١٩‏/٠٨‏/٢٠٢٥، ١٠:٣٤ ص

ما وراء خطاب الشيخ نعيم قاسم؛ لبنان بين العقلانية والأزمة الداخلية

ما وراء خطاب الشيخ نعيم قاسم؛ لبنان بين العقلانية والأزمة الداخلية

كان خطاب الشيخ نعيم قاسم الأخيرة بمناسبة أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام) من أبرز مواقف حزب الله الصريحة والحازمة في مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية لنزع السلاح.

وكالة مهر للأنباء _ قسم الشؤون الدولية: تُعدّ خطب الشيخ نعيم قاسم، الأمين العام لحزب الله، الأخيرة في أربعين الإمام الحسين (عليه السلام)، نقطة تحوّل في الصراع السياسي والأمني في لبنان. كان هذا الخطاب من أبرز مواقف حزب الله الصريحة والحازمة في مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية لنزع السلاح. لم تُقدّم هذه التصريحات كحجة فاصلة ضد الحكومة اللبنانية والداعمين الدوليين لخطة نزع السلاح فحسب، بل كشفت أيضًا عن أبعاد عميقة للاستراتيجية السياسية والهوية الوطنية ومعادلات القوة في المنطقة.

إنّ العبارة المحورية للأمين العام لحزب الله، "المقاومة لن تُسلّم سلاحها.. سندخل معركة كربلاء إذا لزم الأمر"، ليست مجرد استعارة دينية، بل هي تعبير عن فهم عميق لموازين القوى والمخاطر التي تواجه لبنان. في ظلّ تضافر الضغوط الخارجية والقرارات الداخلية المتسرعة لزعزعة معادلة لبنان الدفاعية، يُظهر هذا الموقف استعداد حزب الله لدفع أغلى ثمن ممكن من أجل بقائه واستمرار دوره.

تحذير استراتيجي

إذا أردنا قراءة معنى تحذير نعيم قاسم بشأن نزع سلاح حزب الله في السياق السياسي الراهن للبنان، يُمكننا القول إنّ نعيم قاسم حدّد مبدأً واضحًا: إنّ مسألة سلاح المقاومة ليست خيارًا سياسيًا بسيطًا، بل مسألة وجود وبقاء. بمعنى آخر، إنّ محاولة نزع السلاح دون بديل دفاعي ليست سوى فتح أبواب البلاد أمام عدوّ لطالما سعى إلى إضعاف لبنان. وهذا ما يُحوّل خطابه من شعارعاطفي إلى تحذير استراتيجي.

النقطة الجوهرية هنا هي أنّ الأزمة الحالية ليست مُجرّد صراع بين الحكومة والمقاومة على ملكية المعدات العسكرية. ما يُرى خلف القرارات الأخيرة هو نوع من التوافق بين ثلاث طبقات من السلطة: الضغط المباشر من الولايات المتحدة وممثلها في لبنان، وفرح إسرائيل الواضح بقرار الحكومة، وأخيرًا الموافقة المتسرعة على بند منح الحكومة احتكار السلاح. يُظهر هذا الثلاثي بوضوح أن القضية تتجاوز نقاش القانون والسيادة، وتُجرّ إلى حروب بالوكالة؛ حرب لم تعد أدواتها الدبابات والطائرات، بل السياسة والهياكل الإدارية اللبنانية.

خروج الحكومة عن منطق الشراكة الوطنية

في كلمته، أشار نعيم قاسم إلى أن الحكومة تصرفت على خلاف التزاماتها السابقة، بما في ذلك البيان الوزاري ونص القسم الرئاسي. أكدت هذه الوثائق بوضوح على ضرورة صياغة استراتيجية وطنية للأمن والدفاع، ولكن بدلاً من تصميمها، اتجهت الحكومة فجأة نحو نزع سلاح المقاومة. هذا الإجراء لا يعني سوى خروج عن منطق الشراكة الوطنية وميثاق العيش المشترك. في نظامٍ كلبنان، قائم على توازنٍ دقيقٍ بين العشائر، فإنّ إزالةَ عنصرٍ أساسيٍّ لا يُعدّ إصلاحًا، بل إخلالًا بمعادلة البقاء.

حاول معارضو حزب الله تصوير هذا الموقف على أنه تهديدٌ بحربٍ أهلية، لكنّ التدقيقَ يُظهر أنّ نعيم قاسم لم يتحدّث عن الحرب، بل عن الفتنة. وحذّر من أنّ عواقب قرار الحكومة قد تجرّ البلاد إلى أزمةٍ داخلية، وأنّ مسؤولية ذلك تقع على عاتق الحكومة نفسها، التي خضعت للضغوط الخارجية. هذا التمييز بين "التهديد بالحرب" و"التحذير من الفتنة" بالغ الأهمية، لأنّه يُميّز بين مُسبّب الأزمة والمراقب المُنذر.

السؤال المحوري

لكن السؤال المحوري هو ما هو دور الجيش اللبناني في هذه المعادلة؟ الجيش الآن في وضع يُلزمه، من جهة، بتنفيذ قرار الحكومة، ومن جهة أخرى، فإن أي إجراء عملي ضد المقاومة قد يُغرق هذه المؤسسة في أزمة مُدمرة. بمعنى آخر، أُلقيت كرة الأزمة في ملعب الجيش، وهناك خطر من انجراره إلى مواجهة داخلية، الأمر الذي لن يُدمر مصداقيته الوطنية فحسب، بل قد يضع لبنان أيضًا على طريق حرب شاملة.

إلى جانب الجهات الفاعلة المحلية، تتجلى يد الجهات الفاعلة الخارجية بوضوح. فقد أظهرت تجربة السنوات الأخيرة أن إسرائيل لم تستسلم أبدًا لهزائمها العسكرية، وسعت باستمرار إلى طرق غير مباشرة لضرب المقاومة. ويُظهر ترحيب نتنياهو العلني بقرار الحكومة اللبنانية أن تل أبيب وجدت أداتها هذه المرة في الهيكل الرسمي لحكومة بيروت. في موازاة ذلك، استُخدمت ضغوط من الولايات المتحدة وبعض الدول العربية أيضًا لهندسة المناخ السياسي في لبنان لوضع المقاومة في موقف صعب.

لكن الخطر لا يتوقف عند هذا الحد. تُرسم الخطط، بما في ذلك استغلال أزمة اللاجئين السوريين كأداة. تعتقد بعض الأوساط الغربية أن بإمكانها استخدام هؤلاء السكان كوقود للحرب الأهلية اللبنانية المستقبلية. في مثل هذه الظروف، سيصبح لبنان مسرحًا لاختبار استراتيجيات الحرب الهجينة؛ حرب تتداخل فيها خطوطها بين العسكري والسياسي والاجتماعي.

ما وراء خطاب الشيخ نعيم قاسم؛ لبنان بين العقلانية والأزمة الداخلية

رسالتان من حزب الله

في مواجهة هذه المخاطر، يحاول حزب الله توجيه رسالتين في آن واحد. أولًا، أن المقاومة مستعدة للدفاع عن سلاحها حتى الرمق الأخير، وأنه لا يوجد أي اتفاق في هذا الصدد. ثانيًا، أنه على الرغم من هذا الموقف الصارم، هناك رغبة لدى حزب الله في منع الصراع الداخلي، ولا يزال هناك وقت لإعادة النظر في قرارات الحكومة. هذه الثنائية بين التصميم على الاحتفاظ بالسلاح والرغبة في تجنب الفتنة هي نقطة التوازن المعقدة التي يحاول حزب الله إيصالها إلى المجتمع المحلي والأطراف الخارجية.

إذا نظرنا إلى هذا الوضع بعمق أكبر، يمكننا القول إن خطاب نعيم قاسم حمل نوعًا من إعادة تعريف لمفهوم "مقاومة الدولة". وأكد أن المقاومة ليست بديلاً عن الدولة، بل هي مُكمِّلٌ لها وشريكٌ لها. لذلك، فإن القضاء على المقاومة لا يُضعف القدرات الدفاعية للبلاد فحسب، بل يُجرِّد الدولة جوهرياً من مضمون سيادتها الحقيقي. وفي هذه القراءة، يُصبح سلاح المقاومة جزءاً من معادلة الدفاع الوطني، وليس عاملاً مُضاداً لها.

هذا المنطق، بطبيعة الحال، مرفوض من قِبَل مُعارضي المقاومة، إذ يرون فيها قوةً مُوازيةً للدولة، تمنع ترسيخ سيادتها الحصرية. إلا أن الواقع على الأرض في لبنان يُشير إلى أنه بدون وجود المقاومة، لا يوجد رادعٌ يُذكر ضد إسرائيل. وتجربة الحروب الماضية وحدها كافيةٌ لتوضيح سبب استمرار شريحةٍ كبيرةٍ من المجتمع اللبناني في التأكيد على ضرورة بقاء المقاومة.

النظرة المستقبلية

منذ توقيع اتفاق الطائف (1989)، مورست ضغوطٌ دولية، لا سيما من الولايات المتحدة وإسرائيل، لنزع سلاح حزب الله. نصّ الاتفاق الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية على احتكار السلاح بيد الحكومة، إلا أن حزب الله استُثني من هذا البند لدوره في مقاومة إسرائيل. وقد ألقى تكثيف الجهود لنزع سلاح حزب الله في الأسابيع الأخيرة بظلال من الشك على مستقبل لبنان. وستكون الأيام المقبلة حاسمة. فالجيش مطالب بتقديم خطة لتنفيذ قرار الحكومة بحلول نهاية هذا الشهر، وسيتوجه ممثلون أمريكيون إلى بيروت مجددًا لتكثيف الضغوط.

وقد وضعت تصريحات نعيم قاسم لبنان أمام سيناريوهين رئيسيين: الحرب الأهلية أو الحوار الوطني. ويُرجّح سيناريو الحرب الأهلية الذي حذّر منه نعيم قاسم إذا نُفّذت خطة نزع السلاح بالقوة. فمع تاريخ من الحرب الأهلية (1975-1990) وتركيبة طائفية هشة، يُواجه لبنان احتمالًا كبيرًا لعدم الاستقرار. ويُعقّد وجود حوالي 20-25% من الشيعة في الجيش اللبناني، بصفته القوة المسؤولة عن تنفيذ نزع السلاح، هذا السيناريو. كما أن احتمالية عصيان جزء من الجيش أو حتى انضمامه إلى حزب الله قد تؤدي إلى انهيار مؤسسات الدولة.

في مثل هذه البيئة، يقف لبنان بين خيارين: إما العودة إلى العقلانية وإعادة النظر في قرارات قد تجرّ البلاد إلى الهاوية، أو الوقوع في دوامة فتنة لن يكون من السهل احتواؤها. حديث نعيم قاسم عن معركة "كربلاء" ليس تهديدًا، بل استعارة عن مستوى تضحيات المقاومة وتمسكها بمبادئها. تُظهر هذه الاستعارة أن حزب الله يعتبر التراجع في ملف السلاح بمثابة موت سياسي ووطني، وبالتالي ينظر إلى أي سيناريو مفروض من الخارج على أنه معركة وجودية. في المقابل، على الحكومة والتيارات السياسية المعارضة إدراك أن اللعب بهذا الخط الأحمر ليس حلاً لمشاكل لبنان، بل هو بداية أزمة جديدة ستطال عواقبها المجتمع بأكمله.

(محمدرضا مرادي، رئيس تحرير قسم الشؤون الدولية للوكالة.)

رمز الخبر 1961832

سمات

تعليقك

You are replying to: .
  • captcha