وكالة مهر للأنباء- نبدأ حديثنا مع بداية دخول الطب النووي إلى البلاد، حين لم يكن إنتاج الأدوية والعلاج بهذه التقنية الخاصة موجودا في البلاد على الإطلاق، وربما لم يتصوّر أحدٌ دخول هذه الصناعة إلى بلادنا يومًا ما.
قبل انتصار الثورة الاسلامية في إيران، لم تتجه سوى دول قليلة في العالم نحو استخدام هذه التقنية، وكان على كل مواطنٍ من مواطنينا المحتاجين لهذه الطريقة العلاجية أن يحزم حقائبه ويسافر إلى الخارج لتلقي العلاج بتكاليف باهظة.
ربما لم يكن أحد ليتخيل آنذاك أننا سنعلن بفخر أن إيران قد حققت الاكتفاء الذاتي في إنتاج الأدوية المشعة، وأنها من بين الدول القليلة في العالم التي تمتلك هذه الصناعة، رغم العقوبات القاسية!
دعونا لا ننسى أنه في عام ٢٠١٨، فُرضت عقوبات خفية على شركة بارس للنظائر المشعة، أكبر مورد للأدوية المشعة في إيران، والتي يعتمد عليها ١٨٠ مركزًا للطب النووي في البلاد. في الوقت نفسه، حذّرت الجمعية العلمية للطب النووي في البلاد على الفور في بيان من أن هذا العمل اللاإنساني سيؤدي إلى توقف الأنشطة التشخيصية والعلاجية المتعلقة بالأدوية المشعة في أكثر من ١٨٠ مركزًا للطب النووي في البلاد، والتي تقدم خدمات صحية لأكثر من مليون مريض سنويًا. حدث ذلك في الوقت الذي أكد فيه بيان العقوبات على إعفاء المنتجات الصيدلانية والزراعية منها.
ربما كان هذا الخبر وهذا العمل اللاإنساني كافيين لدفع الباحثين الإيرانيين إلى الاكتفاء الذاتي في هذه الصناعة، بحيث لا نحتاج اليوم إلى استيراد هذه المنتجات، بل نُعرف كمصدرين لها. هذه الكلمات كانت جزء من الحوار الذي أجريناه مع الدكتور محسن ساغري، الأستاذ في جامعة طهران للعلوم الطبية والرئيس السابق للجمعية العلمية للطب النووي الإيراني، وهو أستاذ كرّس سنوات طويلة من حياته للنهوض بهذا المجال. يمكنكم قراءة تفاصيل هذا الحوار أدناه:
ما هي مكانة إيران في مجال الطاقة النووية؟
ساغري: يُعد الطب النووي أحد الفروع الطبية المتخصصة والمتقدمة، ويُعرف بأنه مثال واضح على الاستخدام السلمي للطاقة النووية. يعتمد هذا المجال على أساسين مهمين: "المستحضرات الصيدلانية الإشعاعية" و"المعدات المتخصصة"، وهما عنصران يُعطّل غيابهما عمل هذا المجال.
على مدى نصف القرن الماضي، شهد الطب النووي في إيران تطورات كبيرة، وحقق مكانة مرموقة بين العلوم الطبية. تُعرّف وظيفة هذا المجال بشكل رئيسي بشقين: "التشخيص" و"العلاج". ولا تقتصر أساليبه التشخيصية على كونها مُكمّلة للأدوات الطبية الأخرى فحسب، بل تتميز في بعض الحالات بقدرات فريدة في التشخيص والعلاج.
قبل انتصار الثورة الإسلامية، كانت إيران تفتقر إلى كوادر متخصصة في مجال الطب النووي. ومع ذلك، في عام ۱۹۸۱، تأسس القسم التعليمي لهذا المجال في جامعة طهران للعلوم الطبية. ومنذ عام ١٩٨٣، بدأ قبول مساعدي الأطباء المتخصصين في الطب النووي، وبدأ التدريب على مستوى الدبلوم والبكالوريوس تدريجيًا.
على الرغم من التحديات الكبيرة، كالحرب المفروضة والعقوبات الشاملة، واصل هذا المجال مسيرته التنموية بدعم من منظمة الطاقة الذرية والإنتاج المحلي للأدوية المشعة. وقد أسفرت هذه الجهود عن تدريب أكثر من ٣٠٠ طبيب متخصص ومئات المساعدين والخبراء في جميع أنحاء البلاد.
ما مدى تطور مراكز الطب النووي في البلاد؟
ساغري: يوجد اليوم أكثر من ۲۰۰ مركز للطب النووي في إيران، يقدمون خدمات تشخيصية وعلاجية لمئات المرضى يوميًا. تحتل إيران المرتبة الأولى في منطقة غرب آسيا من حيث عدد المراكز والمتخصصين النشطين في هذا المجال.
في السنوات الأخيرة، وبفضل القدرات المحلية وجهود متخصصي منظمة الطاقة الذرية، تحقق تطور ملحوظ في إنتاج أطقم التشخيص والأدوية العلاجية الإشعاعية. وقد لعب هذا الإنجاز المهم دورًا هامًا، لا سيما في مجال تشخيص وعلاج السرطان.
حتى الآن، تم إنتاج ما يقرب من ۳۰ نوعًا من أطقم التشخيص في البلاد، والتي تُستخدم في المراكز الطبية لإجراء فحوصات طبية أكثر دقة. بالإضافة إلى ذلك، أدى تطوير أدوية علاجية إشعاعية جديدة إلى تحسين مسار العلاج بشكل ملحوظ لبعض المرضى.
تحققت نجاحات إيران في مجال الطب النووي في ظل ظروف أدت فيها العقوبات والعقبات الدولية إلى إغلاق العديد من طرق توريد المعدات والأدوية المستوردة. ومع ذلك، أصبحت إيران الآن من أبرز الدول في هذا المجال بالمنطقة، لا سيما في إنتاج الأدوية النووية، وتدريب الكوادر الطبية، وإنشاء البنية التحتية الطبية.
ما مدى فعالية الأدوية الإشعاعية المحلية في الحد من الإصابة بالسرطان؟
ساغري: أحدث استخدام الأدوية الإشعاعية المحلية المنتجة محليًا نقلة نوعية في علاج السرطان في البلاد. فبينما تُكلف العلاجات المماثلة في الدول المتقدمة، كالولايات المتحدة وأوروبا، آلاف الدولارات لمريض واحد، تُقدم هذه الخدمات في إيران لمراكز الطب النووي والمرضى بتكلفة أقل بكثير.
من أهم التقنيات التي توشك على دخول مجال العلاج السريري في البلاد العلاج بإشعاعات ألفا باستخدام النويدات المشعة مثل الراديوم-۲۲۳ والأكتينيوم-۲۲۵. تُعتبر هذه الطريقة من أكثر طرق علاج السرطان تقدمًا في العالم، وقد يُمثل تطبيقها في إيران نقطة تحول في تحديث علاجات السرطان.
على الرغم من القيود التي فرضتها العقوبات، تمكنت إيران من توفير أكثر من ۹۰% من خدمات الطب النووي التشخيصي والعلاجي المُقدمة في المراكز العالمية المتقدمة داخل البلاد. وقد وضع هذا المستوى من الوصول إيران في مكانة متميزة بين دول المنطقة وحتى خارجها.
ما مدى تأثير التخصيب والطاقة النووية في تطوير الطب النووي؟
ساغري: يُعد التقدم العلمي والتقني في مجال تخصيب اليورانيوم واستخدام الطاقة النووية السلمية بنى تحتية حيوية لازدهار الطب النووي في البلاد. ويعود الفضل في اكتساب التقنيات المحلية، وإنتاج المستحضرات الصيدلانية المشعة، وتطوير علاجات جديدة للسرطان، إلى الاستثمارات العلمية في هذا المجال.
لقد نجحت إيران اليوم في مواكبة المعايير العالمية في مجال الطب النووي، ليس فقط من حيث الكم، بل أيضًا من حيث جودة الخدمات. وقد أبقى استمرار هذا التوجه آمالًا كبيرة على تحسين الخدمات الصحية في البلاد وتقليل الاعتماد على استيراد المعدات والأدوية باهظة الثمن.
كم عدد نماذج المستحضرات الصيدلانية الإشعاعية الموجودة في البلاد؟
ساغري: لقد احتلت إيران مكانتها في سلسلة إنتاج وتصدير المستحضرات الصيدلانية الإشعاعية الاستراتيجية. يستفيد أكثر من مليون مريض من خدمات الطب النووي سنويًا؛ ويلعب الطب النووي، باعتباره أحد أهم التطبيقات السلمية للطاقة النووية، دورًا رئيسيًا في تشخيص الأمراض وعلاجها. وفي هذا المجال، تُعدّ المستحضرات الصيدلانية الإشعاعية ركيزة أساسية للخدمات؛ وغيابها سيجعل تخصص الطب النووي غير قابل للتطبيق عمليًا.
من بين المستحضرات الصيدلانية الإشعاعية التشخيصية، يحتل التكنيشيوم-۹۹م مكانة خاصة. ويُستخدم هذا النويد المشع واسع الانتشار في تصنيع معظم أطقم التشخيص المستخدمة في الطب النووي. ويُدمج التكنيشيوم مع أطقم مختلفة، مما يُتيح تصوير مختلف أعضاء الجسم. عالميًا، يُعتبر هذا العنصر سلعة طبية استراتيجية.
يُعد اليود-۱۳۱ من المواد الصيدلانية الإشعاعية الشائعة الاستخدام في إيران. يُستخدم هذا الدواء منذ أكثر من نصف قرن لعلاج سرطان الغدة الدرقية، بالإضافة إلى أمراض حميدة مثل فرط نشاط الغدة الدرقية. وقد ساهمت العلاجات القائمة على اليود-۱۳۱، والتي يسهل الحصول عليها داخل البلاد، في خفض تكلفة علاج المرضى بشكل كبير.
يُعد FDG (فلوروديوكسي جلوكوز) أيضًا مادة صيدلانية إشعاعية تُعرف باسم "مفتاح الالتواء" في مجال الطب النووي نظرًا لقدرته العالية على تشخيص مجموعة واسعة من الأمراض. وقد مكّن الاستخدام الواسع لهذا الدواء في التصوير المتقدم من التشخيص المبكر للعديد من أنواع السرطان والأمراض الأيضية.
حدثنا عن تصدير المواد الصيدلانية الإشعاعية الجديدة؟
ساغري: في السنوات الأخيرة، أحدثت إيران نقلة نوعية في علاج الأمراض المستعصية، وخاصة السرطان، من خلال إنتاج مواد صيدلانية إشعاعية جديدة. لا تُستخدم هذه الأدوية في أكثر من ۲۰۰ مركز نشط للطب النووي في البلاد فحسب، بل تُصدّر أيضًا إلى حوالي ۴۰ دولة حول العالم.
بالإضافة إلى دور إيران في سلسلة توريد الأدوية الإشعاعية العالمية، يُسهم هذا التصدير أيضًا في جلب قدر كبير من العملات الأجنبية والمصداقية العلمية للبلاد.
كم عدد المرضى الذين يستخدمون هذه التقنية سنويًا؟
ساغري: وفقًا للإحصاءات، يزور أكثر من مليون مريض إيراني مراكز متخصصة سنويًا لتلقي خدمات الطب النووي التشخيصي والعلاجي. ويشير هذا الرقم إلى التأثير المباشر لهذا المجال على تحسين الصحة العامة للمجتمع، وضرورة استمرار الإنتاج المحلي للأدوية الإشعاعية.
لقد تحققت جميع هذه الإنجازات بفضل تخصيب اليورانيوم وتطوير التكنولوجيا النووية السلمية. وكما تُعدّ المعدات المتطورة والأدوية الإشعاعية الركيزتين الرئيسيتين للطب النووي، فإن استمرار هذا المسار يعتمد أيضًا على الحفاظ على البنية التحتية القائمة على المعرفة والقدرات التكنولوجية في مجال الطاقة النووية.
إذا توقفت الأنشطة النووية السلمية في البلاد، فسيُحرم ملايين الإيرانيين من الخدمات الصحية الحيوية. لهذا السبب، فإن حماية وتعزيز قدرات الطب النووي ليس ضرورة علمية فحسب، بل أولوية وطنية أيضًا.
إلى أي مدى أثرت العقوبات في تحقيق الاكتفاء الذاتي للبلاد؟
ساغري: قبل تسعينيات القرن الماضي، كان جزء كبير من المستحضرات الصيدلانية الإشعاعية اللازمة للطب النووي يُستورد من دول أجنبية. ومع ذلك، فإن بدء الإنتاج المحلي للمستحضرات الصيدلانية الإشعاعية، وخاصةً مع إنتاج منظمة الطاقة الذرية للتكنيتيوم-۹۹م، كان نقطة تحول في طريق استقلال هذا المجال الحيوي.
في البداية، كان يُعتقد أن الإنتاج المحلي للمستحضرات الصيدلانية الإشعاعية غير مجدٍ اقتصاديًا، ولكن مع تشديد العقوبات، اتضح أنه لو لم تُطلق هذه المبادرة محليًا، لكان تخصص الطب النووي قد أُغلق تمامًا.
ويؤكد أن هذه المبادرة المهمة نُفذت بالتعاون مع منظمة الطاقة الذرية الإيرانية ومعهد أبحاث الطب النووي التابع لجامعة طهران للعلوم الطبية؛ وهي مؤسسة لعبت دورًا محوريًا في تطوير واستقرار سلسلة إنتاج المستحضرات الصيدلانية الإشعاعية.
من أهم تطبيقات تقنية التخصيب النووي في إيران توفير المواد الخام اللازمة للاستخدامات الطبية النووية. كما تلعب هذه التقنية دورًا هامًا في قطاعي الزراعة والصناعة، وهما قطاعان يشهدان تحسينًا في العمليات وزيادة في الإنتاجية باستخدام النظائر المشعة.
من أهم تطبيقات تقنية التخصيب النووي في إيران توفير المواد الخام للطب النووي. كما تلعب هذه التقنية دورًا هامًا في قطاعي الزراعة والصناعة، وهما قطاعان يشهدان تحسينًا في العمليات وزيادة في الإنتاجية باستخدام النظائر المشعة.
ما هو دور إيران في السوق العالمية؟
ساغري: تتوفر لدى الشركات المتخصصة، بما في ذلك شركة بارس للنظائر المشعة التابعة لمنظمة الطاقة الذرية، معلومات دقيقة عن عدد الدول التي تستورد هذه المنتجات حاليًا، ولكن استنادًا إلى المعلومات المتاحة، تشهد صادرات هذه الأدوية زيادة مستمرة في السنوات الأخيرة، وترغب العديد من الدول في استيراد هذه المنتجات الإيرانية. بالإضافة إلى تلبية الاحتياجات المحلية، أدى هذا التوجه أيضًا إلى زيادة إيرادات النقد الأجنبي وتعزيز مكانة إيران في سلسلة الأدوية الإشعاعية العالمية.
من المزايا الاستراتيجية للإنتاج المحلي للأدوية الإشعاعية في إيران انخفاض كبير في تكاليف علاج مرضى السرطان. على سبيل المثال، تُباع أدوية مثل اللوتيتيوم-۱۷۷ والسترونشيوم والساماريوم، المستخدمة لعلاج أنواع من السرطان كسرطان البروستاتا أو أمراض العظام النقيلية، بآلاف الدولارات في الأسواق العالمية؛ أما في إيران، فتُقدم نفس الخدمات للمرضى بتكلفة أقل بكثير؛ وهي ميزة ناتجة عن الإنتاج المحلي للأدوية المشعة ودعم منظمة الطاقة الذرية.
/انتهى/
تعليقك