١٤‏/١٢‏/٢٠٢٥، ١٠:٥٧ ص

عندما يتحول البرد سلاحا، سردية السياسة، الجسد وانهيار الضمير العالمي

عندما يتحول البرد سلاحا، سردية السياسة، الجسد وانهيار الضمير العالمي

البرد بطبيعته محايد، المطر والبرد وليالي الشتاء الطويلة ظواهر طبيعية. لكن في غزة، لم يعد البرد مجرد حالة جوية، بل أصبح أداة.

وكالة مهر للأنباء: شاهدتُ مقطع فيديو يُظهر المطر والبرد ينهلان بلا رحمة على خيام قطاع غزة، لا بهدوء ولا منقذ، بل كما لو أن الطبيعة انضمت إلى الحصار. رأيتُ آباءً يعانقون أطفالهم لا بدافع الحب الخالص، بل بدافع غريزة البقاء؛ عناقٌ حطّم آخر جدار بين الأجساد الصغيرة في هذا العالم. رأيتُ شبابًا يذرفون الدموع، لا فرحًا بالمطر، بل رعبًا من انهيار المأوى الوحيد الذي كان يفصلهم عن التشرد المطلق. في ذلك المشهد، لم يعد المطر استعارةً للحياة، بل أصبح علامةً على قلقٍ مزمن، على نفسٍ منهكةٍ من ضغط انعدام الأمن الدائم. عندما يكون السقف مؤقتًا والأرض هشة، يفقد العقل القدرة على إضفاء معنى على الغد. هنا، لا يكون الخوف رد فعل عابرًا؛ بل يتغلغل في بنية النفس ويُبقي الإنسان في حالةٍ يكون فيها كل صوت، كل قطرة، كل نسمة هواء بدايةً للانهيار. ما يُرى ليس مجرد خيامٍ تتبلل؛ العُري حقيقةٌ واقعة: عندما يُحرم الإنسان من حقه في "البقاء آمنًا"، يتجاوز الألم سطح الجسد ليصبح قضيةً فلسفية واجتماعية وسياسية عميقة. أدركتُ أن القضية ليست مجرد أطفالٍ يتبللون أو أجسادٍ ترتجف. القضية هي أنه عندما يُحرم الإنسان من أبسط إمكانيةٍ للبقاء دافئًا، فإنه يهوي من مستوى الحياة إلى مستوى البقاء؛ حيث ينهار الأمن النفسي، تُهدم كرامة الإنسان، ويصبح المستقبل، من أفقٍ يُمكن تصوره، تهديدًا غامضًا.

الأب الواقف تحت المطر، يُعانق أطفاله المبتلين ويصرخ: "يا أمة العرب، أنقذونا!"، لا يطلب المساعدة فحسب؛ إنه يُعلن انهيار النظام الأخلاقي العالمي.

الشاب الذي يصرخ تحت وابل البرد: "إننا نُدمَّر"، لا يخشى الموت؛ بل يخشى الإبادة، أن يُصبح غير مرئي، أن يُصبح مجرد رقم على هامش الأخبار.

الخيمة؛ الإزالة المنهجية للوطن، والإبادة التدريجية للإنسان

الخيمة ليست مجرد مأوى مؤقت. في علم النفس، "الوطن" هو مكانٌ يُعيد فيه العقل بناء نفسه؛ نقطة عودة من حالة الطوارئ. عندما يُزال الوطن، يُصبح الجسد والعقل في حالة تأهب دائم.

في غزة، لا يأتي الليل للنوم؛ بل يأتي ليُنهي كل شيء

الطفل الذي يستيقظ كل ليلة على صوت الرياح والمطر واهتزاز الخيمة ليس مُنزعجًا بشكل مؤقت فحسب؛ بل يتعلم جهازه العصبي أن العالم غير آمن، وأن الاستقرار غير موجود، وأن المستقبل مفهوم هش.

هنا تحديدًا تتسلل السياسة إلى الجسد

لم تعد السلطة مجرد قرار على مستوى الحكومات؛ إنها تتغلغل في تجارب الناس وتستهدف نفوسهم.

سياسات المعاناة: حين تكون الطبيعة تحت الحصار

هذه المعاناة ليست وليدة الصدفة. فعندما يُفرض الحصار، وعندما يُمنع دخول الوقود والبطانيات والأدوية والكهرباء، وحتى البلاستيك لتغطية الخيام، لا يعود البرد ظاهرة طبيعية، بل يصبح جزءًا من بنية القمع.

هنا، لا تُخاض الحرب بالقنابل فحسب

بل تُخاض بالمطر

بالبرد

بالليالي الطويلة والأجساد التي لا تجد وقتًا للتدفئة

والسؤال حتميٌّ ومؤلم:

ما دور طفلٍ مصابٍ بحمى البرد في الحرب؟

ما معادلة الأمن التي تُهدد مولودًا جديدًا يُصاب بعدوى في خيمة رطبة؟

إذا كانت العدالة مفهومًا عالميًا، فلماذا تتوقف تحديدًا أمام الأجساد المرتجفة؟

التآكل النفسي؛ حربٌ خفية

لا تواجه غزة تدمير البنية التحتية فحسب، بل تواجه تآكلًا نفسيًا جماعيًا

عندما يصبح الألم مزمنًا، لا يتلاشى الأمل فجأة، بل يتلاشى تدريجيًا

هذه هي النقطة التي تستهدف فيها الحرب المستقبل

طفلٌ يرتجف من البرد اليوم سيكبر غدًا حاملًا ذكرى انعدام الأمن

مجتمعٌ ينجو اليوم تحت المطر سيعيش مع تبعاته النفسية لسنواتٍ قادمة

لم يعد الأمر مسألة تعاطف؛

بل مسألة مسؤولية.

الصمت؛ شكل متطور من أشكال العنف

لا يعاني العالم اليوم من نقص في المعلومات، بل من غياب الضمير الحي.

الجميع يعلم ما يحدث في غزة.

لكن المعرفة، حين لا تتحول إلى مسؤولية، تنتهي إلى تبلد أخلاقي.

في مثل هذه اللحظة، ليس الصمت حيادًا؛

بل هو شكل متطور من أشكال العنف

حين يشتدّ البرد ويراقب العالم

حين يرتجف الأطفال وتُختار سياسة "التوازن"

لا يغيب العدل، بل يُعلّق

البغض والكراهية؛ حيث لا يتوقف التحليل

لم تكن كراهيتي لمشاهدة ذلك الفيديو مقتصرة على أب أو شاب.

بل لأنني أدركت أن الإنسان قد يصبح وحيدًا لدرجة أنه يطلب العون من الدول، لا من الحكومات.

عاجزةٌ لدرجة أن خطابها ليس موجهاً إلى المنظمات الدولية، ولا إلى وسائل الإعلام، بل إلى ضمائر تبدو وكأنها ضائعة في مكان ما.

غزة اليوم ليست مجرد جغرافيا.

غزة اختبار نفسي وأخلاقي للعالم المعاصر.

والبرد ليس مجرد درجة حرارة، بل هو مؤشر لقياس الإنسانية.

النهاية؛ عندما يتذكر التاريخ البرد.

التاريخ لا يسجل عدد القتلى فحسب.

الذاكرة الجماعية تتذكر من ارتجف تحت المطر.

ومن شاهدوا من غرف دافئة.

يزول البرد.

لكن السؤال يبقى:

عندما ارتجف أطفال غزة تحت البرد،

أين كان العدل؟

لن يجيب الزمن على هذا السؤال.

ولا النسيان.

/انتهى/

رمز الخبر 1966127

سمات

تعليقك

You are replying to: .
  • captcha