وكالة مهر للأنباء، الكاتبة هدی یوسفی: في الأسابيع الأخيرة، واجهت الأجواء السياسية للكيان الصهيوني موجة جديدة من الأزمات الداخلية. أزمة لم تنشأ هذه المرة من صواريخ المقاومة الفلسطينية، بل من داخل دائرة المقربين من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. وصلت قضية ما يسمى بـ"قطر غيت"، والتي كانت قيد التحقيق لعدة أشهر، إلى ذروتها الآن، حيث كشفت عن شبكة معقدة من الروابط المالية، والتواطؤ الإعلامي، ونفوذ الجهات الأجنبية. ولم تقتصر هذه القضية على التشكيك في سمعة نتنياهو فحسب، بل أثارت أيضاً أسئلة جدية حول دور الوسطاء الإقليميين في معادلات الأمن في غزة.
قطر غيت؛ من الفضيحة المالية إلى الأزمة الأمنية
تدور قضية قطر غيت حول الاتهامات الموجهة إلى اثنين من كبار مستشاري نتنياهو، يوناتان أوريتش (مدير الإعلام السابق في حزب الليكود) وإيلي فيلدشتاين (المستشار الإعلامي الكبير لرئيس الوزراء). والشخصان متهمان بتلقي أموال من الحكومة القطرية، والترويج لمصالح الدوحة في وسائل الإعلام الإسرائيلية، وتعزيز الصورة الإيجابية لدور قطر في الوساطة الأخيرة بشأن الحرب في غزة، والتقليل من شأن دور مصر كوسيط محايد. وبحسب وثائق سربتها أجهزة الأمن الإسرائيلية، فإن المتهمين تلقوا مبالغ كبيرة من المال عبر شبكة معقدة من جماعات الضغط الأميركية ورجال الأعمال الصهاينة الناشطين في منطقة الخليج الفارسي، وباستخدام نفوذهم الإعلامي، نشروا مقالات متعاطفة مع مواقف قطر في وسائل الإعلام الناطقة بالعبرية.
والنقطة المهمة هنا هي توقيت ظهور هذه الاكتشافات؛ حيث تعقد جلسات محاكمة نتنياهو بتهم الفساد في الوقت الذي لا يزال فيه الكيان الإسرائيلي منخرطا في حرب غزة ومفاوضات معقدة لإطلاق سراح اسراه لدى حماس. وقد وصلت هذه القضية، التي كانت في البداية تحت حظر النشر، إلى الرأي العام بسبب ضغوط من المؤسسات القضائية ووسائل الإعلام المعارضة لنتنياهو.
التفاصيل القانونية والأمنية
ووجهت الشرطة الإسرائيلية وجهاز الأمن الداخلي (الشاباك) العديد من التهم للمتهمين، مستشهدين بقوانين النظام الصارمة:
1. الاتصال بعميل أجنبي (المادة 114 من قانون العقوبات): تجرم هذه المادة أي اتصال مباشر أو غير مباشر مع جهات أجنبية معادية لإسرائيل أو لها مصالح مخالفة لها، حتى لو لم ينجم عن ذلك أي ضرر ملموس بالأمن الداخلي. تصل عقوبة هذه الجريمة إلى السجن لمدة تصل إلى 15 عامًا، وفي حالات مثل التجسس، تصل العقوبة إلى السجن مدى الحياة.
2. غسيل الأموال (قانون مكافحة غسيل الأموال): إن استلام الأموال من مصادر أجنبية دون الإبلاغ عنها إلى السلطات المختصة يعد مخالفة خطيرة لهذا القانون.
3. التأثير على قرارات الحكومة: إذا ثبت أن المدفوعات مرتبطة بتغير مواقف تل أبيب تجاه قطر، فإن القضية سترتفع إلى بعد أمني سياسي.
وتشكل شهادة جيل بيرغر، رجل الأعمال الصهيوني الناشط في الخليج الفارسي، أحد الركائز الأساسية في هذه القضية. واعترف بدفع ملايين الدولارات لفيلدشتاين بناء على طلب جاي فوتليك (رجل الضغط القطري الأمريكي والمستشار السابق لبيل كلينتون). ورغم أن محاميي فيلدشتاين يؤكدون استلام الأموال، إلا أنهم يزعمون أن هذه الأموال كانت مخصصة فقط للخدمات الاستراتيجية والاتصالات لمكتب رئيس الوزراء، وليس لها أي علاقة بقطر.
رد فعل نتنياهو؛ من الإنكار إلى التدخل في المؤسسات الأمنية
نتنياهو، الذي ليس هو نفسه في مركز الاتهامات، أصدر بيانات قاسية اتهم فيها الشرطة وجهاز الأمن الداخلي (الشاباك) "باحتجاز مستشاريه رهائن للضغط السياسي". وفي شهادته الأخيرة أمام المحكمة، أكد: "على الرغم من أن قطر ليس لديها علاقات رسمية مع إسرائيل، إلا أنها لا تعتبر دولة معادية". ويأتي هذا الادعاء في الوقت الذي حددت فيه تل أبيب في وقت سابق قطر باعتبارها الراعي المالي لحركة حماس.
حتى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي اتخذ إجراء غير مسبوق لاحتواء هذه الاكتشافات. وفي الشهر الماضي، وبدعم من مجلس الوزراء، أقال نتنياهو رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك) رونين بار، لكن المحكمة العليا الإسرائيلية أصدرت حكما طارئا أوقف إقالته حتى انتهاء التحقيق في قضية قطر غيت. ويشير هذا المواجهة بين السلطتين التنفيذية والقضائية إلى عمق الأزمة في بنية السلطة في الكيان الصهيوني.
بيان قطر؛ نفى الاتهامات وأكد على التعاون مع مصر
وفي رد رسمي، وصفت الحكومة القطرية كافة الاتهامات بأنها "كاذبة ولا أساس لها من الصحة"، وأكدت في بيان: "الحكومة القطرية لم تدفع أبدا أموالا لتقويض جهود الإخوة المصريين أو غيرهم من الوسطاء، وتخدم هذه المزاعم أجندات تهدف إلى تخريب جهود الوساطة وإضعاف العلاقات بين الدول الشقيقة. وتظل قطر ملتزمة بدورها الإنساني والدبلوماسي في إنهاء الحرب، وتواصل العمل مع مصر للتوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار. ويجب أن تظل الوساطة خالية من أي ألعاب سياسية، وإن الأولوية هي تخفيف معاناة الشعب الفلسطيني وحماية المدنيين والتوصل إلى اتفاق عادل يرتكز على حل الدولتين".
ويظهر البيان، الذي صدر بلهجة دبلوماسية لكن حازمة، أن الدوحة تسعى إلى الحفاظ على مكانتها كلاعب أساسي في المعادلات الإقليمية.
العواقب؛ من الأزمة الداخلية إلى عدم الاستقرار في المعادلات الإقليمية
لقد كانت هذه القضية بمثابة زلزال سياسي، وكانت لها عواقب بعيدة المدى على النظام الصهيوني والجهات الفاعلة الإقليمية. وعلى الصعيد المحلي، أدى الكشف عن الفساد المالي داخل دائرة رئيس الوزراء إلى تفاقم أزمة الشرعية التي تواجهها حكومة نتنياهو، ودعت المعارضة إلى استقالة رئيس الوزراء على الفور. ومن ناحية أخرى، كشفت هذه الفضيحة عن قدرة جهات أجنبية على الوصول إلى مراكز صنع القرار في تل أبيب، وزادت من المخاوف بشأن الضعف الأمني للكيان.
وفي البعد الإقليمي، ورغم أن قطر تحاول الحفاظ على مكانتها كوسيط محايد من خلال إصدار بيان دبلوماسي، فإن استمرار الخلافات قد يقلل من ثقة الأطراف المعنية بدور الدوحة. وتكتسب هذه القضية حساسية خاصة في ظل حالة من عدم اليقين تحيط بالمفاوضات بشأن إطلاق سراح السجناء الفلسطينيين، وأي حالة من عدم الاستقرار قد تؤدي إلى حرب أطول. ومن ناحية أخرى، قد يشتعل التنافس التاريخي بين قطر ومصر على الدور في غزة في ظل هذه الاتهامات. على الرغم من أن كلا البلدين يؤكدان ظاهريًا على التعاون الثنائي.
خلاصة القول
قضية قطر غيت، إلى جانب كونها فضيحة مالية، فتحت نافذة على الشقوق العميقة في نظام الحكم للكيان الصهيوني. وتتعلق هذه الحادثة بثلاث جبهات قانونية وسياسية وأمنية في آن واحد، وتثير تساؤلات حول شفافية المؤسسات الصهيونية ودور جماعات الضغط الأجنبية في صنع السياسات الرئيسية. ورغم أن الكيان الإسرائيلي لم يتعافَ بعد من صدمة هجمات السابع من أكتوبر، فإن فضيحة قطر غيت قد تصبح عاملاً في إضعاف سلطة الحكومة اليمينية بشكل أكبر. من ناحية أخرى، يظهر رد فعل قطر أن الدوحة تحاول تعزيز مكانتها كفاعل دبلوماسي في المنطقة من خلال الحفاظ على العلاقات مع مصر والتأكيد على الأولويات الإنسانية. لكن الكشف عن المزيد من المعلومات حول هذه القضية قد يدفع معادلات المنطقة المعقدة إلى مرحلة جديدة.
/انتهى/
تعليقك