وكالة مهر للأنباء - د.يحيى حرب: العنوان الاول لنتائج القمة العربية الاخيرة المنعقدة في جدة هو: تعمق الخيبة الاميركية وتظهيرها.. نقول انها خيبة لأن اميركا راهنت على التشرذم العربي، ورعت حالة الانقسام والاقتتال.. ومن ثم التفتت والهوان الذي اصاب العرب دولا وشعوبا وقضايا..
اميركا هي التي قادت العرب في العقدين الماضيين بكل جبروت وعنجهية، كأي دولة مستعمرة.. وذهبت بهم الى اسوأ مرحلة تاريخية بين شعوب الارض كافة.. اميركا هذه بدأت تشعر بوهن قبضتها السياسية، وعجز التها الاعلامية عن الاستمرار في الاستهانة المطلقة بالعرب وكرامتهم ودولهم ومستقبلهم..
اميركا التي نهبت ثروات العرب، وفرضت عليهم ان يحولوا فائض اموالهم الى خزائن بنوكها وسندات خزينتها، او لشراء البضاعة الكاسدة من مصانع الاسلحة والمواد الاستهلاكية عندها، وتحويل دولهم الى اسواق نهمة لمنتجاتها، او لتمويل حروبها في كل انحاء الارض، وحروبهم المفتعلة بمشاريعها الفتنوية..
اميركا التي فرضت على العرب ان يعادوا اعداءها، وجرتهم رغما عنهم الى تحالفاتها المشبوهة، ومنعت اي شكل من اشكال الوحدة او التضامن او التعاون او الشراكة بينهم، وعمقت الصراعات البينية بين دولهم والشكوك السياسية بين شعوبهم، وتحاصر دولهم، وتمنع انفتاحهم على العالم وقواه الحية..
اميركا التي دعمت التخلف وتبعية العرب الاقتصادية، والتي حرمتهم من اي فرصة للتنمية الاقتصادية والعلمية، وجعلت من خريجي جامعاتها العرب جيشا من العاطلين عن العمل، او ملحقات في مصانعها ومؤسساتها وآلتها الاقتصادية، وحولتهم الى ذيل قائمة الدول النامية رغم الامكانات الهائلة التي يملكونها..
اميركا التي حولت العرب الى جزر معزولة عن العالم، وبنت اسوار العداوة بينهم وبين جميع جيرانهم من الشعوب والامم، ونفرت منهم شعوب افريقيا واسيا واميركا اللاتينية، بعد ان كانوا قادة محترمين في حركات الشعوب التحررية، ومسيرات التنمية والتعليم، وشركاء في معركة التضامن ضد الفقر والتخلف..
اميركا التي عبثت بالاسلام دينا وثقافة وعقيدة، عبر دعم الحركات الارهابية واستنباتها واستغلالها، ومن ثم ادانتها ولصقها بالاسلام والعرب، واستحداث مفهوم الاسلاموفوبيا وتعميمه على جميع العرب خصوصا، وخلطت عمدا بين سماحة الدين وعنف الارهاب ووحشيته، وبين الارهاب والمقاومة المشروعة..
وثانيا عبر تبني ثقافة الانقسام المذهبي، والنفخ في الخلافات العقائدية والفقهية بين الطوائف والمدارس الفكرية، واحياء وتحديث الصراعات التي ماتت وشبعت موتا، واستهلكت قدرا عظيما من جهود الامة وعمرها وثقافتها، والتي كانت دائما وسيلة ومدخلا وسلاحا لاستعباد العرب واخضاعهم للهيمنة الاجنبية..
اميركا هذه بلغ بها الحقد على العرب والتمادي في الاستهتار بثقافتهم، ان نشرت بينهم دينا جديدا باسم الابراهيمية، فلم يعد دينهم متمم الرسالات السماوية، ولم يعد نبيهم خاتم الرسل، ولم تعد رسالته كمال الدين وتمام النعمة، وكأن القرآن الكريم لم يقل: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً }، صدق الله العظيم.
اميركا التي فرضت على العرب التطبيع مع عدوهم، وقاتل شعوبهم، ومشرد اخوانهم، ومدنس مقدساتهم، والمتآمر على مستقبلهم، والمتنكر لحقوقهم، والتي بلغ الامر بها حد العبث بثقافتهم الدينية والاجتماعية، وصنَّعت نخبة مبتذلة، وجوقة اعلامية لنشر الشذوذ وتمزيق الروابط الاسرية وتسخيف القيم الانسانية..
اميركا هذه وجدت نفسها لاول مرة منذ عقود، خارج قاعات القمة العربية، وخارج مكاتب اعداد بيانها الختامي، ولم تعد شريكا في مداولات ملوكها ورؤسائها، بل اصبحت النقطة السوداء في الثوب، ومصدر القلق والشك والتوجس، ولم تعد الحليف الذي يؤمن جانبه، وابتعد الجميع عن ذكر العلاقة بها..
لقد خسرت اميركا في القمة العربية عددا من اعمدة استراتيجيتها التقليدية في المنطقة:
عادت سوريا بكل ما تمثله هذه القلعة الشامخة من قلاع المقاومة، وبكل ما تحمله من ارث وسياسة مقاومة المشروع الاميركي الصهيوني
1- فلم تعد الجمهورية الاسلامية في ايران الفزاعة التي تخيف العرب، ولم تعد العلاقة بين شعوب المنطقة محكومة بالصراع والتوجس بين ضفتي الخليح، بل تبارى الزعماء العرب بالاشادة والترحيب بالتفاهم السعودي الايراني..
2- عادت فلسطين القضية المركزية للعرب، بكل ابعادها السياسية والامنية والاستراتيجية، وعاد كيان الاحتلال، حتى لدى الانظمة المطبعة، مصدرا للعدوان، وسببا لعدم الاستقرار، ومنتهكا للحرمات والمقدسات، وعاد الدفاع عن الشعب الفلسطيني واجبا مقدسا بعيدا عن كل اسباب الفرقة والانقسام..
3- عادت سوريا بكل ما تمثله هذه القلعة الشامخة من قلاع المقاومة، وبكل ما تحمله من ارث وسياسة مقاومة المشروع الاميركي الصهيوني، باعتبارها رمزا من رموز التصدي للاحتلال الاميركي المباشر وغير المباشر، والمتصدية لثقافة التغريب والتطبيع والارهاب، واجهاض الفتنة المذهبية ذات البعد الاستعماري..
ان عودة سوريا الى دورها ومكانها الطبيعي في قيادة الامة، ليس مجرد تفصيل في المشهد العربي، بل هو انقلاب كامل للصورة، يحمل مضامين سياسية وفكرية عميقة، فهو يعني فشل المؤامرة الاستراتيجية لتمزيق الدولة والعلاقات العربية والاقليمية، ووضع نهاية للربيع المشؤوم والارهاب المذموم والهيمنة الامبريالية..
ادرك العرب ان الصراعات بينهم واقامة جدران العداوة والقطيعة بين شعوبهم لن تحقق لهم القوة ولا العزة والمنعة
4- لقد شخص العرب ازماتهم في السودان وليبيا وتونس واليمن وسوريا ولبنان، باعتبارها ازمات تهدد الامة ووحدة الدول، واستنزافا للطاقات، ومدخلا للعبودية والهيمنة الاميركية، وغابت لغة التشفي والعداوة بين الحكام بعضهم مع بعض، ولم يعد اسقاط الانظمة لعبة تغيب الوعي عن هدف المؤامرة الاكبر والاعمق..
لقد ادرك العرب ان الصراعات بينهم واقامة جدران العداوة والقطيعة بين شعوبهم لن تحقق لهم القوة ولا العزة والمنعة، بل هي الطريق السريع لاضعافهم واستنزاف طاقاتهم، وتأبيد خضوعهم للمستعمر، وصرفهم عن سبل تنمية مجتمعاتهم، فبعد عقد من الحروب الاهلية بات الجميع اكثر ضعفا واقل امنا..
5- لقد استفاق العرب على بؤسهم وتخلفهم وفقرهم رغم غناهم بالموارد والطاقات والقدرات، وشخصوا طريق الحل لمشاكلهم والخروج من دوامة العنف والسقوط والتخلف، وادركوا ان البديل هو التنمية الشاملة الجامعة لكل طاقاتهم، فالابراج والمحميات الضريبية والسمسرة بين مراكز الانتاج لا تعني التنمية..
ولا بديل عن اقامة البنى التحتية للانتاج الزراعي والصناعي، والاستثمار في اليد العاملة والكوادر المؤهلة والامكانات المادية والثروات الطبيعية والاراضي الشاسعة والتنوع البيئي والمناخي، هي امكانات يندر وجودها في بيئة متماثلة متقاربة يجمع بينها كل عناصر الوحدة والانسجام وتتوفر لها عناصر النجاح..
اننا نتجه الى عالم متعدد الاقطاب اكثر عدالة واحتراما لثقافات الشعوب...
6- لقد ادرك العرب ان العالم يتغير، وان اميركا وغربها قوة آفلة، بعد ان اثبتت عبر عقود طويلة انها عاجزة عن القيادة السليمة والامنة والمفيدة للعرب خصوصا، واننا نتجه الى عالم متعدد الاقطاب اكثر عدالة واحتراما لثقافات الشعوب، وتطلعاتها للاستقلال والسيادة على مقدراتها وامنها وبناء مستقبلها..
7- وادرك العرب ان ايران وتركيا اقرب اليهم من الولايات المتحدة واليابان، وان قنوات التعاون الاقليمي على مستوى الاستثمار والتنمية الشاملة مع دول الجوار اجدى اقتصاديا وسياسيا، وهي ممكنة لاقامة منطقة اقتصادية واسعة تنافس سلميا، وتتعامل بندية مع القوى العالمية الاخرى القديمة والجديدة..
8- وادرك العرب ان ايران بتجربتها السياسية مثال يحتذى للصمود وكسر العدوان، والتصدي بامكاناتها الذاتية لكل محاولات الامبريالية لاستعادة الهيمنة عليها، وانها بتجربتها الاقتصادية والعلمية الفائقة النجاح قادرة على ان تكون قاطرة قوية لاقتصادات المنطقة وثورتها العلمية ونهضتها التقنية المنشودة..
التجربة الايرانية اثبتت ان الشعوب التواقة للتحرر وبناء دولها على اسس حضارية، والحفاظ على ثقافتها ووحدتها وقيمها الدينية والاجتماعية، قادرة على ذلك دون الحاجة لاميركا وغربها المتوحش...
التجربة الايرانية اثبتت ان الشعوب التواقة للتحرر وبناء دولها على اسس حضارية، والحفاظ على ثقافتها ووحدتها وقيمها الدينية والاجتماعية.. قادرة على ذلك دون الحاجة لاميركا وغربها المتوحش، بل ان السبيل الوحيد لوضع شعوبنا ودولنا على مسار التقدم والنهضة هو باقامة مسافة مع الامبريالية وادواتها وثقافتها..
لا شك ان التجربة الايرانية ستكون ملهمة لشعوب المنطقة ولكثير من شعوب العالم سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وهي تجربة مفتوحة ومنفتحة للتعاون، وقادرة على ضمان الامن للمنطقة عبر منظومة امنية يشارك بها الجميع على قدم المساواة وبروح الاخاء بما يحقق مصالح مشتركة وامنا جماعيا عادلا ومضمونا..
فماذا بقي لاميركا اذن؟ الخيبة والفشل...
كل الاسس التي قامت عليها الاستراتيجية الاميركية لبناء شرق اوسط جديد، صهيوني المواصفات، اكثر خضوعا وتبعية لهينتها، سقطت... بل امام عينيها يبزغ فجر شرق اوسط، عنوانه المقاومة وشعاراتها وقيمها الوطنية.. ولكن؟!! هل سيلتزم العرب بقرارات قمتهم؟ هل ستسكت اميركا وتترك المنطقة تفلت من قبضتها؟ هل ستقبل بهزيمة مشروعها وخسارة اهم مراكز نفوذها؟ وماذا عن كيان الاحتلال ووظيفته التاريخية في اجهاض الوحدة والتعاون والنهضة العربية؟ هل يمكن ان تخدعنا الانظمة وتنكص عن هذه الاحلام؟..
كل الاسس التي قامت عليها الاستراتيجية الاميركية لبناء شرق اوسط جديد صهيوني المواصفات اكثر خضوعا وتبعية لهينتها، سقطت...
كلها اسئلة مشروعة لا تلغي الوقائع، لكنها تبقي الحذر وواجب الشك المنهجي، وتفتح الباب على رؤية تحليلية ضرورية لمآلات الصراع في المنطقة، بما يوجب الاستعداد والتيقظ، فنحن امام انعطافة محتملة تلتقي مع تحول عالمي تاريخي، وبامكاننا لاول مرة ان نكون جزءا فاعلا في هذا التحول لا جائزة ترضية لاقطابه..
العالم سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وهي تجربة مفتوحة ومنفتحة للتعاون، وقادرة على ضمان الامن للمنطقة عبر منظومة امنية يشارك بها الجميع على قدم المساواة وبروح الاخاء بما يحقق مصالح مشتركة وامنا جماعيا عادلا ومضمونا.../انتهى/
(*) باحث بالشؤون الدولية
تعليقك