وبالإضافة إلى اليمن، لا تزال البلدان الأخرى المتاخمة للقرن الإفريقي والبحر الأحمر ضرورية لسياسة أبوظبي الخارجية، المتمثلة في ممارسة النفوذ الاقتصادي والعسكري خارج حدودها. ويشمل هذا الدول الفيدرالية الصومالية مثل صوماليلاند "أرض الصومال" وبونتلاند "أرض البنط"، فضلا عن جيبوتي وإريتريا وإثيوبيا والسودان ومصر. وتعتمد كل هذه الدول بشكل أو بآخر، جزئيا على الأقل، على الهبات الاقتصادية من ثاني أكبر اقتصاد في الجزيرة العربية.
وسوف نرى مع الوقت كيف سيؤدي الانقلاب الأخير الذي قام به الانفصاليون الجنوبيون في اليمن ضد حكومة "عبدربه منصور هادي" إلى خدمة مصالح الإمارات، بالنظر إلى الوضع المتقلب في عدن والمناطق المحيطة بها. وكانت الإمارات أكثر الداعمين الإقليميين حماسة للانفصاليين، وذلك لأنهم قدموا لها موطئ قدم على أحد جانبي مضيق "باب المندب" الذي يربط بحر العرب بالقرن الإفريقي والبحر الأحمر، وصولا لقناة السويس وحتى البحر الأبيض المتوسط.
وفي الواقع، وعلى الرغم من مكانتها كدولة صغيرة، تجرأت الإمارات على تعريض تحالفها مع السعودية في اليمن للخطر، مقابل الحصول على حصة في المنافسة الاستراتيجية الإقليمية مع الدول الأخرى الأقوى، بما في ذلك الولايات المتحدة وفرنسا والصين وتركيا.
ويوجد شيء واحد مؤكد في هذا الصدد، وهو أن الإمارات أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أنها ستقوم بما هو مطلوب للحفاظ على نفوذها في أي مكان لديها بصمة فيه، مهما كانت التكلفة.
واليوم، تظهر الإمارات كراع وداعم للانفصاليين الطموحين في صوماليلاند وبونتلاند، حيث استثمرت أبوظبي الوقت والطاقة والموارد المالية والعسكرية. وربما يكون القادة الإماراتيون قد اتخذوا بالفعل قرارا بالمساعدة في إنشاء دويلات قوية على طول الساحل الشرقي لإفريقيا تتكامل مع الدولة المتعثرة التي يناضل المتمردون الجنوبيون في اليمن حاليا لتأسيسها. وإذا كان هذا صحيحا، وإذا نجحت خطط الإمارات في اليمن والصومال على هذا النحو، فقد يدخل العالم في تحدٍ جديد للاستقرار والسلام الإقليميين على الحافة الغربية للمحيط الهندي.
الإمارات في الصومال
وكوافد جديد على السياسة الصومالية، تستغل الإمارات فقط ظروف الانقسامات وعدم الاستقرار وانعدام الأمن في البلاد. وشهدت وحدة الصومال وسلامته الإقليمية تحديات كبيرة منذ انهيار رئاسة "سياد بري" عام 1991، وانقسام السلطة بين الجماعات العسكرية والسياسية والدينية المتنافسة.
ولا يزال الإرهاب الذي تمارسه "حركة الشباب" المرتبطة بتنظيم القاعدة يجتاح البلاد، كما يعمل تنظيم "داعش" في الصومال أيضا. وانتشرت القرصنة عبر الساحل الصومالي منذ عام 2008 على الأقل، مستفيدة من عدم وجود آليات أمنية في ظل غياب دولة موحدة. وأنشأ قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2372 لعام 2017 بعثة للاتحاد الإفريقي في الصومال تحت مسمى "أميسوم"، ومنحها مهام المساعدة على الحفاظ على الأمن في المراكز الحضرية، ولا سيما العاصمة مقديشو، وذلك بعد فشل بعثات الأمم المتحدة الأخرى في البلاد في التسعينيات في تحقيق الاستقرار.
وفي الواقع، وجدت الإمارات أرضا خصبة للتدخل في الصومال. حيث تبحث اثنتان من الولايات الفيدرالية المكونة للصومال، وهما صوماليلاند وبونتلاند، عن الاستقلال عن الحكومة المركزية التي فشلت في توفير روح الوحدة والتنمية اللازمة. وتتمتع كلا الولايتين بموقع جيوسياسي مواتٍ يفي القرن الإفريقي، حيث تمتدان على طول الساحل الجنوبي لخليج عدن، مما يوفر في الواقع منطقة نفوذ مهمة على الجانب الآخر من جنوب اليمن.
ومع ضعف الحكومة المركزية في الصومال واعتمادها على المساعدات الدولية، فإنها تبقى غير قادرة على تحدي خطط الإمارات. ومع تخلي المجتمع الدولي عن أي محاولة جادة للانخراط في الشؤون الصومالية، وجدت الإمارات الطموحة أنه من السهل العثور على محاورين راغبين في الحصول على المساعدات وتقديم التنازلات في المقابل في كل من صوماليلاند وبونتلاند.
وأقامت الإمارات علاقات اقتصادية وعسكرية مزدهرة مع صوماليلاند "أرض الصومال" التي أعلنت استقلالها من جانب واحد عام 1991. وضخت "موانئ دبي العالمية"، وهي شركة موانئ تعمل من إمارة دبي، 442 مليون دولار في ميناء "بربرة" على ساحل خليج عدن. وفي مارس/آذار الماضي، قام رئيس أرض الصومال، "موسى بيهي عبدي"، برحلة مدتها 6 أيام إلى الإمارات، حيث التقى بالمسؤولين ووقع اتفاقية لتوسيع مطار "بربرة"، الذي بناه الاتحاد السوفييتي في السبعينيات، لاستيعاب الطائرات الكبيرة.
وستقوم الإمارات بتشغيل المطار والميناء في مقابل العديد من مشاريع البنية التحتية في المنطقة، وستحصل على قاعدة عسكرية قريبة منه. لكن الأمر المثير للاهتمام هو أن الشخص الذي قابل "بيهي" ووقع الاتفاقية كان نائب رئيس الوزراء "منصور بن زايد". وبينما كان "منصور" ممثلا عن الحكومة، إلا أن دوره قد لا يجذب الكثير من الاهتمام الدولي.
وفي بونتلاند "أرض البنط"، التي أعلنت استقلالها من جانب واحد عام 1998، وجدت الإمارات أيضا شريكا متحمسا. وفي أبريل/نيسان الماضي، طلب رئيس بونتلاند "سعيد عبد الله ديني"، الذي تم انتخابه في يناير/كانون الثاني 2019، مساعدة أبوظبي في تعزيز قوة الشرطة البحرية في الإقليم، المسؤولة عن مكافحة الإرهابيين والقراصنة. وكانت الإمارات قد لعبت دورا أساسيا في تأسيس القوة عام 2010 في المقام الأول.
وفي أبريل/نيسان 2018، كان الرئيس السابق للإقليم، "عبدالولي محمد علي"، قد طلب من الإمارات أن تظل على اتصال مع منطقته، بعد توتر العلاقات بين مقديشو وأبوظبي إثر تردد الرئيس الصومالي في اتخاذ موقف خلال أزمة حصار قطر منتصف عام 2017. وتدير موانئ دبي العالمية أيضا ميناء "بوصاصو" في بونتلاند على خليج عدن أيضا، وقالت عام 2017 إنها تعتزم استثمار 336 مليون دولار في الميناء التي استأجرته لمدة 30 عاما.
تنافس جيوسياسي
ولا شك في أنه لا يمكن رؤية جهود الإمارات في الأقاليم الصومالية بمعزل عن حياد الصومال في خلاف عام 2017 بين قطر ودول الحصار، التي ضمت السعودية والإمارات والبحرين ومصر. وبالنسبة إلى صانعي السياسة في الإمارات، ففي الفترة التي تلت الانتفاضات العربية عام 2011، وصعود الإسلام السياسي، كان الصومال - ولا يزال - ساحة للتنافس مع القطريين، والأتراك. وكان رئيس الصومال "محمد عبد الله فاراماغو"، الذي تم انتخابه في فبراير/شباط 2017، يرى أن البقاء على الحياد في أزمة الخليج الفارسي عام 2017 يمكن أن ينقذ البلاد من الدخول في صراع جيوسياسي غير مبرر.
وورد أن الرئيس الصومالي رفض منحة بقيمة 80 مليون دولار من السعودية، بعد بدء الأزمة مباشرة، مقابل قطع العلاقات مع قطر. ويمكن القول إن قرار الصومال بالبقاء على الحياد، ومصلحة الإمارات في تطوير العلاقات مع المنطقتين الانفصاليتين، هي أهم العوامل التي رسمت أبوظبي مسار عملها المستقبلي في البلاد.
وقد واجهت العلاقة بين الإمارات والصومال مشكلة أخرى عندما قامت السلطات الصومالية في أبريل/نيسان 2018 بمصادرة أكياس نقدية تحتوي على 9.6 ملايين دولار على متن طائرة إماراتية في مطار مقديشو. وفي حين أكدت الإمارات أن هذه الأموال كانت لغرض دفع رواتب الجنود الصوماليين الذين كانت تدربهم، أصرت السلطات الصومالية على أن الإمارات أرادت استخدام هؤلاء الجنود لإثارة الفتنة ضد الحكومة المركزية.
وبعد بضعة أيام، اشتبه المسؤولون الصوماليون مرة أخرى في أمتعة في مطار "بوصاصو" في بونتلاند. ونتيجة للحادثين، اللذين حدثا تزامنا مع رفض حكومة مقديشو إعلان موقف مؤيد للإمارات في أزمة مجلس التعاون الخليجي، قررت الإمارات إنهاء البرنامج التدريبي للجيش الصومالي، وقطع المساعدات التنموية للبلاد.
ومما يزيد من المشاكل بين الإمارات والصومال علاقة مقديشو الجيدة مع أنقرة والدوحة. وكانت تركيا من بين أكبر مقدمي الخدمات الاقتصادية والاجتماعية للصومال، كما أنشأت قاعدة عسكرية في مقديشو عام 2017 تدرب 10 آلاف جندي صومالي. بالإضافة إلى ذلك، زادت الصادرات التركية إلى الصومال من 5.1 مليون دولار في عام 2010 إلى 123 مليون دولار في عام 2017. ومن جانبها، دعمت قطر الحكومة المركزية في مقديشو، وتعهدت بتقديم مساعدات مالية لمشاريع البنية التحتية والتنمية الاجتماعية. وفي أوائل عام 2019، تبرعت الدوحة بـ 68 مركبة مدرعة للقوات المسلحة الصومالية. وفي 20 أغسطس/آب، وقع البلدان اتفاقا يقضي بأن تقوم قطر ببناء ميناء بحري جديد في مدينة "هبيا" الساحلية على الساحل الشرقي لموازنة استثمارات الإمارات في المنشآت البحرية في صوماليلاند وبونتلاند.
خطر يهدد كل شيء
ويجب أن يتم تقييم الدعم الذي تقدمه أبوظبي إلى الأقاليم الصومالية في سياق المساعدات التي قدمتها الإمارات إلى الانفصاليين الجنوبيين في اليمن، الذين قاموا مؤخرا بانقلاب في عدن ضد حكومة "هادي". وفي الواقع، قد يؤثر نجاح ذلك الانقلاب على تحديد ما إذا كانت المنطقتان الانفصاليتان في الصومال ستقرران أن الوقت مناسب لإعلان الاستقلال التام، مما يؤدي إلى تفكك الصومال بشكل نهائي والانهيار الكامل المحتمل للسلطة المركزية في مقديشو. ولكن بغض النظر عن التوقيت والتكلفة المتوقعة، ستستفيد الإمارات بكل تأكيد من وجود شركاء ودودين على السواحل الشمالية والجنوبية لخليج عدن.
ويبقى هناك سؤال حول الحكمة وراء المزايا الاقتصادية والإستراتيجية على حساب الاستقرار والأمن في المنطقة الأوسع، التي تمتد من الساحل الصومالي إلى البحر الأحمر. ومن المسلم به، أنه من الأسهل التعامل مع دول ضعيفة تعتمد على سخاء راعيها القوي، أي الإمارات في هذه الحالة. لكن مساعدة الزعماء الانفصاليين في تحقيق حلمهم بالاستقلال من المرجح أن يؤدي إلى اندلاع الفوضى في الصومال والبلدان المجاورة. ويعني تجدد الحرب الأهلية في الصومال وتوفير الفرص للمتطرفين الموجودين بالفعل في البلاد ومساعدتهم على توسيع عملياتهم في هذا البلد الاستراتيجي.
تعليقك