تقف وراء هذا الموقف الفرنسي، في إطار حسابات التطبيع الإقليمي.

في أبريل 2024، تفجرت أزمة جديدة إثر حادثة اختطاف الصحفي الجزائري المعارض "أمير بوخرص" قرب باريس. وبعد عام من الحادثة، أعلنت السلطات الفرنسية في أبريل 2025 توقيف ثلاثة دبلوماسيين جزائريين متهمين بالضلوع في العملية، في خطوة وصفتها الجزائر بأنها "انتهاك صارخ للحصانة الدبلوماسية". وأكدت الجزائر أن أحد موظفي قنصليتها تم توقيفه في الشارع دون إخطار رسمي، في خرق للاتفاقيات الدولية.

الأزمة الدبلوماسية الجزائرية- الفرنسية: إرهاصات حرب باردة أم عاصفة في فنجان؟

وردًا على ذلك، قررت الجزائر طرد 12 موظفًا في السفارة الفرنسية، ومنحتهم مهلة 48 ساعة للمغادرة، بحجة دخولهم البلاد دون موافقة رسمية على ممارسة مهامهم. لكن مجلة " لو جورنال دو ديمانش" الفرنسية كشفت أن بعض هؤلاء الموظفين ينتمون إلى جهاز الاستخبارات الفرنسي، وكانوا يحققون في قضية اختطاف بوخرص. وردّت باريس بالمثل، فطردت العدد نفسه من الدبلوماسيين الجزائريين، لتتخذ الأزمة بعدًا أكثر حدة.

الاقتصاد يدفع الثمن

لم تظل الأزمة السياسية بين باريس والجزائر حبيسة الأروقة الدبلوماسية، بل سرعان ما ألقت بظلالها الثقيلة على الشراكة الاقتصادية بين البلدين. ففي الأشهر الأولى من عام 2025، بدأت المؤشرات السلبية تظهر بوضوح على حركة التبادل التجاري، حيث كشفت مجلة " لوفيغارو" أن الصادرات الفرنسية إلى الجزائر تراجعت بنحو 20% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.

الأزمة الدبلوماسية الجزائرية- الفرنسية: إرهاصات حرب باردة أم عاصفة في فنجان؟

هذا التراجع لا يعكس فقط فتور العلاقات الرسمية، بل يشير إلى عراقيل عملية تعيق انسياب الصادرات الفرنسية. فشركات فرنسية عديدة أبلغت عن تعقيدات إدارية غير مبررة، وتأخيرات في معالجة ملفاتها الجمركية. كما قررت السلطات الجزائرية رفض استئناف نشاط مصانع فرنسية بارزة مثل "رينو"، في خطوة اعتبرها مراقبون مؤشراً على توجه جديد لإعادة رسم خريطة الشراكة الصناعية.

الأمر لم يتوقف عند ذلك، بل امتد إلى استبعاد فرنسا من مناقصات مهمة، شملت قطاعات حساسة، ما يُنذر بخسارتها التدريجية لموقعها كمُصدّر رئيسي إلى الجزائر، ثاني أكبر وجهة إفريقية للصادرات الفرنسية بعد المغرب.

في مواجهة هذا التراجع، ارتفعت أصوات داخل أوساط الأعمال الفرنسية تطالب بفصل الاقتصاد عن الخلافات السياسية، محذّرة من أن استمرار التصعيد سيضر بمصالح الشركات الفرنسية وتصاعدت دعوات متزايدة لإعادة تقييم السياسة التجارية مع الجزائر على أسس أكثر براغماتية، للحفاظ على ما تبقى من الشراكة التاريخية بين البلدين.

مستقبل العلاقات: بين ضباب الداخل الفرنسي وتصلّب المواقف

بينما تسير العلاقات الفرنسية-الجزائرية نحو مزيد من التوتر، يلوح في الأفق خطر قطيعة دبلوماسية كاملة. غير أن جذور الأزمة لا تكمن فقط في الخلافات الثنائية، بل تمتد أيضاً إلى الداخل الفرنسي، حيث يعيش المشهد السياسي حالة من الاستقطاب الحاد.

فالحكومة الحالية بقيادة "إيمانويل ماكرون" هي نتاج تحالف هش مع اليمين الجمهوري، وهو تحالف فرض على الرئيس الفرنسي تقديم تنازلات سياسية ، من بينها إسناد حقيبة وزارة الداخلية إلى "برونو ريتايو"، الشخصية المثيرة للجدل والمعروفة بمواقفها المتشددة ضد المسلمين والمهاجرين. واللافت أن أجهزة الاستخبارات الفرنسية تخضع مباشرة لإشراف وزارة الداخلية، ما يعطي ريتايو هامشاً واسعاً للتأثير في الملفات الحساسة، ومنها ملف العلاقات مع الجزائر.

الأزمة الدبلوماسية الجزائرية- الفرنسية: إرهاصات حرب باردة أم عاصفة في فنجان؟

يرى العديد من المراقبين أن الإجراءات الأمنية والتضييقات المتزايدة ضد الجزائريين في فرنسا ليست إلا انعكاساً لطموحات ريتايو السياسية، إذ يسعى للفوز برئاسة الحزب الجمهوري ويحرص على كسب ود القاعدة اليمينية المتطرفة، حتى وإن جاء ذلك على حساب العلاقات الخارجية لبلاده. وجوده في هذا المنصب، بحسب محللين، يعقّد أي مساعٍ لخفض التوتر.

وفي المقابل، يرى فريق من المحللين أن الأزمة قد تبقى ظرفية، وأن ماكرون، في حال فاز بتحالف برلماني مريح خلال الانتخابات التشريعية المقبلة، قد يزيح ريتايو من المشهد، ويفتح الباب لتعيين وزير داخلية أكثر اعتدالاً يمكنه لعب دور في تهدئة الأوضاع. إلا أن هذا التفاؤل يصطدم بواقع سياسي أكثر تشاؤماً، إذ تشير مؤشرات عدة إلى صعود الخطاب اليميني المتطرف في فرنسا، ما ينذر بإمكانية وصول رئيس جمهورية يميني إلى الإليزيه في الانتخابات المرتقبة بعد عامين، وهو سيناريو قد يؤدي إلى مزيد من التصعيد في العلاقات مع الجزائر ومع دول إسلامية أخرى.

خلاصة القول

في النهاية، تبقى العلاقات الجزائرية-الفرنسية رهينة ماضٍ مثقل بالجراح، وحاضر مضطرب تتجاذبه الحسابات السياسية والتوترات المتصاعدة. فرغم ما يجمع البلدين من روابط اقتصادية وثقافية وتاريخية، فإن الخلافات العميقة، سواء حول الذاكرة الاستعمارية أو الملفات الجيوسياسية الحساسة كقضية الصحراء الغربية، لا تزال تعرقل تطبيعاً حقيقياً ومستداماً.

ومع تزايد النفوذ اليميني داخل الساحة السياسية الفرنسية، وميل الجزائر إلى تنويع شراكاتها الدولية والحد من الارتهان لفرنسا، يبدو أن المرحلة القادمة ستتطلب جهداً دبلوماسياً مضاعفاً وعقلانية من الطرفين لتفادي الانزلاق نحو قطيعة يصعب تداركها.

/انتهى/

رمز الخبر 1958260

سمات

تعليقك

You are replying to: .
  • captcha