وكالة مهر للأنباء_ وردة سعد: أبدع الإمام روح الله الموسوي الخميني ( قدس سره ) من خلال فكره الذي ترجم بمشروعه الوحدوي النهضوي في إنضاج الوعي الجمعي وتحويله الى طاقة ثورية نجحت بامتياز بإسقاط نظام الشاه، وتأسيس دولة قأئمة على مبادىء الإسلام المحمدي الاصيل، وقد عمل الامام الخميني (رض) بجهد ودون كلل او ملل بتعزيز الوحدة الاسلامية.
حول هذا العنوان، أجرت مراسلتنا، الأستاذة وردة سعد، حواراً صحفيا، مع عضو المجلس المركزي في تجمع العلماء المسلمين في لبنان، فضيلة الشيخ محمد الزعبي، وجاء نص الحوار على النحو التالي:
طرح الإمام الخميني في أدبياته السياسية مشروع الوحدة الإسلامية، قبل وبعد قيام الجمهورية الإسلامية. فما هي مبررات هذا الطرح في الواقع السياسي للدول العربية والإسلامية في مرحلة ما بعد الاستعمار، وكيف كان ينظر الإمام الخميني إلى مشروع الكيان الإسلامي الكبير في إطار الصراع الدولي ومواجهة المطامع الغربية في بلادنا وثرواتنا؟
مرحلة ما بعد الاستعمار المباشر يمكن تسميتها بمرحلة الاستعمار غير المباشر، حيث خرج المستعمر الفرنسي والبريطاني من بلاد المسلمين، لكنه أقام أنظمة وإمارات وممالك تقدم خدمة مصالحه على مصالح شعوبها وبلدانها.
وقد ورثت الولايات المتحدة الأمريكية تركة ذلك الاستعمار الفرنسي والبريطاني، وعملت دوائر الاستعمار القديم والجديد على إبقاء العالم الإسلامي في حضيض التخلف والفرقة، لتبقى تمارس الوصاية عليه، وتكبّله بمعاهدات وعقود تسمح لها بنهب ثرواته وطاقاته ومقدّراته.
هذا الواقع المنحط للعالم الإسلامي كان لا بد أن يثير الشعوب الإسلامية ويحرك وعيها نحو التغيير. وقد قامت الشعوب بمحاولات عديدة للتغيير، وشرط التغيير أن ينطلق من دوافع إيمانية صادقة يوجّهها وعي عميق.
وهذا الشرط كانت نسبته متفاوتة بين حركات التغيير في العالم الإسلامي، ولكنها لم تبلغ مستوى كافياً حتى قامت الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني (رضوان الله عليه)، مع ثلّة من المفكرين العظام الذين نجحوا في إنضاج الوعي الجماهيري وتحويله إلى طاقة ثورية نجحت في إسقاط نظام الشاه، الذي كان يُعتبر من أقوى الديكتاتوريات في العالم الإسلامي.
هذه المقدمة تجيب عن مجمل أسئلتكم؛ فالإمام الخميني كان يتمتع بدراية عميقة بمصالح المستكبرين المستعمرين، وخططهم الخبيثة، وأساليبهم الماكرة لإبقاء العالم الإسلامي مشرذماً في دويلات ضعيفة، لا تستطيع مواجهة الدول الكبرى، ولا تستطيع حماية ثرواتها وطاقاتها من نهب المستعمر.
وهذا النهب يجعل قوة المستعمر في تزايد مستمر، ويمنع العالم الإسلامي من أن يحقق لنفسه قوة، ويبقي إرادته وقراره في دائرة الخضوع لقوى الاستكبار. ولذلك أطلق الإمام الخميني (رضوان الله عليه) شعار:
"يا مسلمي العالم.. وأيها المستضعفون الرازحون تحت سلطة الظالمين.. انهضوا واتحدوا، ودافعوا عن الإسلام وعن ثرواتكم، ولا تخشوا ضجيج المستكبرين".
كان يمكن لدول الاستكبار أن تغض الطرف عن هذه الكلمات، فلطالما رُفعت شعارات جميلة تدغدغ المشاعر، ولكنها لم تحمل مشروعاً جاداً يشكل خطراً على نفوذ الاستعمار. أما كلمات الإمام الخميني، فإنها سرعان ما تحولت إلى مشروع نهضوي عملي يتحرك على أرض الواقع، تجلّى في سياسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وفي علاقتها بالأنظمة والشعوب في العالم الإسلامي، وفي مدّ يدها لكل حركة تحرّر جادّة.
بل إن الوحدة الإسلامية أصبحت مادة من مواد دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فنجد في المادة الحادية عشرة من الدستور الإسلامي:
"بحكم الآية الكريمة (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)، يعتبر المسلمون أمة واحدة، وعلى حكومة جمهورية إيران الإسلامية إقامة كل سياستها العامة على أساس تضامن الشعوب الإسلامية ووحدتها، وأن تواصل سعيها من أجل تحقيق الوحدة السياسية والاقتصادية والثقافية في العالم الإسلامي".
يقول الإمام الخميني:
"إننا على استعداد للدفاع عن الإسلام، والبلاد الإسلامية، وعن استقلالها في جميع الأحوال... وأن برنامجنا هو برنامج الإسلام، ووحدة كلمة المسلمين، واتحاد الدول الإسلامية، وتحقيق الأخوة مع كافة أبناء الطوائف الإسلامية"
[صحيفة الإمام، ج1، ص336].
هذا البرنامج الذي طرحه الإمام أصبح من أهم مشاريع السياسة الإيرانية منذ انتصار الثورة الإسلامية إلى يومنا هذا، فنكاد لا نجد إعلاماً وحدوياً أو مؤسسة وحدوية جادة في كافة أنحاء العالم الإسلامي إلا وللجمهورية الإسلامية اليد الطولى في دعمها.
بدءاً من تأسيس المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، الذي بذل جهوداً جبّارة في عقد المؤتمرات الدولية للوحدة الإسلامية، وفي إصدار المؤلفات والنشرات الوحدوية، وفي حشد طاقات المفكرين والإعلاميين والكتاب من كافة أنحاء العالم الإسلامي، ومن كافة المذاهب الإسلامية.
وكذلك تجربتنا في تجمع العلماء المسلمين في لبنان، تُعتبر من أنجح التجارب في العالم الإسلامي، حيث ضم التجمع مئات العلماء من السنة والشيعة في لبنان، ضمن إطار جسد الوحدة الإسلامية بأجمل تجسيداتها، وكان له تأثير كبير في إسقاط مشاريع الفتنة في لبنان والعالم الإسلامي.
وكان له جهود جبارة في عقد مؤتمرات في لبنان وخارجه حول الوحدة الإسلامية، وفي إصدار النشرات والدوريات الإعلامية... وكانت فاتحة إنجازاته إسقاط اتفاق السابع عشر من أيار عام 1983م، عندما حاول النظام اللبناني في ذلك الوقت أن يعقد اتفاقاً مع العدو الصهيوني.
وتجمع العلماء المسلمين تأسس بمباركة الإمام الخميني ودعمه.
وكذلك أسبوع الوحدة الإسلامية يكشف عن عبقرية أنتجها همٌّ وجديّة حوّلت إحدى أهم القضايا الخلافية بين المسلمين إلى قضية وحدوية، دون أن يتنازل أي فريق عن رأيه.
فولادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليست مجرد موسم احتفالي، بل هي محطة لاجتماع المسلمين حول نبيّهم الأسوة، وحول رسالته العظيمة.
ولكن هذه المحطة كانت تتحول سبباً من أسباب الاختلاف حول تاريخ ولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بين 12 ربيع الأول و17 ربيع الأول في أشهر الأقوال عند السنة والشيعة.
فجعلها الإمام مناسبة للوحدة، بأن أعلن الأيام من 12 إلى 17 ربيع الأول أسبوعاً للاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وللاحتفال بالوحدة الإسلامية.
وجهود الإمام الخميني في تحقيق الوحدة الإسلامية لا يمكن أن نحصيها في هكذا لقاء، وإنما اكتفينا بهذه العناوين والإشارات.
وإذا نظرنا إلى حجم الإنفاق الاستعماري على مشاريع الفتنة على مستوى الإعلام والمؤسسات، أدركنا عظمة جهود الإمام الخميني (رضوان الله عليه) في التصدي لمشاريع الفتنة.
إن إمكانات وقدرات مشاريع الفتنة، على مستوى المال والإعلام والنفوذ، أكبر بكثير من إمكانات مشروع الوحدة الإسلامية.
ورغم ذلك، بقي مشروع الوحدة الإسلامية يواجه مشاريع الفتنة، بل ويتقدم عليها، وبتسديد الله سبحانه وتأييده سيتحقق أمل الإمام، عندما قال:
"إنني آمل أن تتحقق بين الدول الإسلامية الأخوة الإسلامية حسبما أمر القرآن بذلك. فإذا ما تحققت مثل هذه الأخوة بين البلدان الإسلامية، ستتشكل قوة عظمى ليس بوسع أية قوة في العالم مواجهتها".
[صحيفة الإمام، ج8، ص88].
القضية الفلسطينية كانت في مرتبة متقدمة في اهتمامات الإمام الخميني رضوان الله عليه، بعد قضية إسقاط الشاه والنظام الدكتاتوري العميل الذي حكم به إيران. فما هي أسباب تخصيص هذه القضية بالاهتمام تنظيرًا وممارسة؟ وهل ترى أن الصراع في فلسطين كان سببًا في عداء الغرب للثورة الإسلامية؟
لا يمكن الفصل بين اهتمام الإمام الخميني بالقضية الفلسطينية وإيمانه بالوحدة الإسلامية، فمواقف الإمام وأقواله وأفعاله تؤكد أن الاختلاف المذهبي لم يكن له أدنى لحاظ في تبنيه للقضية الفلسطينية ومظلومية الشعب الفلسطيني، لا قبل انتصار الثورة ولا بعدها. ففي خطاب له في 11/10/1968 (أي قبل انتصار الثورة بأكثر من عشر سنوات)، يقول الإمام رضوان الله عليه:
"عندما ترون دماء الأبرياء من إخوانكم وأخواتكم تُسفك في أراضي فلسطين المقدسة، وترون احتلال أراضينا وتدمير بيوتنا على أيدي الصهاينة الأشقياء، لا يعود في هذه الظروف من سبيل سوى مواصلة الجهاد، ومن الواجب على المسلمين جميعهم أن يبذلوا مساعداتهم المادية والمعنوية في هذه المعركة المقدسة، والله سيساند هذه الإرادة."
من هذه الكلمات نجد أن الإمام تبنّى القضية الفلسطينية تلبية للواجب الشرعي في مساندة المظلوم ومواجهة الظالم، إضافة إلى رابط الأخوة الإسلامية. وقد أكد هذا المعنى في خطاب في 15/12/1978:
"دائمًا دافعنا قدر الإمكان عن فلسطين لأنه واجب إسلامي، وسنعمل بهذا التكليف الإلهي دائمًا إلى جانب المسلمين كافة، إن شاء الله."
وكانت قضية فلسطين من أبرز القضايا التي عارض فيها سياسة الشاه محمد رضا بهلوي، الذي كان على علاقة وثيقة بإسرائيل على المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية، وكان يمدها بالنفط الإيراني. وفور سقوط نظام الشاه وانتصار الثورة الإسلامية، أُغلقت سفارة إسرائيل وحلّت محلها سفارة فلسطين.
وكذلك فإن قضية فلسطين كان يُفترض أن تكون عاملًا من عوامل الوحدة الإسلامية. وقد سعى الإمام الخميني رضوان الله عليه لجعل قضية فلسطين قضية جامعة؛ فطالب الحكومات العربية والإسلامية أن تدعم القضية الفلسطينية، لكنه لم يعلّق دعمه على مواقفهم، بل باشر بمدّ يد العون للمقاومة في لبنان وفلسطين، هذا الدعم الذي نقل المقاومة نقلة نوعية، أصبحت به قادرة على فرض توازن رعب مع العدو الصهيوني، وأثمر انتصارات متوالية في فلسطين ولبنان.
ولم تغب قضية فلسطين عن خطاب الإمام الخميني الذي كان يوجهه إلى الحجاج، حيث إن الحج - وهو أحد الأركان الكبرى في الإسلام - هو ملتقى كبير لمختلف شعوب العالم الإسلامي. وفي هذا الملتقى يجب أن تُطرح وتُناقش قضايا المسلمين الجامعة، وعلى رأسها قضية فلسطين.
وكذلك الصوم، أحد أركان الإسلام، ربط الإمام بينه وبين قضية فلسطين من خلال إطلاق "يوم القدس العالمي" في شهر رمضان، حيث تكون الروحانية الإسلامية عالية في الأمة، وخاصة في الثلث الأخير من شهر رمضان، أيام القيام وليالي القدر. فاختار الإمام الخميني يوم الجمعة في هذه الأيام المباركة (آخر جمعة من شهر رمضان) ليكون يوم القدس العالمي.
هذا الدعم اللامحدود للمقاومة ضد العدو الصهيوني، سواء على المستوى العسكري أو السياسي أو الثقافي، وهذا الخطاب الواضح والصريح والشجاع، وتوظيف المواسم الإسلامية (كالصوم والحج) لخدمة القضية الفلسطينية، وبث الوعي في شعوب الأمة على خبث الخطط الاستعمارية... كل هذا جعل من الثورة الإسلامية ومن الجمهورية الإسلامية الإيرانية عدوًا للغرب، الذي اعتبرها خطرًا على مصالحه، وعلى نهبه لمقدّرات الشعوب وثرواتها.
كما خشي أن تنتقل عدوى الثورة إلى الشعوب العربية، كما حصل في الثورة الفرنسية سنة 1789م، التي انتقلت عدواها إلى كل الشعوب الأوروبية؛ خاصة وأن الرابط بين شعوب العالم الإسلامي أقوى من الروابط بين شعوب أوروبا. ولذلك عمدت دول الاستكبار، وعلى رأسها أمريكا، إلى محاصرة إيران اقتصاديًا وسياسيًا، وفرض عقوبات عليها. كما عمدت دوائر الفتنة، من مؤسسات إعلامية ودينية وثقافية، إلى محاصرة إيران مذهبيًا، من خلال التحريض ونشر الكراهية المذهبية...
وهذا الحصار جعل إيران تعتمد على قواها الذاتية، فأنتج تطورًا كبيرًا وسريعًا على مستوى التكنولوجيا والعلوم، ومنح إيران اكتفاءً ذاتيًا. ولكنه - أي الحصار على إيران - حرم العرب من الانفتاح على الفكر الثوري، وحرمهم بالتالي من فرصة كانت سانحة جدًا للتحرر والنهوض.
ما هي عوامل القوة التي استند إليها الإمام الخميني الراحل لمواجهة التحديات العظيمة التي واجهتها الثورة الإسلامية في إيران، بدءًا من مواجهة نظام الشاه المتجذّر، وصولًا إلى صد محاولات التآمر من القوى الإمبريالية والصهيونية العالمية؟ وما دور الإسلام والتراث الإسلامي في بناء هذه القدرة على الصمود؟
إن شخصية بعظمة الإمام الخميني يصعب الإحاطة بأسرار عظمتها، رغم وضوحها وبساطتها، ولكن ذلك لا يعني أننا عاجزون عن معرفة الكثير من أسرار تلك العظمة. ولكن سيبقى هناك ما لم نقله.
لا شك أن الإمام الخميني اعتمد أولًا على إيمانه بالله سبحانه، وأن عِرفانه منحه طاقة لا تلين، ولا تتعب، ولا تنكسر. ولذلك، فإنه انطلق في ثورته دون حسابات للتراجع، وما دامت حركته بعين الله، فلا يهم إلى أين تصل. وهذا الإيمان والعرفان لا ينفصلان عن عطاء كربلاء، التي جسّدت كل معاني الإيمان والتضحية والوعي والصبر والثبات، وهذا ما أوضحه الإمام بكلمته الخالدة:
"إنّ كل ما لدينا من محرم وعاشوراء".
وإلى جانب هذا الإيمان والعرفان، امتلك الإمام الخميني قدس سره وعيًا ودراية بالواقع، وباللحظة التاريخية، وبخطط الأعداء ومشاريعهم وأساليبهم ومصالحهم وأهدافهم وتقاطعاتهم وتناقضاتهم. كما امتلك دراية بطبيعة الشعب الإيراني، وقدرته على العطاء والتضحية إذا قُدّم له مشروع صادق يوافق فطرته الإيمانية.
كما يسّر الله له مجموعة من العلماء والمفكرين الصادقين، الواعين، المؤمنين. هذا الإيمان، وهذه الدراية التاريخية والسياسية والاجتماعية والنفسية، وتلك الثقة والمحبة المتبادلة بينه وبين الجماهير، كل ذلك جعل الإمام عصيًّا على الانكسار أو الهزيمة.
وقد أثبتت الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بعد حوالي نصف قرن من الحصار الظالم، أنها قادرة على تجاوز مفاعيل الحصار، وعلى المضي قدمًا في تطوير ذاتها. واستطاعت أن تقدم نموذجًا سياسيًا يكاد يكون فريدًا في العالم، من حيث الالتزام الأخلاقي والقيمي، والبراعة في إتقان اللعبة السياسية من أجل حفظ الحقوق.
/انتهى/
تعليقك