وكالة مهر للأنباء_ د.نجيبة مطهر: في اللحظات التي تعصف فيها الأزمات بلبنان من كل اتجاه انهيار اقتصادي غير مسبوق، انسداد سياسي شبه دائم، وتراجع في الثقة بكل مؤسسات الدولة
يجد البعض أن المعركة الأهم اليوم هي سلاح حزب الله. تتكرر الدعوات في بعض الأوساط لتسليم هذا السلاح، باعتباره "المشكلة الجوهرية" و"العائق أمام الدولة الحديثة". لكن هذه المطالبات تطرح سؤالًا جوهريًا يتجاوز الاصطفافات السياسية: هل يعكس هذا الخطاب وعيًا حقيقيًا بطبيعة الواقع اللبناني، أم أنه انعكاس لحالة من القصور في الفهم السياسي والسياق التاريخي؟
لبنان ليس دولة مستقرة في محيط هادئ. بل هو بلد هش يقع في قلب صراع إقليمي مفتوح، تتداخل فيه ملفات الاحتلال والمقاومة، المحاور الدولية، والتجاذبات الطائفية. في هذا السياق، ظهر سلاح المقاومة في الأصل كرد فعل على الاحتلال الإسرائيلي، وتحوّل لاحقًا إلى عنصر ردع في معادلة إقليمية لا تزال قائمة حتى اليوم. فإسرائيل لم تتوقف يومًا عن تهديد لبنان، ولا تزال تخترق أجواءه بشكل يومي، وتمارس ضغوطًا متعددة لإضعاف ما تسميه "التهديد من الشمال".
طرح قضية "سلاح حزب الله" كأولوية مطلقة، وكأنها المدخل الوحيد للخلاص الوطني. يُصوَّر هذا السلاح في بعض الخطابات على أنه "العائق الأساسي أمام قيام الدولة"، وكأن حلّ الأزمة اللبنانية يكمن في بندقية تُسلَّم، لا في نظام سياسي طائفي مهترئ، ونخبة عاجزة، وغياب مشروع وطني جامع. لكن في عمق هذه المطالبة يكمن سؤال لم يُطرح بجدية كافية: هل يملك لبنان الوعي السياسي الكافي ليفهم ما يطالب به؟
المقاومة ضرورة لا خيار
سلاح حزب الله لم يظهر من فراغ، بل تشكّل في سياق موضوعي وضروري: الاحتلال الإسرائيلي للجنوب، عجز الدولة اللبنانية عن حماية أراضيها، وفشل النظام السياسي في بناء مؤسسة أمنية وطنية ذات سيادة حقيقية. المقاومة كانت، وما زالت، فعلًا دفاعيًا أكثر من كونها مشروعًا أيديولوجيًا. وهذا ما يؤكده الكاتب والمحلل السياسي ناصر قنديل حين يقول:
"عندما يُطرح مصطلح حصرية السلاح بيد الدولة، يتوقف أحدهم عند الجانب الشعاري، دون أن يُجيب: ماذا لو جنّت إسرائيل بعد تسليم سلاح حزب الله؟… هل ستنسحب؟"
هذا الطرح يفضح السذاجة الكامنة خلف الشعارات الممجوجة التي تُرفع في بعض الخطابات السياسية، والتي تتعامل مع الواقع الإقليمي وكأن لبنان يعيش في كوكب محايد خارج نطاق الصراع.
كما يُذكّر ناصر قنديل بأن المقاومة ليست عائقًا أمام الدولة، بل رد فعل على غيابها. فيقول:
"لبنان بحاجة إلى قيادات سياسية لا تخاف العقوبات الأميركية… العدو يخشى المقاومة لأنها القوة التي منعت إسرائيلياً من السيطرة، وسياق المقاومة هو الذي أعطى معنى للسيادة."
وفي معرض آخر، يؤكد: "أول رد لبناني رسمي على أي اعتداء يجب أن يكون: سلاح المقاومة ليس مطروحاً للنقاش، وهو ضرورة دفاعية لا غنى عنها."
هذا ليس تمسكًا عاطفيًا بالمقاومة، بل تموضع عقلاني نابع من فهم الواقع لا من العيش في أوهام "السلام المجاني".
اما الكاتب الراحل مهدي عامل كان قد نبّه إلى خطورة انفصال الخطاب السياسي عن شروطه الموضوعية، حين قال:
"حين تُطرح الأسئلة السياسية الكبرى خارج شروطها التاريخية، يتحوّل الوعي إلى أداة تضليل."
وفي الحالة اللبنانية، يكمن هذا التضليل في اختزال أزمة الدولة إلى سلاح المقاومة، متجاهلين أن الدولة نفسها هي التي فشلت مرارًا في أن تكون مرجعية حقيقية للمواطن اللبناني. كيف يطالب من المقاومة بتسليم السلاح، بينما يعيش اللبنانيون في دولة لا تضمن أبسط الحقوق، ولا تستطيع أن تحمي حدودها، أو حتى تُحصّن مؤسساتها من الانهيار؟
المعادلة الإقليمية
من يُطالب بتسليم السلاح، عليه أن يُجيب على أسئلة بسيطة:
• هل توقفت التهديدات الإسرائيلية للبنان؟
• هل هناك اتفاق دفاعي دولي يحمي السيادة اللبنانية؟
• هل الجيش اللبناني مجهّز فعليًا للدفاع عن البلاد؟
• وهل المجتمع الدولي الذي يضغط على لبنان، حمى غزة حين ذُبحت تحت أعينهم؟
الكاتب الفلسطيني عزمي بشارة يذكّرنا بحقيقة مؤلمة:
"أي نقاش حول سلاح المقاومة يجب أن يُطرح في إطار مشروع لبناء الدولة، لا كمطلب دولي يُستخدم للضغط والتفاوض باسم الإصلاح."
بمعنى آخر، لا تُسلِّم سلاحك وأنت بلا دولة، ولا مشروع، ولا حماية.
من يريد نزع سلاح المقاومة يجب أن يقدم بديلًا وطنيًا حقيقيًا. لا يمكن أن نملأ الفراغ بالفراغ. المطلوب ليس تسليم السلاح، بل نقاش وطني حول استراتيجية دفاعية شاملة، تُعيد ترتيب العلاقة بين الدولة والمقاومة، وتحمي البلاد دون أن تُعرّيها من عناصر قوتها.
حتى ذلك الحين، تبقى كل الدعوات التي تطرح "نزع السلاح" بلا رؤية، مجرد صدى لصراعات إقليمية تُخاض بالوكالة على أرض لبنان، وبأفواه لبنانية، وباسم "الحياد".
والسؤال من يحمي لبنان؟
ليس السؤال الحقيقي:"لماذا لا يسلم حزب الله سلاحه؟"
بل:"من يحمي لبنان إن سُلِّم؟"
وما لم يُقدَّم جواب وطني سيادي وجماعي على هذا السؤال، فإن كل الدعوات تبقى مجرد شعارات بلا وعي، وزعيق سياسي لا يُبنى عليه وطن.
/انتهى/
تعليقك