وكالة مهر للأنباء، نقلاً عن فلسطين اليوم: في اللحظة التي بدأت سبابة الأسير الفلسطيني المبعد إلى الدوحة محمد دغلس بتحريك سطح هاتفه المحمول بحثاً عن صور الأسير خضر عدنان، الذي استشهد الثلاثاء الماضي بعد خوضه إضراباً عن الطعام استمر 86 يوماً رفضاً لاعتقاله، بدأ شريط ذكرياته يعود إلى 22 عاماً إلى الخلف، وتحديداً للأيام التي جمعته مع عدنان داخل أسوار جامعة بيرزيت.
دغلس، البالغ 43 عاماً، هو أحد محرري "صفقة شاليط" التي أُبرمت بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي برعاية مصرية في أكتوبر/ تشرين الأول 2011، وأمضى عقداً كاملاً في سجون الاحتلال الإسرائيلي، بعدما حكم عليه بـ16 مؤبداً و30 عاماً بتهمة إعداده لعدة عمليات تفجيرية، وعلى رأسها عملية مطعم سبارو في القدس الغربية عام 2001 التي نفذها الشاب عز الدين المصري وقتل فيها 16 مستوطناً وجرح أكثر من 80 آخرين.
ويتحدر دغلس من قرية عقربا القريبة من نابلس، وهو واحد من بين 30 مبعداً فلسطينياً يعيشون حالياً في الدوحة، وكان أحد الأصدقاء المقربين للشهيد خضر عدنان أثناء فترة الدراسة الجامعية، إذ كان يدرس في كلية الآداب قسم الصحافة، فيما كان الشيخ خضر (اللقب المعروف به) يدرس في كلية الاقتصاد.
وإلى جانب أنهما أبناء جامعة واحدة، كانا يتشاركان السكن الجامعي نفسه. ورغم أن دغلس كان مصنفاً كأحد كوادر حركة "حماس" في تلك الحقبة، فيما الشهيد خضر عدنان كأحد قيادات حركة "الجهاد الإسلامي"، إلا أنه "كان هناك توافق فكري إلى حد كبير بيننا"، هكذا يقول دغلس.
يكمل دغلس في حديثه لـ"العربي الجديد": "كنت أتابع إضراب طعام الشيخ عدنان عن كثب، وكنت متوقعاً انتصاره كحال كل مرة خاض فيها الإضراب، علماً أنه أضرب 12 مرة وليس ست مرات، في الحقيقة لم أتوقع أن تكون هذه النهاية".
وقبل 22 عاماً كان آخر لقاء بين دغلس والشيخ عدنان في أسوار الجامعة، وتحديداً في إبريل/ نيسان عام 2001، حين اجتمعت الأطر الطلابية للفصائل الفلسطينية في غرفة دغلس. أما اللقاء الثاني للصديقين فكان أثناء الاعتقال عام 2004 في سجن عسقلان.
ويزيد دغلس الذي أصيب مرتين برصاص الاحتلال الإسرائيلي، قائلاً عن تلك اللحظة: "التقينا في سجن عسقلان لمدة ساعتين تقريباً، أمضينا تلك السويعات في الضحك واستذكار مواقفنا الجامعية".
وأصيب دغلس عام 1993 حين كان طفلاَ بأربع رصاصات متفجرة في كلتا قدميه وجرى علاجه لثلاث سنوات بشكل مكثف. أما إصابته الثانية فكانت مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000) وقد تعرض لإصابة في البطن مزقت أجزاء كبيرة من أحشائه خلال مواجهات اندلعت بين قوات الاحتلال الإسرائيلي وشبان فلسطينيين في نابلس.
جريمة مركّبة.. سياسة بن غفير
هناك إجماع، وتحديداً من قيادة الحركة الأسيرة ونادي الأسير ومختصين، على أن الشهيد خضر عدنان اغتيل بقرار سياسي إسرائيلي من أعلى المستويات مع سبق الإصرار.
وعلّق دغلس على ذلك قائلاً: "الواضح من تتبع الإضراب الأخير للشيخ خضر ومدى تعاطي ما تسمى مصلحة السجون مع ملفه، يظهر أن الاحتلال اعتمد اغتياله، وفكرة قتله بالنسبة لهم كانت مسألة وقت".
وخضر عدنان هو قيادي في حركة "الجهاد الإسلامي"، من بلدة عرابة جنوب جنين، وأب لتسعة أطفال أكبرهم عمره 14 عاماً وأصغرهم عامان.
وباستشهاده ارتفع عدد شهداء الحركة الأسرى إلى 237 شهيداً، منذ عام 1967.
بحسب نادي الأسير لا توجد أي لوائح اتهام ضد عدنان، وكان رهن الاعتقال الإداري، الذي ينفذه الاحتلال الإسرائيلي بحق مئات الأسرى الفلسطينيين دون أي تهم ضدهم، مع حرمانهم من أبسط حقوقهم الأساسية، لذلك يجد المعتقلون أن الإضراب عن الطعام الوسيلة الوحيدة لمقاومة ممارسات الاحتلال.
ومع تولي اليميني المتطرف إيتمار بن غفير منصب وزير الأمن الداخلي، زاد وضع الأسرى سوءاً، خاصة بعدما أعطى أوامر شاملة لما تسمى "مصلحة السجون" بالضغط على الأسرى الفلسطينيين، مثل إبقائهم في العزل الانفرادي لفترات طويلة، والتفتيش العاري المهين، والحرمان من النوم، دون أي محاسبة قانونية. وتحتجز سلطات الاحتلال الإسرائيلي نحو 4550 أسيراً في سجونها بينهم 175 قاصراً، و27 أسيرة.
وفي معرض تفسيره لتفاقم وضع الأسرى بالسجون الإسرائيلي، يرى دغلس أن "الصف القيادي العسكري الفلسطيني أغلبه من الأسرى المحررين وقد أحرجوا بن غفير منذ توليه منصبه في اتخاذ أو الإيعاز بتنفيذ هجمات عسكرية في مدن الضفة والقدس المحتلتين".
وتابع دغلس موضحاً: "هناك تقديرات إسرائيلية تفيد بأن الأسرى المحررين بقيادة صالح العاروري (نائب رئيس حركة حماس) هم المسؤولون المباشرون عن كثافة العمليات العسكرية الأخيرة بالضفة المحتلة، وهنا أراد بن غفير الرد على تلك الخطوات من خلال الضغط على الأسرى المعتقلين على اعتبار أنهم الضلع المكسور".
وأمام الضغط الذي يمارسه بن غفير، كشف دغلس أن الحركة الأسيرة جهزت مخططاً لتنفيذ أكبر إضراب عن الطعام سيشهده تاريخ الصراع، وكان من المتوقع أن يبدأ في الأول من الشهر الجاري، مشيراً إلى أن الحركة الأسيرة قدمت لما تسمى "مصلحة السجون" قائمة بألفي أسير فلسطيني مستعد للإضراب عن الطعام في حال استمرار هذا الضغط الإسرائيلي.
وتابع دغلس قائلاً: "ما زال الـ 2000 أسير جاهزين للإضراب عن الطعام ونحن كأسرى محررين جاهزون للإضراب معهم، ولكن سبب تأجيل هذه الخطوة هو ما لمسناه من تراجع من الخطوات التصعيدية لإدارة السجون بحق أسرانا".
عنيد وملهم..
أما الأسير المُبعد والمقيم الآن كذلك في الدوحة وليد انجاص (43 عاماً)، فكان أكثر دقة لدى حديثه لـ"العربي الجديد" في تشخيص طبيعة شخصية الشهيد خضر عدنان بحكم الصداقة المتينة التي جمعتهما أثناء مرحلة الدراسة.
يقول انجاص الذي كان يدرس تخصص التاريخ والعلوم السياسية في الجامعة بصحبة عدنان ودغلس: "الشيخ خضر تعرفت عليه منذ طفولة من خلال أقارب لي كانوا يسكنون بجوار منزله في جنين، الصفة التي كانت تلازمه منذ طفولتنا هو العناد، كنت أمازحه كثيراً بمناداتي له بأبو عناد".
أما الصفة الثانية التي كان يتمتع بها الشهيد عدنان هو أنه كان ملهماً ولديه قدرة كبيرة على الخطابة والارتجال في الحديث. "في مرحلة دراستنا الجامعية كان من السهولة أن يجمع الطلبة حوله، إذ لديه قدرة كبيرة على الإقناع والاسترسال في الحديث وعرض الأفكار، كان قائداً ملهماً"، كما يقول عنه انجاص.
ويعد وليد انجاص صاحب أعلى محكومية في سجون الاحتلال، إذ اعتقل عام 2003 وحكم عليه بالسجن 4000 سنة، وقد أفرج عنه في "صفقة شاليط"، وخاض سلسلة إضرابات عن الطعام.
وعن ذلك يقول: "أن يأخذ الأسير قرار إضراب عن الطعام هو بحد ذاته قرار مصيري، لأن أول احتمال يضعه الأسير هو الموت جوعاً، ففكرة أن الشيخ خضر خاض 12 إضراباً هي بحد ذاتها شيء لا يتصوره العقل، هناك قاعدة انفرد بها الشيخ خضر عن باقي الأسرى وهي أنه في اللحظة الأولى لاعتقاله يعلن فوراً دخوله إضراباً عن الطعام".
وخاض انجاص ثلاثة إضرابات عن طعام طوال فترة حكمه، أطولها كان لمدة 22 يومياً احتجاجاً على وضعه في العزل الانفرادي.
يستذكر تلك اللحظات قائلاً "بعد اليوم الـ 18 بدأت أفقد الوعي بشكل متكرر، أدركت أن جسدي لا يساعدني، الإضراب عن الطعام بحاجة لعنصرين مهمين، الأول قدرته على التحمل وثانياً جسداً يساعده على ذلك، عن نفسي كنت أحمل جسداً متعباً".
بخصوص الإضراب الأخير لعدنان، يرى انجاص أن عدم نجاحه كالمرات السابقة هو "طبيعة الظروف العامة التي لم تخدم الشيخ خضر، إذ لم يكن هناك حشد إعلامي وتحرك شعبي مناسب، فمثل هذه التحركات تضغط على السجان وتزيد من إرادة السجين".
بدوره، أوضح الباحث في شؤون الأسرى الفلسطينيين، رياض الأشقر، أن "نجاح إضراب الطعام يعتمد على ثلاث عوامل رئيسية؛ الأول التحركات الشعبية والثاني التغطية الإعلامية ثم قوة إرادة المضرب عن الطعام، وهو العامل الرئيسي".
وقال الأشقر لـ"العربي الجديد": "الإضراب عن الطعام في سياقه الحقيقي، هو من يرفع الراية أولا السجين أم السجان".
وخاض المئات من الأسرى معركة "الأمعاء الخاوية"، وأغلب الحالات نجح المضربون بتحقيق مطالبهم، إلا أن انتصارهم غالباً ما كان انتصاراً مؤقتاً، لتعود معاناتهم إلى ما كانت عليه بعد فترة قصيرة من الوقت، هكذا يستدرك الباحث في شؤون الأسرى.
والواضح أن ملف استشهاد الشيخ خضر عدنان لم يغلق، وإنما فتح الأبواب على جميع الاحتمالات في الأيام المقبلة، علما أنه لأول مرة تقصف المقاومة الفلسطينية بأكثر من 20 صاروخاً المناطق المحاذية لقطاع غزة رداً على استشهاد أسير، وربما يكون هذا مؤشرا على أن ملف الأسرى قد يكون حافة الهاوية لاندلاع المواجهة الشاملة التي تحاول كل طرف تأجيلها لأكثر وقت ممكن.
المصدر: فلسطين اليوم
/انتهى/
تعليقك