وكالة مهر للأنباء، المجموعة الدولية: في خضمّ التعقيدات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، حيث يُختبر محور المقاومة في مواجهة الضغوط الخارجية والداخلية، تُعد زيارة السيد عمار الحكيم، زعيم تيار الحكمة الوطني العراقي، إلى إيران (أول مسؤول عراقي يزور إيران بعد حرب الأيام الاثني عشر) أكثر من مجرد زيارة دبلوماسية، بل هي جزء من استراتيجية كبرى للحفاظ على التوازن والاستقرار الإقليميين. هذه الزيارة، التي جاءت في أعقاب "حرب الاثني عشر يومًا" بين إيران والكيان الصهيوني، لا تُمثّل رمزًا للعلاقات الأخوية العميقة بين بغداد وطهران فحسب، بل تُمثّل أيضًا خطوةً استراتيجيةً في إطار مفهوم "الوحدة الدفاعية". مفهومٌ يُصبح فيه التماسك الداخلي للشيعة، باعتبارهم العمود الفقري لمحور المقاومة، أداةً لإعادة بناء الاستقرار الإقليمي وتعزيزه في مواجهة مؤامرات الولايات المتحدة وإسرائيل. وفي هذه الاستراتيجية الكبرى، يبرز دور شخصياتٍ مثل الحكيم، الذي يُرسّخ، بنهجٍ معتدلٍ ووطني، جسرًا بين الأجيال السياسية والنخب الوطنية. يُظهر هذا النهج كيف يُمكن لنهجٍ متوازنٍ أن يُحوّل الاختلافات إلى تآزر، ويُنقذ البيت الشيعي العراقي من التشرذم.
من حرب الاثني عشر يومًا إلى التهديدات الجديدة للعراق
لفهم عمق هذه الزيارة، لا بدّ من النظر إلى إطارٍ استراتيجيٍّ أوسع. لم تستهدف حرب الاثني عشر يومًا إيران فحسب، بل طالت صدمتها العراق أيضًا. تشير التقارير الإعلامية، بالإضافة إلى ردود فعل النشطاء السياسيين في المنطقة، إلى أن إسرائيل اختارت العراق "جبهةً قادمةً" بعد هذه الحرب. وتُعدّ الانتهاكات المتكررة للمجال الجوي العراقي من قِبل الطائرات الحربية الإسرائيلية، والتهديدات المباشرة ضد قواعد الحشد الشعبي، وحتى الهجمات المتقطعة على مواقع مرتبطة بمحور المقاومة، جزءًا من مشروع أوسع لتقويض استقرار بغداد.
في غضون ذلك، لا يواجه العراق تهديدات خارجية فحسب، بل يُواجه أيضًا خطر الانقسام الداخلي عشية الانتخابات البرلمانية التي أصبحت، وفقًا لمؤسسة بروكينغز، فرصةً للتدخل الأمريكي. إن مبدأ "فرّق تسد" التقليدي، من خلال تمويل الحملات الإعلامية وتأجيج الانقسامات الطائفية بين الشيعة والسنة والأكراد، يحول دون تشكيل حكومة مركزية قوية. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك احتجاجات عام 2019 التي أدت إلى استقالة حكومة عادل عبد المهدي، حيث لعبت السفارة الأمريكية في بغداد دورًا محوريًا في توجيه الاضطرابات. في ظل هذا الوضع الحساس، لا يُعد العراق جارًا غربيًا لإيران فحسب، بل يُعد أيضًا جزءًا لا يتجزأ من محور المقاومة. تُعدّ تهديدات إسرائيل للعراق، بما في ذلك تحذيرات وزير الحرب الإسرائيلي من شنّ عمل عسكري ضد "أهداف النظام" في المنطقة الكردية، بمثابة جرس إنذار لبغداد. للتطورات الإقليمية من سوريا ولبنان إلى فلسطين واليمن تأثير مباشر على العراق. في هذا السياق، تكتسب زيارة الحكيم لإيران، وهي أول زيارة لمسؤول عراقي منذ حرب الأيام الاثني عشر، أهمية مضاعفة.
نظرية الهوية الجماعية
تُظهر زيارة الحكيم لإيران في منطقة تشهد توترًا إقليميًا متصاعدًا عمق علاقاته بالسياسيين الإيرانيين. لدى وصوله، توجه الحكيم إلى ضريح الإمام الخميني (رض) لتقديم واجب العزاء؛ وهي لفتة رمزية تُذكّر بالروابط الأيديولوجية وتُظهر للشيعة العراقيين أن الوحدة مع مبادئ الثورة الإسلامية هي مفتاح النجاة في مواجهة الصهيونية. في لقاءٍ مع السيد حسن الخميني، متولي حرم الإمام الخميني، وصف الحكيم إيران بأنها "في طليعة نضال العالم الإسلامي ضد الكيان الصهيوني"، مضيفًا أن المسلمين الشيعة والسنة دعموا إيران في حرب الاثني عشر يومًا بدافع الكراهية لجرائم إسرائيل. وأكد أن طهران، بعد أن تعافت من الصدمة الأولية للهجوم، ألحقت الهزيمة بالعدو بضربة صاروخية على نظام الدفاع الإسرائيلي؛ والآن، تسعى إسرائيل إلى خلق فوضى داخلية في إيران، لكن دول المنطقة أدركت أن إضعاف إيران يضر بالمنطقة بأسرها. يمكن لهذه الرؤية، المستندة إلى نظرية الهوية الجماعية، أن تحشد الدعم العربي للضغط الدبلوماسي على إسرائيل. من منظور استراتيجي، حوّل نهج الحكيم المعتدل تيار الحكمة إلى قوة توحيد داخل المجتمع الشيعي. إن تأسيس تيار الحكمة عام ٢٠١٧، الذي ركز على الوحدة الشيعية السنية، ومحاربة الفساد، وتعزيز الديمقراطية، جعل الحكيم أحد أهم ركائز التغيير الهيكلي في العراق. وقد عزز دوره في تشكيل حكومة محمد شياع السوداني عام ٢٠٢٢، والتوسط بين الفصائل، مكانته كـ"صوت الاعتدال الشيعي".

الانتخابات العراقية
أصبحت الانتخابات العراقية ساحةً لاستغلال بعض الجهات الخارجية، مثل الولايات المتحدة. فواشنطن تُشكل ميزان القوى لصالحها من خلال الدبلوماسية والاستخبارات والاحتجاجات الشعبية. وتستغل السفارة الأمريكية في بغداد الانقسامات الداخلية لتحقيق أهدافها. وتأتي زيارة الحكيم استجابةً لهذه الجهود. ومن خلال تجربة أحداث عام ٢٠١٩ وإسقاط حكومة عبد المهدي، أثبت الحكيم أن العراق قادر على الصمود في وجه التدخلات الخارجية بالاعتماد على جيرانه، وخاصة إيران. تركز مشاوراته في طهران على دفع عجلة القرارات المناهضة لإسرائيل في منظمة التعاون الإسلامي، وتطبيق الاتفاقيات الأمنية، ويمكن أن تُسهم في بناء درع دفاعي مشترك ضد إسرائيل. تُعزز الزيارة الروابط الأيديولوجية من خلال تكريم الإمام الخميني (رض) والتأكيد على التضامن الشيعي السني.
خاتمة
إن زيارة السيد عمار الحكيم لإيران في خضمّ عواصف سياسية وتهديدات إسرائيلية للعراق ليست زيارةً عابرة، بل هي زيارة رمزية واستراتيجية. هذه المبادرة، التي تدفع البيت الشيعي نحو تقارب مبدئي، لا ترمز فقط إلى تضامن إيران والعراق، بل تُحيّد أيضًا المشاريع الأمريكية الصهيونية. عشية الانتخابات، على العراقيين إدراك التهديدات المُقبلة وتحويلها إلى فرصة لتشكيل حكومة قوية ومستقلة، لا أداةً للتقسيم. هذا النهج لن يضمن التماسك الداخلي فحسب، بل سيُبرز أيضًا نفوذ العراق الإقليمي.
"محمد رضا مرادي، رئيس التحرير للقسم الدولي لوكالة مهر للأنباء"
/انتهى/
تعليقك