وكالة مهر للأنباء - القسم الدولي: يتبيّن لأي متابع لما كُتِبَ ويكتب من دراسات تحليلية لزيارة بايدن إلى المنطقة أنه أمام كم كبير من المقالات والآراء والتحليلات التي تكاد بغالبيتها تندرج في اتجاهين متناقضين، حيث التهوين أو التهويل، فهناك من حكم بالفشل المسبق على الزيارة قبل أن تبدأ، ورأى بأن نتائجها تقترب من الحدود الصفرية.
وهناك على الضفة الأخرى من رأى الويل والثبور وعظائم الأمور التي تنتظر المنطقة بخاصة، والعالم بعامة بناء على الأهمية الإستراتيجية للمنطقة، ودورها الفاعل في موازين القوى وقواعد الاشتباك المعتمدة إقليمياً ودولياً، وهناك بعض الحقائق والمحددات التي لا يمكن للعقل العلمي إسقاطها من حساباته عند التفكير بأي تحليل استراتيجي لتطور الأحداث، والسيناريوهات المحتملة لتداعياتها في منطقة الشرق الأوسط بتفرعاتها وتشابكاتها المعقدة والمتناقضة.
فأمريكا تحاول تأمين لدول أوربا بديل للغاز الروسي، وضمان تدفق النفط بكميات كافية وتخفيض سعره لتفادي ما أمكن من ضغط الوضع الاقتصادي المتشكل بعد الأحداث في أوكرانيا.
وفي هذا الشأن أجرت مراسلة وكالة مهر للأنباء، "وردة سعد" حواراً صحفياً مع الباحث السياسي والمختص بالشأن الخليجي الأستاذ "علي مراد"، وأتى نص الحوار على الشكل التالي:
** شهدت السعودية ومعها دول الخليج الاخرى زيارة مهمة للرئيس الاميركي قيل عنها الكثير... واليوم تستعد هذه الدول لاستقبال الرئيس الصيني... فما دلالات ذلك؟ وهل عادت المنطقة لتشكل ساحة للتنافس الدولي على ثرواتها؟
لا شك ان جولة بايدن الى المنطقة وقمته مع قادة دول الخليج ومصر والعراق والاردن في جدة لم يخرج عنها أي شيء، كونها عقدت بناء على طلب ادارة بايدن سعياً بالدرجة الاولى للحصول على مزيد من الانتاج النفطي من دول الخليج بشكل اساسي.
وبما ان السعودية والامارات قاصرتان عن تلبية طلب اميركا بزيادة الانتاج النفطي، رجع بايدن الى واشنطن بخفّي حنين؛ وحتى على صعيد مسار التطبيق لم يحصل اي خرق واضح وجلي عدا عن ما كان متوقعاً، بما ان حاجة الغرب للنفط الخليجي عادت وارتفعت بسبب الحرب في اوكرانيا وتضررت الاقتصادات الغربية.
عادت هذه الدول لتُدرَج على جدول اعمال الاميركيين، لكن هذا لا يعني ان هناك اقتناعاً اميركياً بالعودة الى مستوى العلاقة مع السعودية كما كان قبل عقدين او ثلاثة؛ أي ان عودة الحاجة الغربية لدول الخليج هي مرحلية ومؤقتة، وهي مبنية على الحاجة لضخ النفط.
وإزاء ما يراه اللاعبون الدوليون الآخرون تراجعاً في طبيعة العلاقة الاميركية السعودية، تسعى كل من الصين وروسيا لاستغلال اللحظة للسعي لتطوير العلاقة مع الرياض، لكن ايضاً تقرّب الصين مثلاً من السعودية مرتبط بمصالح نفطية ايضاً، كون الاخيرة تعتمد بشكل مهم على الخام النفطي السعودي.
حتى الآن لم تؤكد الصين ولا السعودية رسمياً زيارة الرئيس الصيني الى السعودية، لكن ان حصلت فلن يحصل خرق كبير مفاجئ، طبعاً محمد بن سلمان وحاشيته سيحاولون الاستفادة من الزيارة للايحاء بأن هناك انزياحاً في التموضع السعودي من الغرب الى الشرق، لكن هذا مجرد بروباغندا لتلميع صورة بن سلمان وايضاً للاستثمار مع الغرب لتحصيل مكاسب ومصالح.
** هل تعتقد ان هذا التنافس الدولي على ثروات الخليج سيزيد من اهمية ودور السعودية ودول الخليج الاخرى في الصراعات الدولية ام انه يفاقم التهديدات التي تحيط بها؟
طبعاً احتدام تنافس القوى الدولية لتطوير علاقاتها مع دول نفطية وازنة مثل السعودية ليس أمراً غير تقليدي، قديماً كانت الدول النفطية ترتفع قيمتها وتنخفض في ميزان العلاقات حسب حاجة السوق دولياً.
وبالتالي لا يمكننا ان نقول ان السعودية ستحصل مكاسب استراتيجية بعيدة المدى، بالنسبة للغرب هو ينظر الى دول الخليج كمحطات وقود او كصرافات آلية، وبالنسبة للصين ليس هناك ثقة بدولة كالسعودية لبناء شراكة مستدامة، كون تجربة الحرب الباردة تشير الى التموضع الطبيعي للسعودية مع المعسكر الغربي، ويعرف قادة الصين ان ما يقرّب ابن سلمان من الصين حالياً هو توتّر العلاقات بينه وبين واشنطن.
** بدت السعودية وكأنها اخذت مسافة عن السياسات الاميركية في ازمة اوكرانيا والحاجة لزيادة انتاج النفط للاسواق العالمية... هل يمكن الحديث عن اعادة تموضع سعودي من التحالفات الدولية؟ وهل سنرى تقاربا صينيا سعوديا اكثر رغم الرفض الاميركي لذلك؟
خلال الازمة التي نتجت عن الحرب في اوكرانيا ذهب البعض في تفسير السلوك السعودي الذي لم يستجب للمطالب الاميركية برفع منسوب الانتاج النفطي الى حد تصوير الامر وكأنه تمرّد سعودي على الاميركيين؛ هذه المقاربة غير دقيقة، وما يحصل منذ الربيع الماضي هو ان محمد بن سلمان يحسن استغلال هامش المناورة المتاح له ضمن سقف محدد لا يتجاوزه.
كان امام بايدن خياران اثنان للتعامل مع بن سلمان:
ابن سلمان لم يتخذ موقفاً جذرياً من الولايات المتحدة ولم يصبح لديه قناعة بالانزياح الاستراتيجي تجاه الصين، القصة لا تعدو اكثر من مناورة يقوم بها بن سلمان لرفع قيمته وسعره عند واشنطن
1- استعمال العصا والسعي للاطاحة به، وهذا كان سيعني مغامرة اميركية بدفع السعودية نحو الفوضى كون بن سلمان ليس من النوع الذي سيستسلم، واي انقلاب في السعودية بدعم اميركي - له ارتدادات على مصالح واشنطن في المنطقة، كون ذلك يعني فقدان الاميركيين للسعودية كوكيل وظيفي اساسي في المنطقة الى جانب الكيان الصهيوني المؤقت.
2- الصبر على بن سلمان واستعمال اساليب ترغيبية مرتبطة بالتراجع عن وعود بايدن بمعاقبته والعودة لبيعه اسلحة هجومية والتغاضي عن سجله الدموي في مجال حقوق الانسان.
لجأ بايدن الى الخيار الثاني، وهنا طبعاً الكيان الصهيوني كان داعماً لإبن سلمان ووظف اللوبي الصهيوني في واشنطن للضغط لتغيير بايدن رأيه بإبن سلمان لكي تنضج فرص عقد اتفاق "سلام" واعلان التحالف مع السعوديين.
لا اعتقد ان ابن سلمان اتخذ موقفاً جذرياً من الولايات المتحدة واصبح لديه قناعة بالانزياح الاستراتيجي تجاه الصين، القصة لا تعدو اكثر من مناورة يقوم بها بن سلمان لرفع قيمته وسعره عند واشنطن.
** الى اي حد يمكن للصين ان تخترق الجدار الاميركي حول الخليج وثرواته؟ وهل يمكن لهذه الدول ان تستغني عن الحماية الاميركية والارتهان الثقافي والعسكري للغرب؟
ان مشهد الانسحاب الاميركي من افغانستان وتعلّق بعض الافغان من اتباع اميركا بدواليب الطائرات كان مشهداً مقلقاً للخليجيين عامة والسعوديين خاصة، ثم عاد الاميركيون وقدموا مثالاً آخر عن تخليهم عن أتباعهم في الحرب في أوكرانيا عندما خرج زيلينسكي ليشتكي من التخلي الاميركي والغربي عموماً عن نظامه.
هنا أيضاً تبيّن من جديد بأن الثقة بالأميركي كحام لأتباعها معدومة، ولذلك من المنطقي والطبيعي ان تسعى دولة كالصين لاستغلال التخلي الاميركي هذا والتغلغل في الفراغات التي تتركها واشنطن في المحميات الاميركية، لكن حتى وإن بدا أن السعودية تتجه لتعزيز علاقاتها مع الصين واستبدال اميركا بالصين كمصدر للحماية، ستبقى هناك عقبات تحول دون تحقق ذلك، كون الصينيين لا ينطلقون في علاقاتهم الخارجية وسياساتهم الدولية بنفس المنطلقات والسلوك الاميركي.
الصين لا تزال تسعى للتوسع من الباب الاقتصادي وتبدو حذرة في ممارسة إسقاط القوة ونشر قواعد عسكرية في العالم كما تفعل اميركا... إذاً، لا يمكن للصين أن توفّر للسعودية ما كانت توفّره اميركا، وايضاً لا غنى للسعودية عن اميركا كمصدر للسلاح، وحتى وإن اتخذت السعودية قراراً بالاعتماد على بكين كمصدر لصفقات السلاح فإن صعوبات لوجستية وتقنية ستحول دون تحديث الرياض لترسانتها العسكرية من الصين.
فمثلاً سلاح الجو السعودي سيبقى مرتهناً للصناعة والتقنية الأميركية وما ستعرضه الصين على السعوديين لن يصلح للاستعمال على الانظمة السعودية أميركية الصنع، بالإضافة الى ان محمد بن سلمان مقتنع بشكل كامل بالنموذج الليبرالي الغربي ولن يكون بوارد استبدال هذا الاقتناع، حتى وإن كانت حاجته تفرض ذلك.
** نحن نتحدث عن الخليج وكأنه كتلة موحدة في ما يتعلق بسياسته الخارجية !! فهل هو كذلك؟ والى اي حد يمكن للصين او لروسيا ان تبني لها موطئ قدم في ما اعتبر حديقة اميركية وغربية منذ عقود؟
السعودية تهيمن على القرار الخليجي منذ عقود، وليس دقيقاً ان هناك كتلة موحدة خليجية، بل توجّه واحد في القضايا الدولية وكثير من القضايا البينية القرار فيها يعود للسعودية...
الازمة الخليجية خير دليل على هذا الواقع، وايضاً التوتر الذي حصل في منتصف ٢٠٢١ بين الامارات والسعودية على خلفية عدم قبول ابوظبي بتحديد سقف حصتها من الانتاج النفطي ضمن اوبك؛ هناك توجه واضح لدى كل من الصين وروسيا للتغلغل في منطقة النفوذ الاميركية في الخليج، والتوجهات الروسية والصينية لتطوير علاقاتهما مع الدول الخليجية واضح منذ عقود.
لكن لا يعني انه ينجح في كثير من الاحيان، نظراً لعوامل عديدة منها عدم الاقتناع السعودي وايضاً الخشية من ردة الفعل الاميركية، كون واشنطن تملك نفوذاً هائلاً في هذه المشيخات والممالك بنته على امتداد العقود الماضية.
/انتهى/
تعليقك